لست خائفًا: الرواية التي ستوقظ ذكريات طفولتك 😢

تتناول رواية «لست خائفًا» براءة الطفولة قبال المخاطر.

لقطة من الفلم المقتبس عن رواية «لستُ خائفًا» / Io Non Ho Paura
لقطة من الفلم المقتبس عن رواية «لستُ خائفًا» / Io Non Ho Paura

لست خائفًا: الرواية التي ستوقظ ذكريات طفولتك

حسين إسماعيل

حين بدأت قراءة رواية أمانيتي «لستُ خائفًا»، آخر ما توقعته أنها ستوقظ فيّ ذكريات طفولةٍ توارت تحت ركام الزمن. كانت ثاني قراءة للروائي الإيطالي، وقد اخترتها بناء على نقاط التشابه بينها وبين «أنا وأنت»، على الأقل كما توحي النبذة على غلافها الخلفي. اعتقدت أن سردها السلس ومنظورها الطفولي ومسرح أحداثها الريفي عوامل كافية لمنحي الشعور الحميمي نفسه الذي راودني حين قرأت رائعته الأخرى، وزادت حماستي لما قيل عن رتمه السريع، وممازجته بين الهزل والأسى بعالم العلاقات الطفولية.

تستهل «لستُ خائفًا» بمشهد تتسابق فيه مجموعة من الأطفال، ونجد «ميكيلي» -ابن التسعة أعوام- مترددًا بين الإسراع في صعود التل والظفر بمركز متقدم ضد أقرانه، أو التوقف لمساعدة أخته الصغرى «ماريا» التي تعثّرت في أحراش الدرب. يقرّر «ميكيلي» مساعدتها، ويخسر السباق الأول من أصل اثنين جاء ذكرهما في الفصول الأولى. بعدها يعود الشقيقان لمنزلهما، ويتفاجآن بعودة والدهما الذي يغيب عن البيت فترات مطوّلة بحكم عمله سائق شاحنة يتنقّل في أرجاء البلاد، وينعمان بحنانه وهداياه. فيبدو كل شيءٍ على ما يُرام؛ إذ المشاهد تدفئ القلب.

بدأت الأمور تتغيّر في اللحظة التي اضطر فيها «ميكيلي» لاستكشاف منزل مهجور في تل قصي، عقوبةً بعد خسارة السباق الثاني. نتابعه يقتحم المنزل من نافذة عليا ويتنقل بين أرجائه البالية بغية الخروج من الجهة الثانية وفتح الباب لرفاقه. وهو في معمعة كل ذلك، يتنبه لوجود حفرة مغطاة بمرتبة وأغراض أخرى تحجبها عن أعين الناظرين. وتحين الصدمة عندما اكتشف «ميكيلي» وجود صبي -نعرف لاحقًا أن اسمه «فيليبو»- مقيدًا بالسلاسل في الحفرة بحالة رثّة، وقد بلغ سوء حاله مبلغًا جعل «ميكيلي» يعتقد أنه ميت. الرعب الذي اعتراه جعله يفر هاربًا، وعاد مع أصدقائه للقرية دون إخبارهم شيئًا مما رآه، معتقدًا أن له الحق في الحفاظ على سره.

هنا طفا لسطح ذاكرتي ما اندفن في غياهبها. ناهزتُ عامي العاشر أو الحادي عشر آنذاك، وقد اعتليتُ مقعد دراجة الرامبو السوداء جزءًا من سربٍ يتكون من خمس أو ست دراجات تصول وتجول في القرية ونواحيها. كان التجوال عادتنا أنا وشلتي كل ليلة خميس، مختارين لأنفسنا دربًا حدوديًّا ما بين مناطق نفوذ متخيلة أو حقيقية لشلل أخرى. 

لا أتذكر الآن ما دفعنا يومئذ إلى التجوّل بالقرب من أحراش أحد الملاعب الترابية الكبرى بالقرية. يقبع الملعب في طرف ناءٍ تملؤه صغار المزارع وكبارها. وحتى الملعب نفسه محاط من ثلاث جهات بأحراش يزيد ارتفاعها عن المتر. وبالتالي ليس من الصعب إدراك الرعب الذي يبثه هذا الملعب حتى في رائعة النهار. 

لكننا مراهقون لا نهاب شيئًا، على الأقل كما نتخيل أنفسنا، ومن البديهي أن تجذبنا الأحراش لاستكشاف أعماقها. أوقفنا دراجاتنا خلف المرمى القصي عن الشارع، وسرنا نغالب العقربان والأثل وصرصرة ما اختبأ بينها. احتجنا بضع خطوات فقط لنجد أنفسنا أمام «عشّة»، وهي مساحة صغيرة خالية من الحشائش، تتناثر فيها بقايا كنبات وكراسٍ ونفايات أخرى. أحطنا بها نرميها بالحجارة ونقلّب محتوياتها، بل وكنا نخطط لتخريبها حين ذكر أحدنا بأن العشة مقر شلة فلان، أحد الذين يرادف اسمهم جرائم السرقة والاعتداء وقضبان السجن. بغض النظر عن صحة قوله من عدمها، قررنا الانسحاب سريعًا والعودة لحيّنا درءًا لأي مخاطر محتملة في حال لمحتنا عين أحد المارة.

ليس الغريب غياب التفاصيل عن ذهني حتى أعادها فضول «ميكيلي»، فتقمص الشخصيات الروائية ومعايشة تجاربها أمران طبيعيان، وما أكثر ما وجدت نفسي أتذكر شيئًا بفضل شرارة قدحتها رواية أقرؤها. ما أدهشني هذه المرة هو تماثل طريقة استحضار التفاصيل مع سرد أمانيتي نفسه، فمثلما قصصتها عليكم بعد عشرين عامًا من حدوثها، تُروى أحداث «لست خائفًا» على لسان «ميكيلي» البالغ، أي من زمن مستقبلي مقارنة بزمن العثور على «فيليبو» وما تلاه من مصائب. ولذا فإن معايشة تجربة «ميكيلي» بالنسبة لي قد نحت منحيين مختلفين: منحى أول متمثل في طفولة تضج بالصداقات والفضول والشجاعة المفتعلة، ومنحى ثانٍ في أحبولة الذاكرة التي اختارت إحياء التفاصيل داخل معنى مغاير لمعناها وقت حدوثها. 

يصور «ميكيلي» طفولته كما لو أن شجاعته تعانق السحاب، وهو تخيل مبرر في ظل تسلله فعلًا غير مرةٍ إلى الحفرة، متبادلًا الأحاديث مع «فيليبو» ومقدمًا له بعض الأطعمة، رغم كل مخاطر ضبطه متلبسًا بذلك. بل حتى بعدما علم «ميكيلي» أن الخاطفين هم والده وبعض أصدقائه -طمعًا بفدية مجزية- نراه يجازف بحياته لتحرير «فيليبو» قبل أن تطاله مخالب القتل، ضاربًا بتهديدات والده جميعها عرض الحائط.

لكن حالما ندرك الفجوة الزمنية بين الأحداث وسردها، بين «ميكيلي» الطفل الذي عايش الرعب، و«ميكيلي» البالغ الذي اختار حياكة التفاصيل وتقرير معانيها كما نقرؤها، تتولد مختلف التساؤلات لدينا حول دور الذاكرة المحوري في تأويل كل شيء. 

تتناول الرواية براءة الطفولة قبال المخاطر، والعيش المتقشف في ريفٍ بعيدٍ عن كل مظاهر الحياة المدنية، والصعوبات الأخلاقية في عالم رمادي. لكنها تُروى لنا من منظور بالغ متأمل في تباينات مرحلتين حياتيتين مختلفتين، وبالتالي فهي مصبوغة بالعديد من التطورات اللاحقة التي أمكن أن تنحو في دروب مغايرة.

لم يكن ما تعرّض له «ميكيلي» الطفل أمرًا اعتياديًّا، ولا شك أن انتهاء الرواية بإطلاق والده النار عليه -ظنًا أنه «فيليبو»- صدمة مروعة لا يشفيها تعاقب الأيام. لكن يحق للقارئ التساؤل حول ما توارى بين طيات الذاكرة، دون قدرة ذاكرة «ميكيلي» البالغ على تخطيه أو استحضاره. هل جرت الأحداث فعلًا كما تُروى لنا؟ هل كان «ميكيلي» -الطفل- شجاعًا فقط؟ أم أرعنًا كذلك؟ وهل بيئة «أكوا ترافيرسي» -مسرح أحداث الرواية- خصبةٌ لجعل مثل هذا الحدث أمرًا طبيعيًّا ضد قحط ظروف العيش؟

كل هذه الأسئلة مشروعة لأن الرواية تتبنى سردًا ماضويًّا، أي سردًا مؤطرًا من البداية وفق ما ظلّ حاضرًا في ذهن «ميكيلي» البالغ. والحقيقة أن هذا ديدن كل المؤلفات ذات الطابع التاريخي: لا يخلو أي تأريخ أو استحضار للذاكرة من إطار يُقولب -بطريقة أو بأخرى- كل الحقائق ضمن سردية أدبية. ذلك أن اختيار ما يُروى مرتبط ارتباطًا وثيقًا بكيفية روايته، ويمكن للقارئ اختبار ذلك من خلال اختيار تأويل صولات «ميكيلي» الطفل وجولاته من منظور الرعونة الطفولية، عوضًا عن الشجاعة التي اختارها «ميكيلي» البالغ. 

فلو تساءل القارئ مثلًا عمّا سيختلف لو انبنى السرد على منظور الطفل في حال عدم نجاته من الرصاصة الغادرة، سنجد الباب مفتوحًا على مصراعيه قبال تأويلات مغايرة قد تسلط الضوء على بنية الحياة الاجتماعية في ريف يفتقر لإمكانيات العيش الرغيد، أو على تنشئة الأبناء في بيئة جافة قائمة على فجوة كبرى ما بين هموم الأطفال والبالغين. في كل الأحوال، سيجد القارئ نفسه متأملًا في علاقة متذبذبة بين هامش السرد ومركزه.


  1. أعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا أسماء الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشرة لعام 2024. وفاز عن فئة الروايات العربية: علاء حليحل عن روايته «سبع رسائل إلى أم كلثوم»، ومحمد طرزي عن روايته «ميكروفون كاتم صوت»، ويوسف حسين عن روايته «بيادق ونيشان».

  2. صدر حديثًا عن دار الآداب، رواية «كل العشاق في الليل» لليابانية مييكو كاواكامي، من ترجمة أحمد جمال سعد الدين. وصدر للكاتبة عن الدار ذاتها رواية «الجنّة» بترجمة زوينة آل تويه. 

  3. غادر عالمنا الروائي التشيكي أنطونيو سكارميتا عن عمر يناهز ثلاثة وثمانين عامًا. يعدّ الراحل من أهم كتّاب أمريكا اللاتينية، حيث تُرجمت أعماله للغات عدة، ومن أبرز أعماله المترجمة للغة العربية: رواية «ساعي بريد نيرودا» ورواية «عرس الشاعر» ورواية «فتاة الترومبون».

  4. غيّب الموت الروائي الأميركي ‎روبرت كوفر عن عمر ناهز اثنين وتسعين عامًا. يعدّ الراحل رائدًا للأدب الإلكتروني بتأسيسه أول قسم لتدريس السرد الرقمي والنصوص التشعبية في جامعة براون.


توصيات النشرة من ستّار الأسدي:

  1. المسرات والأوجاع، فؤاد التكرلي

الكتاب الورقي / قودريدز

تعد الرواية من أهم الأعمال الأدبية العراقية التي غطت حياة الفرد العراقي في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى، وكأنما هي رواية تاريخية ترصد حياة عائلة عراقية بأكملها وبمختلف أجيالها. تدور أحداث الرواية حول بطلها «توفيق» الذي كان مزيجًا بين المسرات والأحلام والآمال، وبين الأوجاع والمعاناة والخيبات. فهو يجعلك بالبدء تتشوق لمستقبله الباهر والفارق الذي ينتظره، لكنك تُصدم أخيرًا بأنه لم يكن سوى نموذج مثالي للرجل البائس الذي تحكمه شهواته. رواية لا تنفك منها أبدًا.

فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+100 متابع في آخر 7 أيام