الستر.. الحلم الذي قتله العشم!

والعلاقة بين العشم وخيبة الأمل علاقة طردية، فكلما زاد العشم؛ كانت الخيبة أكبر وأكثر ألمًا. الآمال الصغيرة لا تؤذي حاملها حين تنهار.

لولا العشم لعاش الناس كلهم سعداء؛ والعشم هو الطمع المغلف بالمحبة وحسن الظن، أو شيء من هذا القبيل. والعشم هو الخطوة الأولى والأهم في خطوات صناعة خيبة الأمل، فلو قلنا إن الخيبة تفاعل كيميائي يحدث في مجموعة الروابط بين عناصر مختلفة، فتتفكك بعض الروابط وتتشكل أخرى، فإن العشم هو العامل المحفز الذي لا يمكن أن ينجح التفاعل دون وجوده.

والعلاقة بين العشم وخيبة الأمل علاقة طردية، فكلما زاد العشم؛ كانت الخيبة أكبر وأكثر ألمًا. الآمال الصغيرة لا تؤذي حاملها حين تنهار.

في كأس العالم، التي ما زالت تجري مبارياتها الآن، كانت آمالنا وأمنياتنا -المتعلقة بكرة القدم طبعًا- تدور في فلك «الستر»، لم نكن نرغب في أكثر من أن نخرج من كأس العالم دون أن نصبح مادة للسخرية لبقية أمم الأرض. وحدث ما هو أكثر من ذلك وكنا محل إشادة وإعجاب؛ لكن العشم أفسد هذه الغاية. فبعد المباراة الأولى كان جرعة الأمل كافية أن تجعل تحقق حلمنا الذي حلمناه في البداية خيبة أمل كبيرة.

وعلى المستوى الشخصي لم تكن أحلامي متعلقة بالمستويات الفنية، ولا بطرائق اللعب ولا بالانتصارات، كانت أحلامي بسيطة وصغيرة. كنت أحلم مثلًا أن تنتهي مشاركتنا في كأس العالم دون أن أكون مضطرًا إلى سماع آراء المحللين والإعلاميين الرياضيين السعوديين، التي تتكرر كل أربع سنوات. كان لدي حلم صغير بأني لن أسمع هذه المرة حديثًا عن التطوير والاحتراف وسقف الرواتب، وبقية تلك الأسطوانة التي لا يطرب لها أحد.

ولعلي أقترح على مسيري القنوات التلفزيونية، من باب توفير النفقات، أن يعاد بث البرامج التي أذيعت بعد كأس العالم الماضية، لأن استضافة الأشخاص نفسهم لكي يقولوا الكلام نفسه هدر غير مبرر للأموال.

وعند الحديث عن الخيبات والأحزان في عالم كرة القدم قد يكون من المهم معرفة أن هذا أمر يتعلق بالجمهور في الغالب، اللاعبون لا يحزنون بالقدر ذاته. يلجأ الناس العاديون إلى كرة القدم هربًـا من أحزانهم الحقيقية التي تلتصق بأرواحهم، تلك الأحزان التي لا تساوي كرة القدم بعالمها ولاعبيها وانتصاراتها وهزائمها وأموالها شيئًا أمامها، يبحثون عن فرحة جميلة، مع أنهم يعلمون أنها أقل من ثمن رغيف. أما اللاعبون فالأمر بالنسبة لهم مختلف قليلًا.

Giphy 15
صدمة الخسارة / Funk

بعد الخسائر الكروية فإن المشجع هو الذي يحتاج إلى الاحتواء والتعاطف وليس اللاعب، ومن حق هذا المشجع أن يعبر عن مشاعرة وأن يسخر وأن يتهكم، وأن يهرب من حزنه الصغير وخيبة أمله وضياع الفرحة الصغيرة التي كان يبحث عنها ويهرب إليها. ولذلك تبدو المعادلة مقلوبة حين نطالب المشجع بأن يحتوي اللاعب بعد الخسارة ويدعمه ويربت على قدميه التي ضلت الطريق إلى المرمى. بل إن المشجع السعودي خاصة كان «النجم» الأبرز في هذه البطولة، واستطاع تمثيل بلده بشكل أفضل وأجمل وأكثر إبهارًا مما فعله اللاعبون.

وليس الاستياء والنقد وحتى الانفعال من نواقض المحبة، بل هي أمور تحدث حتى من الأب تجاه أبنائه، وهي أقوى رابطة محبة بين الكائنات البشرية، ولذلك يكون الحديث عن الوطنية ومحبة الوطن -وبقية الأسطوانة التي تعرفونها- في غاية الحمق والسخف حين يكون المعني بها شخصًا عبّر عن الاستياء من لاعب أو مستوى فريق كرة قدم حصل على المركز الأخير.

وارتداء عباءة حب الوطن، لا يخفي حقيقة أن كثيرًا ممن يمتدحون المنتخب ويتحدثون عن إنجازه العظيم في احتلال المركز الأخير، يفعل ذلك دفاعًا عن ناديه، وكثير ممن ينتقده وهو يفوز أو قبل أن تبدأ المباريات يفعل ذلك للسبب ذاته. وسيكون إنجازًا أعظم من الفوز بكأس العالم لو أخرجت هاتان الطائفتان الحمقاوان الوطن من صراعاتهما.

الجميل في الأمر أنها أمور وقتية، سيبدأ الدوري قريبًا وننسى أنه كان هناك كأس عالم أصلًا، ونمارس ما اعتدنا عليه من بذل جهد في الصراخ خارج الملعب أكثر من الذي يبذله اللاعبون في الملعب.

ولعل كثرة الحديث الآن عن كرة القدم سببه أن كأس العالم موسم، والكلام أحد السلع الرائجة فيه. ولكن كل هذا في إطار اليقين بأن إعطاء الأشياء أكبر من حجمها داء لا دواء له، فالعالم الذي لا يتوقف حتى حين يرحل أحبتنا عن الدنيا ويكفّون عن الوجود، لن يتوقف لأن فريقًا في كرة القدم أخفق في ركل الكرة في الاتجاه الصحيح.

ولذلك فإني أستحسن فكرة إنشاء جمعية ترعاها الأمم المتحدة لمكافحة «الدراما» المصاحبة للألعاب الرياضية، وتصوير الانتصارات فيها على أنها سحق للأعداء والمتربصين بالأوطان، والخسائر فيها على أنها نهاية العالم. وسيكون من أهم أهداف هذه الجمعية المزمع إنشاؤها إعادة التيار إلى عقول الذين يخرجون المسابقات الرياضية من دائرة الترفيه والاستمتاع إلى دوائر أخرى تتعلق بالموت والحياة.

سأحاول بمساعدة الزملاء في هذه الجمعية إقناع المشجع أن النادي الذي يشجعه ليس أمه أو خالته، وأن الحديث عنه ليس حديثًا عن حياته الخاصة، وليس تدخلًا سافرًا في شؤونه التي لا يجب أن يمسها إلا المقربون والنخبة المصطفاة من الذين يثق بهم.

المنتخبكأس العالمكرة القدمالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!