لماذا نحاول تطهير ماضينا؟
قراءة التاريخ دون نقد المفاهيم المستخدمة في تحليله، ودون تمحيص كيفية تولّد معرفتنا التاريخية، ستؤدي بالضرورة لمغالطات لا يحمد عقباها.
حسين إسماعيل
قرأت كتاب شكيب أرسلان «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» أول مرة قبل عشر سنوات تقريبًا. كنتُ في سنتي الجامعية الثانية آنذاك، غارقًا فيما يدور من نقاشات محتدمة وتنظيرات مستمرة حول الأحداث السياسية والتغيّرات الاجتماعية التي يمرّ بها العالم العربي منذ عام 2011 وما تلاه من أعوام. وجودي في الولايات المتحدة حينئذ جعلني -بالرغم عني- أقارن أنماط الحياة والتفكير هنا وهناك، وتشاركت مع أقراني طرح أسئلة بدت مفصلية: كيف بلغوا هذا التقدم؟ ولماذا هم متفوقون علينا في شتى شؤون الحياة؟ وما الذي ينبغي علينا فعله لنصل إلى المرحلة التي وصلوها؟
في خضم هذه الهموم، جاءني كتاب أرسلان في وقته، فكما يوحي عنوان الكتاب، تتمحور أطروحته الرئيسة حول أسباب تخلف المسلمين -أينما كانوا- عن غيرهم، لا سيما شعوب أوربا، ويستقرئ الكاتب ماضي الإسلام وحاضره في سبيل تشخيص عوامل الانحطاط ورسم سبيل دحرها. وما أشد اغتباطي بما لقيته من توافق بين آرائه وبين ما اعتنقته وقتها عن ضرورة إعادة صياغة علاقتنا بالتراث وعن أهمية التعليم الحديث، وغيرها من الآراء المرتبطة عمومًا بكيفية قراءة تاريخنا.
استحضر ذهني هذه الذكرى حين شرعت في قراءة مقالة «اختلاف الفتح الإسلامي عن الاستعمار» في عددٍ سابق من هذه النشرة، فلو كنتُ اليوم أحمل ذات القناعات الفكرية التي حملتها قبل عشر سنوات؛ لاحتفيتُ بما ورد في المقالة من تفريقٍ بين الفتوحات والاستعمار من ناحية المبدأ والغاية، ولأشدت بالأطروحة التي تمازج بين التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع، وتنتصر للإسلام -أخلاقيًّا- على أعدائه.
ولكن السنوات العشر الفائتة كانت كافية لتغيير كل ذلك. أكملت دراساتي العليا في الآداب والتاريخ، وأتيحت لي فرصة الانكباب بحثًا على الأسئلة المؤّرقة، دون قلق يدفعني لرسم خطوطها على طول مسار مسبق يضمن لي وظيفة في مؤسسات تعليمية أو بحثية، أي دون حاجة للتقيّد بأي تيارات أو مدارس منهجية أو ما أشبه.
أشدّد على هذه النقطة نظرًا لارتباطها اللصيق بتهاوي القناعات التي كانت ستجعلني أُعجب بمقالة الفتح والاستعمار كما أُعجبت بكتاب أرسلان، ذلك الإعجاب المبني على الانغماس في إشكاليات متعددة المستويات، حقائقية ومفاهيمية. فلو كنتُ قد التزمت بإطار مسبق يقرر الأسئلة والمفاهيم المشروعة ذات الصلة بموضوع البحث؛ لكنت قد دخلت في الدوامة من جديد. ولكن حرية التساؤل أتاحت لي إعادة التفكير من زوايا زلزلت تصوراتي القديمة بشكل لا رجعة فيه.
وفق هذا المنظور المختلف، اتضح لي افتراض الأسئلة في افتتاحية هذه المقالة تصورًا مرحليًّا للتاريخ تنقسم فيه أرجاء المعمورة لشعوب متقدمة ومتخلفة، وافتراضها أن الانحطاط والتقدم ظاهرتان داخليتان (Internalist) في ثقافة الشعوب، أي أنهما وليدتا خصائص محدودة بحدود هويات الشعوب وتقاليدها.
ووفق هذا المنظور المختلف أيضًا، سيصبح مثارًا للشك ما يرد في مقالة الفتح والاستعمار من افتراضات حول الأمة الإسلامية الممتدة عبر التاريخ، إذ يشي ذلك بانزياح مفاهيمي يجعل مفهوم الأمة هنا مرادفًا لمفهومها العرقيّ كما تبلور في القرون الأخيرة، وهو المفهوم الذي تبنته حركات الإسلام السياسية تحديدًا منذ بدايات القرن العشرين.
وكذلك يصبح وضع الفتح والاستعمار في الإطار نفسه محل تساؤل، إذ سرعان ما يوحي بـ«تشييء المقولات المفاهيمية» (Conceptual Categories of Analysis) المستخدمة في استقراء الماضي، الأمر الذي يبرر للكاتب استخدام المفهومين دون الحاجة لفحص محتواهما المفاهيمي على ضوء الاستقصاء التاريخي.
تهاوت قناعاتي السابقة مذ صار تأريخ الأفكار همي الشاغل، عوض التركيز على الاتساق المنطقي للطرح وتفاصيله، وجدتني أنصرف لتحليل الإطار المعرفي الذي يرد الطرح ضمنه أساسًا، أي الإطار الذي يشرعن معاني أسس الطرح واستشهاداته ونتائجه. أزعم أن هذا الانصراف خير وسيلة لتمييز المغالطات التاريخية التي قد تفضي لعكس ما يزعمه الطرح أصلًا.
يستبطن هذا الانشغال سؤالين مترابطين: كيف يمكن تقصي الأفكار تاريخيًّا؟ وما الدور الذي يلعبه هذا التأريخ في حاضرنا؟ لا يسع المجال للإسهاب في حيثيات كل منهما، ويكفي من ذكرهما هنا الإشارة لأهميتهما في تقويض المقولات المفاهيمية التي نحلل الماضي بواسطتها. مثلًا، يفضي السؤال الأول لجعل المقولة -بحدّ ذاتها- موضوع بحث تاريخي: متى ظهرت الفكرة في المصادر التاريخية الأولية، أي تلك التي تنتمي للحقبة المدروسة؟ وما حيثيات استعمالها في ذلك الزمن؟ وما السياقات المعرفية التي تسبغ عليها المعنى؟ وهل يصح اعتبارها مقولةً صالحة لكل زمان ومكان؟
أما السؤال الثاني فهو يستوجب على الباحث تسليط الضوء على ما يجعل موضوع بحثه ذا صلة بواقعه. تتبنى جملةُ من الأبحاث منطلقًا يعيد تفسير الماضي ليتواءم مع قيم الحاضر، وأخرى تتبنى منطلقًا يهدف لشرعنة فكرةٍ معاصرة عبر الاستناد لمتن التاريخي. وهنالك أيضًا صلات أخرى متمثلة في نزعات الاعتبار من التاريخ، أو فهمه على ضوء حركته التطورية، بل هناك نزعات تعدُّ التاريخ عمومًا حجةً أخلاقية على الحاضر.
وضع هذه التساؤلات بعين الاعتبار يمكّنني من تحديد مغالطتين تاريخيتين رئيستين تتخللان طرح مقالة الفتح والاستعمار. أولهما هي مغالطة الحاضرية (Presentism)، والتي يمكن صياغتها بإيجاز من القول أنها إسقاط قيَم الحاضر ومفاهيمه على الماضي.
أما ثانيهما فهي مغالطة «التنقيحية» (Revisionism)، والتي تشير بشكل عام لإعادة قراءة التاريخ رغبةً في تقديم تأويل مختلف لما يُعتقد أنه حقيقة تاريخية. وبالرغم من أن إعادة القراءة هذه قد تكون ضروريةً لتصويب بعض الأمور، إلا أنه من السهل الوقوع في فخ تنقيح الماضي وفقًا لقيم فكرية محددة. وهنا يكمن اختلافها مع الحاضرية: فبدل الاقتصار على قراءة التاريخ بمفاهيم الحاضر، تقوم التنقيحية بإعادة تأويله وفقًا لاشتراطات تمليها الآيديولوجيات المعاصرة.
ولكن قبل التطرق إليهما، ثمة تنويه ضروري أخير حيال فكرة الإطار المعرفي. وأستسمح العذر من القارئ على الغوص في حيثيات موغلة بعض الشيء في التجرد، حيث لن يتسق تناولي للمغالطتين دون توضيح منطلقاتي، حتى وإن كان الإطار المعرفي ليس موضوعي الأساسي.
على كل حال، مثلما أن تأطير الصورة الفوتوغرافية يعزلها عن محيطها، فإن التأطير المعرفي يعني بأبسط تعريف: رسم الحدود على الظواهر بغية تسهيل مقاربتها معرفيًّا. فالإنسان مثلًا موضوع دراسة مجالات معرفية مختلفة، ولكن اختلاف منهجية المجالات ومنطلقاتها يؤدي لتسليط الضوء على جانب -أو جوانب- دون أخرى. ولذا تدرس علوم النفس -مثلًا- الفرد بما هو فرد، في حين تركز علوم الاجتماع عليه بما هو كائن اجتماعي، وعلوم السياسة عليه بما هو مواطن ضمن مؤسسات حاكمة. وفي كل مجال يصح تسمية المقاربة بالإطار النفساني أو الاجتماعي أو السياسي، وهكذا دواليك.
ولكن لعملية رسم الحدود على الظواهر أثر جانبي آخر، ألا وهو افتراض وجود روابط بين عناصر الظاهرة ضمن اتجاه معرفي محدّد. بعبارة أخرى، لا يقتصر الإطار على فصل الظاهرة عن غيرها، بل يفصلها على ضوء مقولات مسبقة تسبغ المعنى على الروابط الداخلة فيه. ولذا نجد الإطار السياسي يفترض أن الظاهرة -موضوع البحث- قابلة للتحليل بواسطة مقولات «سياسية» بغض النظر عمّا تفترضه مقولات المجالات الأخرى، وهو ذات الافتراض الذي يجعل الباحثين في علم السياسة يركزون على كتاب أرسطو «السياسة» بمعزل عن طرحه حول الروح والبلاغة والميتافيزيقا.
لكن ما علاقة كل ذلك بمغالطتيّ الحاضرية والتنقيحية؟ العلاقة هي أنهما تستبطنان إطارًا تاريخيًّا مسبقًا يقرر ما يدخل ضمن موضوع البحث، وما يقبع خارجه. فبغض النظر عن تعقيدات الظاهرة التاريخية، إلا أنه يُختزل تناولها في مجالات معرفية ومفاهيمية محددة. قد تفترض مغالطة الحاضرية مثلًا أن «مفهوم "الدولة" المعاصر معيار استقراء أشكال الحكم في التاريخ»، ولذا تحلّل مشروعيتها ونجاحها وفشلها قياسًا على اقترابها من مفهوم الدولة المعاصر، أو تقرأ طرح المفكرين في الماضي وفق نجاحهم في إدراك جوهر الدولة الحقيقي.
وإضافة لذلك، في معرض تبني هذا الإطار، تنطلق المغالطتان من علو كعب المعرفة المعاصرة. ولا أقصد هنا وفرة المعلومات التي لم تكن لتتوفر لمن عاشوا في الماضي -وهذا لا غبار على صحته-، بل أعني افتراض أننا نمثل مرحلة متقدمةً مفاهيميًّا تجبّ ما قبلها. قد يتخذ ذلك صيغة تشييء المفاهيم المستعملة في التحليل، أي افتراض تساميها على التاريخ بحيث لا يحتاج الإلمام بها إلا التأمل الفلسفي في جوهر مزعوم لها. وهنا جاذبية التنقيحية، إذ تستطيع إعادة قراءة الماضي على ضوء مفاهيم معاصرة. وأوضح الأمثلة على ذلك ما يرد في أدبيات المؤرخين الماركسيين من تأويل الماضي من منظور صراع الطبقات.
ربما تكفي هذه الجرعة الزائدة من التنظير، وحريّ بي الآن تدعيم كل ذلك باستشهادات مما أنقده.
فلنأخذ مثلًا الاقتباس التالي من مقالة «اختلاف الفتح عن الاستعمار»، حين يتحدث الكاتب عن الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية التي «استطالت إلى أوربا فدخلتها للمرة الأولى». العبارة مفهومة لقارئ الحاضر الذي يدرك وجود خطاب معرفي يجعل غرب أوربا كيانًا سياسيًّا وثقافيًّا متجانسًا. ولكنها في الحقيقة تنطوي على تشييء فكرة «أوربا» كما لو أنها قائمة فوق الزمان والمكان، أي دون اعتبار لكون المفهوم قد تبلور في كنف عملية معقدة تبلورت مع بدايات الاستعمار أواخر القرن الخامس عشر.
يتكرر الشيء نفسه في استخدام الكاتب لمفردة «الحضارة» باعتبارها المفردة المقابلة لـ(Civilization) وهي مفهوم حديث تستبطن انقسام الثقافات على طول «خط تاريخي مرحلي طرفاه التقدم والتخلف». بعبارة أخرى، ترد الحضارة هنا كمفهوم عمراني وتاريخي في الوقت نفسه، بحيث يكون «الآخر» للحضارة بربريًّا ثقافيًّا ومتخلفًا زمنيًّا.
قد يحتج قارئ مستقعد بأن مفهوم الحضارة قديم قدم البشر، وأن الشعوب منذ فجر التاريخ لطالما عرّفت حضارتها قبال لا-حضاراتٍ محيطةٍ بها، وبالتالي سيكون من المجحف اتهام المقالة بتشيّيء الحضارة. وهذا صحيحٌ لو اقتصر المفهوم على هذا التصور، لكن الحقيقة أن المقالة تستخدم الحضارة بصفتها مفهومًا يشمل اللغة والثقافة والعادات والحدود الجغرافية، مما يعني استناده على تجانس ثقافي لم يتبلور إلا في القرون القليلة الأخيرة مع صعود القومية وآيديولوجياتها. على ضوء هذا التجانس، تصبح الحضارة امتدادًا للتقسيمات الكونية العرقية، أي أنها امتداد لسمات بيولوجية تتفاوت الأعراق في حيازتها.
يمكن أخذ مثال ثالث يمازج ما بين الحاضرية والتنقيحية، وهو ما يرد في المقالة عن ارتكاب الفاتحين ممارسات «لا تُحسب على الإسلام، ولا تؤثر في سلامة فكرة "الفتح"». لا أعرف ما إذا تأثر الكاتب بالتصورات «الطهرانية» (purist) التي ترسم صورة الإسلام بما يرضي منتقديه المنطلقين من فوقية قيم الغرب اليوم، ولكن أعرف يقينًا كونه واقعًا في شراك إعادة قراءة الماضي وتنقيحه على ضوء ما هو مقبول اليوم، وهذه المغالطة يقع فيها كلا الطرفين بطبيعة الحال، إذ يفترض «أعداء الإسلام» شكلًا محدّدًا للدين تصبح تلك الممارسات جزءًا منه.
وأختم أمثلتي بجملة المقالة الأخيرة: «بهذه المعطيات يصح أن يُقال عن الفتح الإسلامي، بأنه أدخل أقاليمَ إلى دائرة التاريخ بعد أن كانت خارجها، وجدّد الحيوية التاريخية في أقاليم أخرى بعد أن ركدت ريحها وجنحت إلى السكون.» فلو استبدلنا عبارة «الفتح الإسلامي» بـ«الاستعمار»، لما اختلفت الجملة عن تبريرات أنصار الاستعمار -مثل نيال فيرغسون- القائلين بأن احتلال الشعوب ونهب ثرواتها كان في الواقع لمصلحتها.
ومن جانب آخر، تنطوي الجملة على افتراض أن هنالك من الشعوب من هو داخل التاريخ ومن هو خارجه، وأن هنالك من الشعوب من يتسم بالديناميكية قبال شعوب أخرى تتسم بالركون والجمود. ولعل القارئ يدرك دور هذا التصور الهيجلي في أطروحات المنافحين عن المركزية الغربية وتفوق العرق الأبيض.
إذا كان الاستعراض أعلاه مقنعًا لحدٍّ ما، فلعل أهمية نقد الإطار المعرفي صارت جلية. قراءة التاريخ دون نقد المفاهيم المستخدمة في تحليله، ودون تمحيص كيفية تولّد معرفتنا التاريخية، ستؤدي بالضرورة لمغالطات لا يحمد عقباها. ولذا ينبغي مساءلة الإطار الذي يشرعن سؤال «كيف يختلف الفتح الإسلامي عن الاستعمار؟»، وهي خطوة أولى تجرّ الباحث لتمحيص المتن التاريخي للمقولات التي يتبناها الإطار.
فاصل ⏸️
يتحدث عالم اللغويات الأرجنتيني والتر ميقنولو، في محاضرته «الاستعمارية: الوجه الأظلم للحداثة الغربية»، عن الفرق بين «الاستعمار»، وهو العمل السياسي المحدود زمنيًّا والغائب اليوم، وبين «الاستعمارية»، وهي آثار الاستعمار الفكرية الراسخة إلى اليوم في الدول المستعمَرة، ويشرح أشكال وجود الاستعمارية وآثارها اليوم.
لا بد أنك قد سمعت عبارة «التاريخ يكتبه المنتصرون»؛ دلالةً على أن معرفتنا اليوم لأحداث وحقائق الماضي ليست إلا ما أرادت السلطات المنتصرة تثبيته ونقله إلينا.
يحاجج حسين إسماعيل في مقالته «هل المنتصر هو من يكتب التاريخ؟» بخطأ هذا التصوّر الشائع، عبر دلائل تاريخية مغايرة لهذه القاعدة، وشرح آليات التأريخ وتعقيداته.
أشارك في هذه الفقرة رسائل القراء وآرائهم حول أي رأي طرحه العدد السابق، سواءً وافقوه وأضافوا عليه أو نقدوه.
شاركنا رأيك حول آراء هذا العدد بالرد على هذه الرسالة، أو عبر بريد النشرة safha@thmanyah.com، على ألا يتجاوز مئتي كلمة، ليظهر في العدد القادم.
متطلّع لأفكارك!
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
نشرة أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات تحليلية لكتّاب بمجالات عدّة. يمنحونك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.