ما الذي خسرناه بسبب التقاضي عن بعد

لم تحجب مكاسب التقاضي عن بعد بعض سلبياته، ولم تبدّد بعض المخاوف حول الاعتماد عليه بنحوٍ مبالغ فيه.

دعوة للمساعدة 👋

ستسافر قريبًا؟ أو خطّطت لوجهتك السياحية القادمة؟

هذا الاستبيان القصير موجّه لك.

يحتاج إكماله أقل من 45 ثانية من وقتك.


محمد البديرات

لم تكن المملكة العربية السعودية بمنأى عن التحوّل الكبير الذي شهده العالم في مجال التطوّر الرّقمي والإلكتروني، بل كانت من أوائل الدول استعدادًا لمتطلبات هذا التحوّل، واستجابة لرقمنة تعاملاتها، ليظهر خلال فترة قصيرة التميّز في مجال الحكومة الإلكترونية -وأيقونتها الساطعة «أبشر» التي صارت علامةً فارقة- سواء فيما يتعلق بالمعاملات الإدارية أو التعاملات المصرفية، وفي أوجه النشاط الخدمي في مختلف القطاعات، ومن أخصّها المرفق العدلي الذي يحظى باهتمام ولاة الأمر حفظهم الله.

بيد أن التحوّل النوعي الأبرز كان في التقاضي. ففي ظل السعي الدؤوب نحو فكرة العدالة الناجزة التي تستهدف الدولةُ تحقيقَها، في واحدة من أهم واجباتها وأخص أولوياتها لحماية حقوق المتقاضين، وفي ظلّ تفرّدها في توفير منظومة عدلية متميزة نوعيًّا، انفاذًا لرؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تنويع اقتصاد البلاد وتعزيز التنمية المستدامة وتحقيق التحوّل الرقمي، كان من الضروري الانتقال إلى التقاضي الإلكتروني، الذي يُعدُّ جزءًا لا يتجزّأ من أنظمة العدالة الناجزة.

وتمثل العدالة الناجزة أهم وأسمى غايات القضاء، ولا تقتصر على تعجيل الفصل في القضايا وحسب، وإنما في إنجازها على نحوٍ يضمن تحقيق أعلى درجات العدالة بإجراءات أيسر وجهدٍ أقل.

وإذا كانت جائحة كورونا قد وفّرت الفرصة لعرَّاب رقمنة البيئة العدلية وأتمتتها، الوزير وليد الصمعاني، ليضع، بداعي الاضطرار، في عام 2020 الفكرة التي كان يؤمن بها موضِع التطبيق، ولو على سبيل التجريب، إلا أنها عجّلت بتنفيذ ما كان يقدح في ذهن الرجل، ليعمل بعدها بالاتساق مع توجّه المجلس الأعلى للقضاء على رسم معالم التقاضي الجديد بشكله الإلكتروني في أوسع نطاق ممكن.

إن مفهوم التقاضي الإلكتروني يعني إدخال الوسائل التقنية الرقمية بغية تنفيذ الإجراءات القضائية، بدءًا من تقديم صحائف الدعاوى وتبليغ الأطراف، مرورًا بتبادل المذكرات والرّد عليها، والمصادقة إلكترونيًّا على ضبوط الجلسات -الكتابية أو المرئية- وتثبيت حضورها، والاطلاع على صكوك الحكم، والطعن عليها، وانتهاءً بتنفيذ الأحكام على اختلافها وتنوِّعها، وذلك كله من دون الحاجة إلى الحضور المادي للمحاكم.

ويعتمد هذا النظام على توافر أدوات تقنية، مثل: أجهزة الاتصالات الحديثة والشبكات المتطورة والمنصات الرقمية والتوقيع الإلكتروني وتطبيقات المؤتمرات أو الغرف الافتراضية والذكاء الاصطناعي، لتحسين كفاءة النظام القضائي.

ويستهدف التقاضي الإلكتروني، من الناحية العملية، تسهيل إجراءات التقاضي، وتعجيل الفصل في المنازعات، وتوفير الوقت والجهد على المتقاضين من خلال تقليل زخم المراجعين إلى مقارّ دوائر المحاكم. وتعكس هذه الخدمة التزام المملكة العربية السعودية بتطوير قطاع العدالة وتحديثه، وتعزيز شفافية العمل القضائي، والالتزام بالضمانات القضائية التقليدية بما يتناسب مع طبيعة هذا المسار الرقمي.

ومن أهم هذه الضمانات تحقيق مبدأ المواجهة، بتمكين الأطراف من الاطلاع على كامل ما يُقدَّم في القضية، بما في ذلك المذكرات والمستندات التي تُقدّم أثناء الجلسة أو عند التهيئة والتحضير، ومواجهة الأطراف بها. وكذلك مبدأ علانية الجلسات، حيث يُتاح الدخول إلى الجلسات وفق إجراءات محدَّدة، مع احتفاظ المحكمة بسلطتها في ضبط نظام الجلسة، إضافة إلى خدمة توثيق الجلسات بالصوت والصورة والاحتفاظ بها. وتتمّ إجراءات التقاضي الإلكتروني حصرًا من خلال منصة التقاضي الإلكتروني، وعبر الأنظمة المعتمدة من وزارة العدل لهذه الغاية. 

ويأتي نظام «ناجز» في طليعة هذه النظم، ليشكّل مع منصة «معين» أيقونتيّ القضاء السعودي لشهرتهما عربيًّا وإقليميًّا، الأمر الذي يقتضي أن يكون لدى جميع الأطراف حساب فعّال في النفاذ الوطني الموحّد. كما تُراعى الضوابط الخاصة بأداء الشهادة واليمين، والتلفظ بالخلع والطلاق في التقاضي الإلكتروني. على أنه في حال تعذّر نظر القضية عبر التقاضي الإلكتروني، يجوز للدائرة عقدها حضوريًّا.

إن التحوّل إلى العدالة الرقمية لم يعد ترفًا يُتباهى به، وإنما بات مطلبًا مُلحًّا، يؤشّر تبنّيه على مستوى تقدم الدولة، ومواكبتها للقفزات الهائلة في تطور الشبكات والأجهزة. كما يعكس اهتمام الإدارة بمستوى لائق من الخدمات التي تقدمها إلى الجمهور، ذلك أن الإيجابيات التي كشفت عنها تجربة التقاضي عن بُعد، على قِصر مدتها، قد حظيت بتأييد كبير من الخصوم أنفسهم، ومن العاملين في سلك القضاء، الجالس والواقف على حدٍّ سواء، باعتبارهم أول المعنيين بتقييم هذه التجربة. وقد شجّعت على المضي بها قدمًا لتوسيع نطاقها، والعمل المستمر على رصد آثارها وتحسين مستوياتها.

إن تنفيذ التحوّل الكامل نحو العدالة الرقمية يتطلب حاضنة بشرية مؤهلة، وتوفير بنية تحتية رقمية وتكنولوجية تدعم مرفق القضاء للوصول إلى المُبتغى. وهو توفير خدمات عدلية متميزة. وتنعم السعودية بكل متطلبات التميّز، ذلك ما جعلها تسجل مركزًا متقدمًا في هذا المجال، ليس على صعيد الإقليم وحسب، بل وتتصدر المراتب العالمية.

ولعل نظرة سريعة على إحصاءات نظام «ناجز» وحده تُنبئ بالعدد الهائل من الخدمات التي يقدمها مرفق القضاء عن بعد. فلغة الأرقام تحدثنا عن أن صحائف الدعاوى ومتعلقاتها، بما فيها طلبات التنفيذ، قد بلغت أكثر من 622 ألفًا من إجمالي التعاملات المنفذة خلال عام 2023 عبر ناجز، والبالغة 154 مليون.

كذلك حقّق ديوان المظالم المركز الثاني ضمن أفضل الجهات الحكومية المركزية والعامة في قياس التحوّل الرقمي التي أعلنتها هيئة الحكومة الرقمية. كما حقق الديوان تقييمًا عاليًا ضمن المراكز الخمسة الأولى في جائزة الحكومة الرقمية 2024، عن أفضل استخدام للتقنيات الناشئة، التي ترشح لها الديوان من خلال نظام المساعد المعرفي المطوّر بتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تُستخدم لتيسير وتجويد أعمال التقاضي الرقمية على المستفيدين وطواقم العمل في محاكم ديوان المظالم.

وغني عن البيان أن تحقيق هذه المزايا، برفقة الضمانات التي يوفرها التقاضي عن بعد، قد عظّمت من شأنه وزادت من أهميته، لتستقر التجربة واقعًا ملموسًا ونهجًا مؤسسيًّا يقطع أي احتمال للعودة إلى الوراء. لكن ذلك كله لم يحجب بعض السلبيات التي رافقت تقديم هذه الخدمة، ولم تبدّد بعض المخاوف حول الاعتماد عليه بنحوٍ مبالغ فيه.

إن عدم اجتماع القاضي والمحامي في مجلسِ حكمٍ حقيقي يُضعف الجانب المهاري في شخصية المحامي، فيضعف لضعفه القاضي؛ ذلك أن الاكتفاء بكتابة الطلبات والاعتراضات وتقديمها إلى المحكمة لا يشحذ فكر المحامي بما يلزم، ولا يساعد الخصم في استحضار ما يدفع به طلبه، ولا القاضي في تقرير القبول أو الرّد.

ففي ظل التقاضي عن بعد، تخبو شمسُ دقيقي الملاحظة، حاضري الذهن، سريعي البديهة؛ فالمحامون في ظله كلهم سواء، لأن للمحامي أعوان في مكتبه يشدّون أزره، ويسعفونه لو غفِل. وأمام القاضي مُتَّسع من الوقت ليقرر الإجراء المناسب، ويدير الجلسة على مُراد النظام.

إن وتيرة العمل النمطية، وعدم اختلاط المحامي مع أقرانه، فيتبادلون المُستحدث من الأحكام، والشاذ من التعاملات، والغريب من القصص، سيصيب المحامي بالملل، وسيفقده الشَّغف في مزاولة المهنة بعد وقت قصير.

بيد أن الأسوأ على الإطلاق غياب المناقشات بين المحامين، وهي المحاورات التي تتّسم عادة بالحدّة والعُمق والتنوع؛ فالمناقشات التي تحتدم بين المحامين في غرف المحامين هي الشعلة التي توقد تنافسية الفهم والتّحليل والاستنباط، ومن رحم ذلك كله يولد الفقه القانوني، وبها تترسّخ قيم احترام المحامين لأشياخ المهنة.

فلمَ لا يوجد لدينا قصر للعدل، يكون مجمعًا لمحاكم القضاء كلها، أو قصران للعدل بحسب جغرافية المدن الكبرى. فتجميع المحاكم في مبنًى واحد مُجهّز بما يلزم -لا سيما بغرف خاصة بالمحامين تحتضن مكاتب عديدة، تمكّنهم من القيام بالإجراءات القضائية الإلكترونية من خلال أجهزتها- من شأنه التخفيف من سلبيات التقاضي عن بعد.

وذاك يقتضي -بالضرورة- السماح بأن يكون انعقاد الجلسات ووقتها منوطًا باتفاق أطراف الدعوى، ضمن ما يسمح به جدول المحكمة. لا سيما أن للدائرة، بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء، عقد الجلسات خارج وقت الدوام خلال أيام العمل الرسمية، بما لا يتجاوز الساعة الخامسة مساءً.

إن إعادة تقييم تجربة التقاضي الإلكتروني بعد سنوات من تمتّع القضاة والخصوم أو وكلائهم بمزاياه، ومفاجآته التي تزرع الخوف والقلق على مصير حقوقهم، بسبب مفارقات التقنية التي تتعطل تارة أو تطرد الخصم من تلقاء نفسها في تارة أخرى، بات مطلبًا مُلحًّا.

فمع الإبقاء عليه والإفادة من مزاياه، يلزم ضبط أعطال التقنية لتلامس حدها الأدنى. ثم يلزم عدم التضحية بصناعة الفقه الإجرائي؛ فالقضاة هم أيقونة القضاء ومحراب العدالة، ولا التفريط بصناعة الفقه التأصيلي؛ فالمحامون هم أبطال العدالة وأنصار الحق.


صفا للاستثمار:

كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

قبل أربعة أشهر، دعا محمد البديرات في مقالته «لماذا يحتكر خريجو الشريعة القضاء السعودي»، المنشورة في نشرة الصفحة الأخيرة، إلى فتح المجال لخريجي القانون لولاية القضاء، بناءً على العديد من الأسباب التي أوردها في المقالة.

وبعد ثلاثة أشهر من نشرها، أعلن وزير العدل، الدكتور وليد الصمعاني، أن خريجي القانون والحقوق سيعتلون منصة القضاء بعد اجتيازهم برامج متخصصة.


فاصل ⏸️


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+140 متابع في آخر 7 أيام