التقنية ليست مسؤولة عن تطرُّف الأفكار 🙄

«من السهل تمامًا إصدار حكم متسرع وبلا تفكير حول هذا البيان، واعتباره مجرد بيان كتبه رجل مجنون، لكننا في واقع الأمر سنفعل ذلك من أجل تجنب مواجهة المشاكل التي يحددها البيان، كما أنه من المستحيل ببساطة تجاهل أن العديد من تنبؤاته حول المجتمع الحديث كانت ثاقبة إلى حد كبير».

أعلاه التقييم الذي كتبه لويجي مانجيوني عبر تطبيق قودريدز تعليقًا على «بيان المجتمع الصناعي ومستقبله» (INDUSTRIAL SOCIETY AND ITS FUTURE) الذي يتناول أفكار القاتل المتسلسل تيد كازينسكي، المعروف باسم «الأونابومبر». وقد منح مانجيوني البيان أربعة نجوم من خمسة.

كان بيان المجتمع الصناعي سببًا في اعتقال كازينسكي، وتقييم مانجيوني سببًا في فهم دوافع الأخير لارتكاب جريمة قتل.

المفارقة الساخرة هنا أنَّ كازينسكي حدَّد التقنية عدوًّا، بينما وجد فيها مانجيوني أداةً في الوصول إلى أفكار كازينسكي وتطبيقها لدى ارتكابه جريمة قتل. 

نبدأ مع جريمة القتل التي ارتكبها لويجي مانجيوني في ديسمبر الماضي، حين أطلق النار على برايان تومسون، الرئيس التنفيذي لأكبر شركات الرعاية الصحية في أمريكا. أطلق عليه ثلاث رصاصات من مسدس مزود بكاتم الصوت، وعلى أغلفة تلك الرصاصات الثلاثة حُفِرت كلمات «الإنكار»، «الدفاع»، «العزل»، في إشارة إلى تكتيكات شركات التأمين الصحي للتهرب من مستحقات العملاء.

بعد عدة أيام، ألقت الشرطة القبض على مانجيوني وبحوزته بطاقة هوية مزورة، وسلاح ناري مماثل لذلك المستخدم في القتل، وكاتم صوت، وبيان مكتوب بخط اليد من ثلاث صفحات. ويلقي البيان الضوء على دوافعه المتمثلة في انتقاد شركات الرعاية الصحية لوضعها الأرباح فوق الرعاية.

حظي مانجيوني بتعاطف فوري على وسائل التواصل الاجتماعي، وسط هجمة شعبية على شركات الرعاية الصحية وآلياتها المتعسفة. وبدأ الكثيرون يتابعون حساباته عبر تطبيقات التواصل، والتدقيق في منشوراته السابقة عبر تطبيق «إكس» حول العواقب الصحية السلبية للتقنية الحديثة، وصولًا إلى تقييمه «بيان المجتمع الصناعي ومستقبله» لتيد كازينسكي.

ومنذ ظهور التقارير التي تربط بين لويجي وكازينسكي، ارتفعت معدلات البحث عن قضية «الأونابومبر» ارتفاعًا كبيرًا، وزادت عمليات البحث عن ملخّص بيان تيد كازينسكي على قوقل ودوافع «الأونابومبر» بنسبة تزيد عن 5000%.

فمن هو تيد كازينسكي إذن؟

كان تيد عبقريًا، حصل على 167 نقطة في اختبار الذكاء. التحق بجامعة هارفارد في السادسة عشرة من عمره، وفي سن الخامسة والعشرين أصبح أستاذًا مساعدًا في جامعة كاليفورنيا. في عام 1972، وعلى نحو مفاجئ، قرر تيد ترك كل هذا والعيش في كوخ بدائي لا يتوفر فيه مياه جارية أو مصادر للطاقة؛ لأنه ببساطة آمن أن التقدم التقني سيدمر العالم بيئيًا، ويقلل من حرية الإنسان في التحكم في مصيره.

لم يكتف كازينسكي بالانعزال عن العالم وتقنياته، بل قرَّر محاربته بالعنف. وفي الأعوام ما بين 1978 و1995 صنع عدة قنابل يدوية وأرسلها بالبريد إلى ضحاياه، ممن يراهم مساهمين في التقدم التقني بشكل أو بآخر.

لم يستطع أحد معرفة هوية صاحب تلك الجرائم التي أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثلاثة وعشرين شخصًا، إلى أن راسل تيد صحيفة نيويورك تايمز عارضًا عليها صفقة: سيكف عن إيذاء الناس ويكتفي بمهاجمة الممتلكات، في مقابل نشر مقال طويل عن أفكاره. ولم يكن هذا المقال إلا «بيان المجتمع الصناعي ومستقبله»، ومن خلاله عرف ديفيد كازينسكي أن أخاه هو «الأونابومبر»، فأبلغ عنه وألقت الشرطة القبض عليه فورًا.

لم يهتم أحد بأفكار تيد ودوافعه بعد القبض عليه، فقد نظروا إليه كعبقري مجنون لم يتكيف مع نمط الحياة. إلا أن التقنية التي لطالما حاربها، هي التي ساعدت على إحياء أفكاره ثانية. إذ بعد تقديم عدة أعمال درامية حوله، وثائقية ودرامية، طفت أفكار تيد على السطح ثانية، وإن أخذت هيئة غير عنيفة، متمثلة في عدم الرضا عن الحياة الحديثة. هذا بالطبع إلى أن ظهر لويجي مانجيوني.

نشأ على الإنترنت مجتمعٌ من الأشخاص الذين يعدون أنفسهم من البدائيين والمناهضين للحداثة والمؤمنين بأفكار تيد. وهم يميزون أنفسهم عادة بوضع إيموجي شجرة الصنوبر في أسمائهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ويقضون ساعات في تبادل الميمات التي تدعو إلى تدمير الحضارة الحديثة، ويناقشون السياسة في محادثات جماعية على منصة «إكس». 

وامتد الأمر إلى تك توك، حيث تنتشر وسوم (tedpill#) و(tedk#) و(tedkazcynski#) وتحصد مجتمعةً ملايين المشاهدات، في مقاطع تتمحور حول كراهية الحضارة الحديثة وضرورة الرجوع إلى الحياة البدائية.

ينظر الكثير إلى التقنية على أنها الوحش الذي سيفتك بالإنسانية، وصعود الذكاء الاصطناعي في الأعوام الأخيرة يعزّز هذه النظرة التشاؤمية. إلا أن قصة كازينسكي تثبت لنا أنَّ التقنية، بكل صورها، مجرد أداة تخدم صاحبها البشري بإخلاص. 

فالرجل الذي عاش حياته يرتكب الجرائم كرهًا في التقنية، يتردد اسمه الآن عبر تقنيات التواصل الاجتماعي للتحريض على اتباع فلسفة معادية للتقنية في الأساس. ورغم تعرُّف عدد كبير على أفكار كازينسكي، شخصٌ واحد فقط قرر تطبيقها بأشد الأساليب تطرّفًا، لأسباب لا تتعلق أبدًا بالتقنية التي يحاربها كازينسكي، بل تتعلَّق بتطرُّف كازينسكي في التعبير عن أفكاره.

South China Morning Post

Pet healthcare booms in China as furry friends outnumber infants and toddlers

شهد راشد