عبقرية البساطة في حدث إطلاق آيفون
تمكنت أبل من تحويل الإعلان عن منتجات شركة تقنية كبرى إلى حدث مشوق يقوم على بناء الارتباط العاطفي. فأحاطت إصداراتها بالغموض والسرية.
لأني من مواليد أواخر الثمانينيات، كان مفهوم الحدث العالمي غير السياسي يتلخص في نظري في حفل افتتاح كأس العالم وحفل توزيع جوائز الأوسكار. ولكن المفهوم اتسع في الخمس عشرة سنة الأخيرة ليشمل حدث إطلاق نسخة آيفون الجديدة.
لا أنكر أنَّ متابعتي للحدث بدأت من باب مواكبة الحدث، ولسيطرة مؤتمر أبل على أحاديث مجتمعات تويتر والعائلة وتجمعات الأصدقاء. ولكن سرعان ما تحول شعور الاضطرار إلى فضول فإعجاب ثم ترقّب، مثلي مثل الملايين حول العالم.
فاسم أبل اقترن بحملات التسويق الناجحة التي تعد الفعاليات إحدى استراتيجياتها في الترويج. وفعالية إطلاق الآيفون طريقة مبتكرة للإعلان عن النسخة الجديدة منه، وإعطاء لمحة عن المنتجات الأخرى والتطلعات المستقبلية. لكن كيف تحوّل حفل إطلاق منتج إلى حدث عالميّ يترقبه الجميع؟
آيفون: ظاهرة في متناول يدك
تمكنت أبل من تحويل الإعلان عن منتجات شركة تقنية كبرى إلى حدث مشوق يقوم على بناء الارتباط العاطفي. فأحاطت إصداراتها بالغموض والسرية، وسببت حالة من الترقب لجمهور عريض من المستخدمين والتقنيين من شتى بقاع العالم. والأهم، أنَّها منذ البداية وعدت جمهورها بأنَّ منتجاتها تمنحهم الفرادة والتميز، وأقنعتهم بأنها تستخرج الإبداع الكامن في خيالهم.
وخلقت لحظة إعلان ستيف جوبز التاريخية في مؤتمر 2007، حالة الهوس التي سترتبط بهذه المؤتمرات. ففي مؤتمر 2011 نفدت تذاكر حضور التقنيين بعد اثنتي عشرة ساعة من طرحها، وفي عام 2013 تقلّص زمن نفاد التذاكر إلى دقيقتين. ومنذ 2019 تحولت عملية شراء التذاكر إلى ضربة حظ حيث يفوز المشتري بيانصيب تطرح خلاله أبل التذاكر بتوزيع عشوائي ويدفع الفائز قيمة تذكرته.
لكن جماهيرية المؤتمر لا تقتصر على حضوره شخصيًّا. إذ يتسع نطاق حالة الترقب لتشمل الجميع، من خلال التسريبات -المتخيلة أو الحقيقية- لتصميم آيفون الجديد وإمكاناته المتوقعة، ثم الإعلان عن موعد إطلاقه الذي يرافقه ازدحام شديد أمام فروع أبل ومنافذ البيع حول العالم.
إن الصفوف الطويلة والمزدحمة أمام متاجر أبل المليئة بالمتحمسين لحجز النسخة الجديدة من آيفون أو شرائه مشهد يدعو للتأمل. فنحن هنا أمام حالة من التفاني والولاء للعلامة التجارية بطريقة شاعرية لا مثيل لها. وتصيب العدوى منصات التواصل الاجتماعي، فيطغى زخم الوسوم والتغريدات التي يكتبها التقنيون وأصحاب المتاجر والمتحمسون في نقاشاتهم. والطريف أن أشد المتحمسين لأندرويد يترقبون أيضًا مؤتمرات أبل وفعاليات إطلاق آيفون، لتبدأ المقارنات المعتادة بين أجهزة الشركتين باختلاف أنواعها.
آيفون يقينًا ليس حالة إدمان هاتف ذكي، بل ظاهرة خلقتها أبل. فهي نجحت في حشد الجموع حول العالم لنقاش تقنياتها، ووضعت نفسها محور حديث على مدار العام حتى لغير مستخدميها، في حين عجزت شركات أخرى عن لفت انتباه مستخدمي أجهزتها لمواعيد إطلاق النسخ الجديدة. هنا يكمن سر نجاح أبل في قدرتها على التكيف مع كل أنواع الجماهير، وإقناع المستخدم بأن فعالية إطلاق الآيفون الجديد تعنيه تمامًا، وإن كان لا يخطط بالفعل لتغيير جواله.
مؤتمرات أبل: كواليس صناعة الظاهرة
تعمد جوبز في مؤتمر إطلاق الآيفون الأول تقديم ثورة أبل التكنولوجية بأبسط الطرق الممكنة. فقد كان الإطلاق مناسبة خاصة للمهتمين بنظام ماك ومنتجات أبل، وفي وقت كان معظمنا لا يزال يستخدم هواتف نوكيا. أما مواقع التواصل الاجتماعي بالكاد كان لها تأثير يذكر، إذ لم يكن قد مضى على إطلاق تويتر مثلًا إلا عامًا حينها.
ورغم بساطة مؤتمر 2007 قياسًا بفعاليات الإطلاق التي تستضيفها أبل اليوم، فقد استطاع جوبز باستخدام شاشة واحدة وعرض تقديمي مميز بصريًا أن يجذب انتباه العالم، ويقدم آيفون تقديمًا لا يُنسى.
فمن ينسى إطلاق هاتف أبل الأول وحالة الانبهار التي تحولت إلى موجة جذل عارم اجتاحت الحضور وقت إعلان جوبز عن دمج قدرات آيبود ومتصفح الإنترنت السريع وإمكانات الهاتف النقال في جهاز واحد؟
كان ستيف جوبز رجلًا عظيمًا بحق، ويتجاوز كونه مؤسس شركة. فقد كان لديه رؤية للمستقبل، والقدرة على نقل ما يتخيله إلى واقع، إلى جانب قدرته على اكتشاف المواهب. فقد نجح -رغم إصابته بالسرطان- في إعداد المدير التنفيذي الحالي تيم كوك، وترشيحه أمام مجلس إدارة أبل ليكون خلفًا له، لتواصل أبل نجاحها بعد وفاته.
أبل ما بعد ستيف جوبز
بعد مرور خمسة عشر عامًا على طرح آيفون الأول، تواصل أبل اليوم نجاحها بفضل استراتيجيات تيم كوك الجريئة. فنجد أنها عززت منتجها الرابح آيفون بمجموعة من المنتجات الجديدة التي تجذب عملاء جدد وتضمن ولاء العملاء الحاليين.
فمنذ عام 2011، أصدرت الشركة العديد من المنتجات الجديدة، منها ساعة أبل وسماعات إير بودز. كما اهتمّت بقطاع الخدمات وتطويره؛ فقدمت مجموعة واسعة من الخدمات التي حققت أرباحًا جيدة، من ضمنها أبل ميوزك، أبل تي في، أبل كير، خدمة تطبيقات أبل ستور، والدفع من خلال أبل باي، بل تطور الأمر لتقديم خدمة «اشتر الآن وادفع لاحقًا» ضمن خدمات أبل باي.
وكان نتاج الاهتمام بهذا القطاع نمو أعمال خدمات أبل من 2.95 مليار دولار في السنة المالية 2011 إلى 53.77 مليار دولار في السنة المالية 2020، لتعلن في السابع من سبتمبر 2022 عن آيفون 14 وهي في وضعٍ ماليّ أكثر قوة. ففي عام 2018، قفزت قيمة الشركة لتتخطى حاجز التريليون دولار، وفي عام 2020 قفزت إلى 2 تريليون دولار. ثم، لفترة وجيزة في مطلع العام الجاري، قفزت قيمتها لتصبح 3 تريليون دولار.
وإن كنت تظن أنَّ أبل مطمئنة لثبات اسمها في السوق، يكفيك أن تعرف أنها تخصص اليوم 50 مليون دولار تقريبًا ميزانية خاصة بفعاليات الإطلاق، وتلك دلالة على أهميتها، فالمكاسب المرتبطة بحدث الإطلاق قد تعدت الاستفادة التسويقية والمعنوية للشركة فحققت له أرباحًا مالية، ولذا ظلت أسهم أبل، في سنوات كثيرة، منتعشة بعد فعالية الإطلاق بمدة تعدت ستين يومًا.
وفي مطلع العام الجاري أعلنت أبل عن إيراداتها ربع السنوية التي سجلت أعلى عائد بلغ 123.9 مليار دولار، فيما أعلن لوكا مايستري المدير المالي لأبل أن تجاوب المستخدمين مع فعالية الإطلاق الأخيرة (في عام 2021) أدى إلى نمو مزدوج في الإيرادات والأرباح.
أبل تستفيد من تسويق التواصل الاجتماعي
تعتمد أبل في البث المباشر على موقعها الرسمي أو أبل تي في، وازداد اعتمادها في السنوات الماضية على وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا. حسابها الرئيس في تويتر -ذو التغريدة الواحدة- يتابعه أكثر من ثمانية ملايين متابع، وحسابها أبل ميوزيك يغرد باستمرار حول أخبار الموسيقا ويتابعه تقريبًا عشرة ملايين متابع.
هناك أيضًا حساب أبل تي في الذي يتابعه أكثر من مليون متابع ويغرد عن أحدث المسلسلات والبرامج. أَضف إلى ذلك تفاعلها الحقيقي مع تجارب المستخدمين لكاميرا الآيفون من خلال صفحتها في إنستقرام التي يتابعها أكثر من ثمانية وعشرين مليون متابع. هذه الحسابات تقربها من مستخدميها، وتساعدها على إشراك عملائها في عمليات الترويج ومنحهم شعورًا دافئًا بأن اقتناء هاتف أبل يعني لها الكثير.
بين ميزاني ودوائر أبل
ولا ننسى حساب أبل في منصة يوتيوب الذي يضم ستة عشر مليون متابع ونجح في تحقيق أرقام مشاهدات كبيرة لمقاطع الفيديو التي اجتذبت قاعدة جماهيرية عريضة. فحاز فيديو إطلاق آيفون إكس على أكثر من ثمانِية ملايين زيارة في شهر إطلاقه. حتى في منصة فيسبوك لها وجود معتدل أتاح لها متابعة أكثر من 13 مليون شخص يتفاعلون بشكل مُرضٍ مع منشوراتها الترويجية لجميع منتجاتها.
آيفون 14 يأخذك إلى الفضاء البعيد
قررت أبل إطلاق نسخة آيفون 14 الجديدة في السابع من سبتمبر بجانب الإصدار الجديد من ساعات أبل، وقد حملت تلك الفعالية عنوان «بعيدًا» (Far out) يعلوها شعار أبل -التفاحة المقضومة- وقد تشكلت من تجمّع نجوم تلمع في ظلامٍ دامس، وقلب التفاحة أسود تمامًا. لتجعل من تصميم الدعوة حدثًا في ذاته يحمل الدلالة على بعض ما قد تطرحه في المؤتمر، كما كانت الحال مع سابقاتها.
وبالفعل، تعددت الآراء حول دلالة عنوان الفعالية، هل يشير مثلًا إلى أن الحدث بعيد نسبيًا؟ إذ أعلنت أبل عن فعالية الإطلاق قبلها بأسبوعين، وهذا وقت مبكر عما اعتادته، إذ يكون الإعلان قبل أسبوع. أو هل التصميم تلميح إلى بدء أبل في إضافة قدرات الأقمار الصناعية إلى هواتفها النقالة، وهو ما سيمثل طفرة حقيقية في عالم تكنولوجيا الاتصالات المدنية؟
وبالفعل، خلال فاعلية الإطلاق الأخيرة التي انعقدت منذ ساعات تأكدت التخمينات على تزويد نسخة آيفون 14 بخاصية إرسال الرسائل عبر الأقمار الصناعية، على الأخص رسائل الاستغاثة في المناطق التي لا تتوفر بها تغطية. فقد أضيفت خوارزمية في الآيفون تضغط الرسائل النصية إلى حجمٍ يستغرق أقل من خمس عشرة ثانية لإرسالها إلى قمر صناعي، قبل نقلها إلى محطة أرضية ومنها إلى مزود خدمة الطوارئ.
ويستطيع المستخدم تطبيق هذه الخدمة خلال توجيه هاتفه لبقعة معينة صافية في السماء للتغلب على ضعف النطاق الترددي. هكذا تعود أبل وتحقق وعدها بالفرادة لمستخدميها؛ رسائلكم اليوم تصل ببساطة للفضاء.
مع المؤتمر الأخير:
ترينا أبل أنها ما زالت قادرة على الحفاظ على التشويق والمفاجآت غير المألوفة. صحيح أن بساطة العرض التقديمي لم تتغير في السنوات السابقة كثيرًا مع كل الميزات الثوريّة التي قدمتها أبل، ولكن يبدو أن أسلوب العرض لا يحتاج إلى التغيير. Click To Tweet
إذ أثبتت السنوات الخمس عشرة أنَّ نجاح الحدث كافٍ ويتحدث عن نفسه.