إنها كرة القدم يا منيرة!
ستنتهي هذه البطولة، وأتمنى أن يكون للسعوديين وللعرب نصيبٌ وافر من الفرح، فزنا مرة وخسرنا أخرى، ومن المؤكد أننا لن نفوز بالكأس.
في هذه الأيام تعد محاولة الكتابة عن أي فكرة لا علاقة لها بكرة القدم ولا بكأس العالم، أشبه بفكرة الغناء في الحمام؛ أي أنك ستزعج نفسك فقط، ولن يسمعك أحد، ولن يتعدى إزعاجك محيط الدائرة القريبة جدًّا من المكان الذي تستحم فيه. وفكرة الكتابة عمومًا –بالنسبة لي على الأقل– قائمة على إزعاج أكبر قدر ممكن من الكائنات البشرية.
ومع أني من قدامى مشجعي كرة القدم فإنّي لم أتخيل ذلك التأثير الذي قد يفعله انتصار فريق كرة القدم على فريق آخر في هذه «اللعبة».
بددت ثلاثة وعشرين عامًا من عمري أحاول إقناع منيرة بأفكار تتعلق بكرة القدم. حاولت أن أشرح لها التسلل وعجزت، ولكن هذا عجز منطقي لأن بعض حكام كرة القدم لم يفهموه حتى الآن. الفشل الأكبر أني عجزت عن إقناعها بجدوى مشاهدة مباريات كرة القدم من الأساس، ولم تغير رأيها طوال تلك السنين، ولا اعتقادها الراسخ بأن كرة القدم «لعبة»، إن كنت تحبها فمارسها، أما أن تتشنج وتغضب وتفرح لأنك تشاهد آخرين يستمتعون باللعب، فهذا لا تبرير له إلا أنك غبي. وأنا شخص أتقبل كلمات الإشادة هذه بصدر رحب.
لكن المفاجأة حدثت بعد مباراة السعودية والأرجنتين، حين وجدتها تسألني عن الفرق التي يمكن أن يقابلها المنتخب السعودي في حال تأهله عن مجموعته. كان أكثر سؤال صادم منذ اختراع الأسئلة، واستخدامها وسيلة للبحث عن الحقيقة. ودليلًا حقيقيًّا على أن تأثير مباريات كرة القدم قد يصل على مستويات غير متوقعة.
ولعلي لست الوحيد الذي تفاجأت بتأثير مباريات كرة القدم، لكنها بالنسبة لي مفاجأة أسعدتني بصفتي أحد مروجي محبة هذه اللعبة. وسعيد لأن فكرة متابعة مباريات كرة القدم بدأت تتسلل إلى عقد عقل زوجتي بعد كل هذه السنوات من الكفاح والنضال. وهذا أمر لو تعلمون عظيم.
لكن المتفاجئين ليسوا كلهم سعداء بتأثير المباريات، هناك فئة قليلة عملت كل ما تستطيع من جهد لإقناع السعوديين أن العالم يكرههم ويتربص بهم ويحقد عليهم. فئة تتغذى وتعيش وتتكاثر وتتكسب على الفُرقة والتباعد والكراهية، لكن قدم سالم الدوسري بددت كل هذا الجهد الذي بذل في وسائل الإعلام عمومًا، ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصًا.
شاهد الجميع مشاعر كل من العالم العربي والإسلامي، في المقاهي والشوارع والقصور ومخيمات اللاجئين، لأناس يستحيل أن تكون فرحتهم نابعة من قلب حاقد أو كاره. ومن الطبيعي أن هناك من يكرهنا، وأن هناك من نكرهه، لأننا كائنات بشرية لا بُد أن يكون للمحبة والكراهية مساحة في قلوبنا، لسنا ملائكة والآخرين ليسوا كذلك أيضًا.
من تأثير مباريات كرة القدم الإثبات القطعي بأن الشوفينية والعنصرية ليست سلوكًا عامًا لدى الشعوب، ولكنها تخص فئة من «السملّق» على وسائل التواصل الاجتماعي يعطون انطباعًا بأنهم أكثرية، وهم ليسوا كذلك.
وقد يقول قائل أو يتحدث متحدث ينضح بالذكاء والفطنة، ويقول: لكننا لو خسرنا لسخر منا كل أولئك يدعون محبتنا، وهذا استنتاج لا يدل سوى على عبط صاحبه، فلو خسرنا لسخرنا حتى نحن من أنفسنا، وما زلنا نسخر حتى الآن، ومن دون مساعدة الأشقاء والأصدقاء، من نتيجة مباراة منتخبنا أمام ألمانيا قبل عشرين عامًا.
والوساخة بالوساخة تُذكر، فإني لا أخفي سعادتي بخسارة ألمانيا مباراتها الأولى، وتمنياتي أن أشاهدها تغادر المونديال، وتتفرغ لدعم المنحرفين والمنحرفات، لأنها فيما يبدو قد نذرت نفسها لهذه المهمة القذرة التي لا علاقة لها بكرة القدم ولا بحقوق البشر الأسوياء. فألمانيا وفي ميادين كرة القدم لم تفكر في التعاطف مع لاعبها مسعود أوزيل الذي انتهى مشواره في كرة القدم، بسبب تعاطفه مع بشر يعانون من جميع أشكال الظلم والاضطهاد، لذلك بدا موقفهم من الحريات موقفا قبيحًا مقززًا. ثم إن بطولة كأس العالم نفسها أقيمت مرارًا في قارة أوروبا الجميلة حامية الحريات، في الوقت الذي كانت تستعمر دولها نصف الكرة الأرضية، وتسومهم سوء العذاب، وتسرق ما تحت الأرض من ثروات، وتستبعد ما فوقها من بشر.
ستنتهي هذه البطولة، وأتمنى أن يكون للسعوديين وللعرب نصيبٌ وافر من الفرح، فزنا مرة وخسرنا أخرى، ومن المؤكد أننا لن نفوز بالكأس في نهاية المطاف، وربما لن نتأهل للدور القادم، لكننا سنكون راضين عن أنفسنا لأننا شاركنا لنلعب كرة القدم، ولنقدم أنفسنا بصورة سوية للبشر الأسوياء، وقد كان.
سنفرح ما دام للفرح متسع، وسنؤجل ما عدا ذلك إلى أن يحين وقته.
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!