«منحنى فيليبس» والركود الكبير

استخلص فيليبس من دراسته المُعمّقة للدورات الاقتصاديّة، أن ثمة علاقة عكسيّة بين معدلات البطالة ومعدلات التضخّم.

يتعرّف طلبة كليّات الاقتصاد والأعمال، في عامهم الجامعي الأول، على منحنى «منحنى فيليبس» ذائع الصيت، ضمن مبحث الاقتصاد الكلّي. اتّخذ المنحنى اسمه من وليام فيليبس، الأستاذ في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة خلال عقد الخمسينيّات من القرن الماضي. نشر فيليبس، في العام 1958، ورقةً بحثيّة بعنوان «العلاقة بين البطالة ومعدّل التغيّر في الأجور النقديّة في المملكة المُتحدة»، رصد خلالها العلاقة بين هذين المُتغيرين من الفترة ما بين العام 1861 والعام 1957.

لاحظ فيليبس إقبال الناس، في أوقات الانتعاش الاقتصاديّ، على طلبِ المزيد من السّلع والخدمات، ما يجعل أرباب العمل وأصحاب المصانع يُقبلون بدورهم على توظيف المزيد من العمّال لمواكبة هذا الطلب، ومِن ثَمَّ ترتفع الأجور، ثُمَّ تكاليف الإنتاج؛ وينعكس كل ذلك حتمًا إلى ارتفاع في أسعار السلع والخدمات.

وفي المقابل، حين يعيش الاقتصاد فترات الركود؛ فإنّ الطلب الكلّي سيكون ضعيفًا، وستقلُّ حاجة أصحاب العمل إلى توظيف المزيد من العمال، الأمر الذي سيهبط بمستويات الأجور، ومِن ثَمَّ بأسعار السلع والخدمات المُنتجة. وبعبارة أخرى، فقد استخلص فيليبس من دراسته المُعمّقة للدورات الاقتصاديّة، على مدار ما يقرب من مئة عام، أن ثمة علاقة عكسيّة بين معدلات البطالة ومعدلات التضخّم.

محاولة الفرار من الركود التضخمي

نَشر وليام فيليبس ورقته البحثيّة الشهيرة، بينما كانت ذكريات الأهوال التي خلّفها الكساد الكبير (1929)، والحرب العالميّة الثانية (1939- 1945)، لا تزال طازجة في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة. كانت أشباح الأعداد الهائلة والغاضبة من العاطلين عن العمل، وأعمدة الدخان المُنبعثة من أطلال المدن المدمرة، ماثلةً أمام أعين الساسة الغربيين على ضفتي الأطلنطي.

وهكذا، فقد قادت ضروراتُ إعادة الإعمار، وتشغيل الاقتصاد مُجدّدًا، وضمان الاستقرار السياسي، وإهالة التراب على ذكريات الحرب وأسبابهَا، إلى هيمنة الأفكار الكنزيّة (نسبةً إلى الاقتصادي البريطانيّ جون مينارد كينز)، التي تدعو إلى تدخلٍ نشطٍ من قِبل الدولة عبر السياسات الماليّة والنقديّة، لتحقيق مُعدلات توظيفٍ مرتفعة، بدلا من ترك الأمر لقوى السوق.

شقّت استخلاصات وليام فيليبس طريقها، في هذا المناخ الملبَّد، مِن أروقة الأكاديميات والبحث العلميّ، إلى دهاليز صنع القرار الاقتصاديّ. فإذا كان هدف السياسة الاقتصاديّة تخفيض معدلات البطالة، والوصول بالاقتصاد إلى نقطة التشغيل الكامل أو بالقرب منها؛ فإنّ معدّلات تضخمٍ مُرتفعة نسبيًّا تُعد تضحيةً مقبولة في هذا الصدد. هكذا كانت القناعات وعلى هذا الأساس صمّمت السياسات.

بدا أن السياسة الكنزيّة، ابتداءً من النصف الثاني من عقد الستينيّات، قد فقدت زخمها؛ فالإنفاق الكبير على البرامج الاجتماعيّة والتنمويّة المُختلفة، ومشروعات البنية التحتيّة، والإنفاق العسكريّ الهائل على حرب فيتنام، علاوة على السّياسة النقديّة التوسعيّة؛ دفعوا بأسعار السلع والخدمات إلى مستويات أعلى وأعلى. وفي الوقت نفسه، كانت معدّلات الإنتاجيّة في الاقتصاديّات الصناعيّة تتباطأ، على نحو كبح معه جماح النموّ الاقتصاديّ السريع، الذي ميّز حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية.

نشأَ أمام هذه المُعطيات وضعٌ استثنائي، عنوانه معدّلات تضخّم مرتفعة، ومعدلات بطالة متزايدة أيضًا. وهكذا، فلم يعد منحنى فيليبس معبّرًا عن واقع الحال الاقتصاديّ وتفاعلاته بدقّة، ووجد العالم نفسه أمام ظاهرة غريبة، اُصطلح على تسميتها من قِبل الاقتصاديّ الأمريكي باول سامويلسون بـ «الركود التضخمي».

حدثان يُذكيان نار الركود التضخمي

لم تكن السياسات الماليّة والنقديّة التوسعيّة السبب الوحيد لبزوغ هذه الظاهرة؛ فما أنْ حلّ عقد السبعينيات، حتى كان الاقتصاد العالميّ، وفي القلب منه الاقتصاديّات الصناعيّة، على موعدٍ مع حدثين فارقين في تاريخه الحديث. لم يكتف الحدثان بتعميق «الركود التضخمي» فحسب، بل وساهما -بنهاية المطاف- في إحداث تحوّلات جذرية في النظام النقديّ الدولي، وفي موقع الولايات المتحدة فيه.

نيكسون
الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1971 / U.S. National Archives

الحدث الأوّل كان قرار الرئيس الأمريكيّ ريتشارد نيكسون، في عام 1971، إلغاء قاعدة الذهب التي اُتفق عليها في مؤتمر «بريتون وودز» عام 1944، التي كانت تسمح للدول باستبدال ما لديها من دولارات بالذهب، وذلك عند سعر 35 دولارًا للأوقيّة الواحدة.

كان إلغاء قاعدة الذهب يعني ببساطة أنّ عملات الدول الصناعيّة لم تعد مرتبطة بأصلٍ عينيّ يُغطيها، وأن قيمتها باتت من الآن فصاعدًا مرتبطة بقوى العرض والطلب ولا شيء آخر. على المستوى العملي، كان هذا التحوّل يعني قدرة البنوك المركزيّة، وعلى رأسها بنك الاحتياطيّ الفيدراليّ الأمريكيّ، على طباعة أوراق البنكنوت من دون قيود، الأمر الذي فتح مسارًا جديدًا وواسعًا لإذكاء نارِ التضخم على المستوى العالمي.

الرفاه بين مصارع حقب المال الورقي

اقترن مفهوم الرفاه في توارثنا وفهمنا له بالوفرة المالية. وانطوى قياسنا عليه باكتساب الدول الغنية معدل رفاه عالٍ مثل أميركا وبعض الدول الأوربية التي يتمظهر

1 سبتمبر، 2020

أمّا الحدث الثاني فكان قرار الدول العربيّة المُنتجة للبترول حظر تصدير الخام الأسود إلى البلدان الصناعيّة، في أعقاب اندلاع حرب أكتوبر عام 1973. وقد أفضي الحظر إلى ارتفاع أسعار البترول باضطراد خلال النصف الأول من السبعينيات. ولمّا كان اعتماد البلدان الصناعيّة على بترول المنطقة العربيّة كبيرًا، منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية؛ فقد تمخّض عن ارتفاع أسعار هذه السلعة الاستراتيجيّة ارتفاعٌ مقابلٌ في تكاليف الإنتاج في كلّ مرافق الاقتصاد الصناعيّ، لتُضاف إلى الموجات التضخميّة السَّابقة موجة جديدة أكثر قوّة وجموحًا.

ولم يكد عقد السبعينيات يُسدل أستاره، حتى فوجئ العالم الصناعي بموجة تضخميّة أخرى كان سببها هذه المرة ارتفاع أسعار البترول الناجم عن تعطّل الإمدادات، بفعل الثورة الإيرانيّة عام 1979، وما تلاها مباشرة من حربٍ بين إيران والعراق، وهما من بين أكبر مُنتجي النفط حول العالم.

هل يصلح فولكر ما أفسده التضخم؟

في مواجهة حالة «الركود التضخمي»، يقع صنّاع السياسات الاقتصاديّة في دائرة مُستحكمة من خيارين أحلاهما مُر: العمل من أجل خفض البطالة، وتحفيز النموّ الاقتصاديّ عبر تبني سياساتٍ ماليّة ونقديّة توسعيّة؛ أي مِن خلال خفض أسعار الفائدة، وزيادة الإنفاق الحكومي، لتشجيع الاستثمار في مشروعاتٍ جديدة؛ ومِن ثَمَّ رفع مستويات التوظيف والطلب الكلّي، ستُؤدّي إلى مفاقمة التضخّم.

وفي المقابل، فإنّ:

مُجابهة التضخّم من خلال سياساتٍ ماليّة ونقديّة انكماشيّة، أي عبر رفع نسبة الضرائب، وأسعار الفائدة، بُغية تقييد الطلب الكلّي، وسحب جزءٍ من الكتلة النقديّة في السوق، ورفع تكاليف الاقتراض، سيُؤدّي بدوره إلى مُفاقمة الركود. Click To Tweet

في عام 1979، اختار صنّاع السياسة الأمريكيين الركود بصفته ثمنًا لكبح جماح التضخّم، واُختير باول فولكر محافظًا جديدًا لبنك الاحتياطيّ الفيدرالي في تلك السنة لتقع على عاتقه مسئولية تلك المهمّة.

ناوأ فولكر سياسات الاحتياطيّ الفيدراليّ التقليديّة، إِذْ رأى أنّها لا تُركّز على مُجابهة التضخّم بصفته أولويّة للسياسة النقديّة. ومن هذا المُنطلق، فقد كان مُصمّمًا على اتّخاذ سياسة مُشدّدة للغاية وغير مسبوقة، لمُكافحة ما رآه تهديدًا كبيرًا لاستقرار الاقتصاد الأمريكيّ وازدهاره في المدى الطويل. ورغم أنّ سياسة فولكر المُصمّمة لتخفيض معدّلات التضخّم لم تكن شعبيّة بالُمطلق، ورغم أنّها لقيتْ مُعارضة داخل الكونغرس، فإنّ الرجل كان حاسمًا في توجّهاته، بغض النظر عن التكاليف التي قد تترتّب عليها.

وهكذا، بدأ الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة من دون هَوادة، حتَّى كادتْ تلامس فيه مستوى الـ 20% في بداية العام 1981. وكان من الطبيعي لهذا الارتفاع الهائل في تكاليف الاقتراض أن يُوجّه ضربة قاسية للقطاعات الإنتاجيّة المُختلفة، ولا سيما قطاعا التصنيع والإنشاءات، المُعتمدان بشكلٍ كبير على الائتمان البنكي، واللذان يشكّلان قاعدة واسعة لخلق الوظائف.

وفي العام 1982 بلغ معدّل البطالة في الولايات المتحدة 11%، وهو -إذا ما استثنينا فترة وباء كورونا الطارئة- أعلى معدّل يُسجّل في تاريخ البلاد منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. لقد تحقّق هدف فولكر في تخفيض التضخّم منذ ذلك الوقت، ولكن على حساب ملايين الناس الذين فقدوا وظائفهم، ليس في أمريكا فحسب، بل وفي كل أصقاع العالم.

الاقتصادالتاريخالتضخمالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية