لماذا يحتكر خريجو الشريعة القضاء السعودي
إن فتح المجال لخريجي القانون لولاية القضاء، لا سيما المحاكم المتخصصة والقضاء الفرعي، صار ضرورةً ومطلبًا لا ينبغي تجاهله.
محمد البديرات
مع بواكير نشوء الدولة السعودية، أوْلَت السلطةُ القضاءَ الأهمية التي توازي الغاية من وجوده، وهي الفصل في المنازعات؛ فالقضاء قِوام كل دولة. وكان الاعتماد على أهل الشرع وخاصته له ما يسوغه، لا سيما في دولة تندر فيها التقنينات، ومجتمع متديّن تحكمه كذلك الأخلاق والعادات، وعلاقات بينيّة محدودة تتّسم بالبساطة.
وقد فرض المؤهل الشرعي حضوره النوعي، وأظهر كفاءة وتميّزًا في تطبيق القواعد الفقهية. وطبّع خصوصيته حتى صار المذهب الحنبلي علامة فارقة للدولة السعودية. وقد تماهى ولي الأمر مع هذا التوجه، فشاع استعمال مصطلح «النظام» بدل «القانون» وسمّيت السلطة التي تصدر الأنظمة بالسلطة «التنظيمية» بدلاً من «التشريعية»، واشترط نظام القضاء فيمن يولّى القضاء «أن يكون حاصلاً على شهادة إحدى كليات الشريعة بالمملكة أو شهادة أخرى معادلة لها».
إن شرط لزوم المؤهل الشرعي وجدواه في القضاء لم يكن في مرحلة ما محل نقاش؛ بل إن مجرد التفكير في طرحه يعد مسًّا بالثوابت المسلّمة، وطعنًا بالدّين من وجه. وفي المقابل فإن التفكير في تولّي القانوني القضاء هو فتنة في الأرض وفساد عريض.
وقد اضطرت السلطة منذ عهد بعيد -نتيجة هذا الإقصاء- إلى استحداث «اللجان شبه القضائية» التي يرأسها مختص ذو تأهيل قانوني؛ ليُناط بها الفصل في الموضوعات التي كان القضاء الشرعي «يتحرَّج» من النظر فيها، أو تحتاج لتخصص قانوني وخبرة فنية لا تتوافر لدى القاضي. وقد صارت هذه اللجان التي تمسّ وحدة السلطة القضائية بمثابة المحاكم الخفيّة، ووُصفت، لفرط وجودها الذي تجاوز المائة، بقضاء الظّل.
إن تبني رؤية السعودية 2030 قد شجّع الكثيرين على إعادة صياغة السؤال الذي يتعلق بمؤهل القاضي: لمَ يمُنع القانوني من توسّد القضاء؟ وقد ترجم مجلس الشورى قبل بضع سنوات موقفه بالموافقة على جواز تولي القضاء للحاصلين على شهادة البكالوريوس في القانون بمسمياته المختلفة. ولكن حتى اللحظة لم يتم اتخاذ أي خطوات تشريعية أو تنفيذية باتجاه تبني هذا المقترح رسميًّا!
تشهد الدولة بكافة أجهزتها حركة تقنين غير مسبوقة. وقد باتت علاقات الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين البينية، والعلاقة مع الدولة كذلك، محكومة بقواعد قانونية مقنَّنة، اكتمل عقدها البهيّ بصدور ثلاثة من أهم الأنظمة في الدولة: نظام المعاملات المدنية، ونظام الأحوال الشخصية، ونظام الإثبات. ونترقب صدور النظام الجزائي؛ ليُسدل الستار عن مرحلة الاعتماد على المرجعية الفقهية المباشرة. ويُفتح الباب أمام تطبيق النصوص النظامية على كافة الوقائع وفي جميع المنازعات. وعندئذٍ سيغدو استبعاد القانوني من توسّد منصة القضاء أمرًا مثيرًا للاستغراب.
إن تطبيق النصوص النظامية في محاكم متخصصة ودوائر فرعية على منازعات ذات طبيعة فنية متخصصة ومتشعّبة وعلاقات معقدّة يستوجب تأهيلاً قانونيًّا بمستوًى عالٍ؛ فالتطبيق السليم للأنظمة يستلزم قدرًا من التبصّر بالمعارف القانونية العامة والمتخصصة، وفهمًا عميقًا للمبادئ والأصول القانونية الثابتة، والدراية المتمكنة بأصول التفسير وقواعده وأوجه إعماله، وإذا كان لا يتهيّأ للقانوني إلا نذرًا يسيرًا من هذا خلال سنوات الدراسة الجامعية كلها، فكيف بالشرعي الذي لا يتيسّر له أيًّا منها!
ولا يظننَّ أحدٌ أن تأهيل خريج كلية الشريعة بدراسة قانونية في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يكفيه ليتوسّد القضاء؛ فالدراسة في المعهد لا تُعنى بالتأسيس، وموضوعاتها انتقائية، جُلها يعتمد على متطلبات لم يسبق دراستها؛ وإزاء ذلك لا تكفي لسدّ النقص في المعارف القانونية وقواعد تفسيرها وأصول تطبيقها، وأولى من ذلك كلّه جبر النقص في المعارف الشرعية لخريجي القانون، زيادة على الموضوعات التي يدرسونها، إذا احتيج لها.
إن فتح المجال لخريجي القانون لولاية القضاء، لا سيما المحاكم المتخصصة مثل القضاء الإداري والتجاري، والقضاء الفرعي كالقضاء الطبّي والتقني، صار ضرورةً ومطلبًا لا ينبغي تجاهله. لا سيما مع تكرار الدعوات لإلغاء اللجان شبه القضائية وإعادة اختصاصاتها إلى حضن القضاء العام.
كلما تأخر صدور القرار بتمكين القانوني من ولاية القضاء زادت الكلفة على منظومة القطاع العدلي، واستمرت المعاناة من تسرّب القضاة، ونقص التشكيل القضائي في المحاكم، وتعمّقت شكوى القضاة من الأعباء الكبيرة التي يثقل بها كاهلهم، فضلاً عن اختلال في المعالجات القضائية وضعف في صياغة الأحكام وتسبيبها.
وبالتزامن مع ما تقدم، نرى فتح المجال أمام المحامي، خرّيج كليات القانون، الممارس لمدة لا تقل عن سبع سنوات، ليكون قاضيًا، بعد تدريبه وتأهيله لمدة سنة، فمثله خبِر القضاء والقضايا، وتمرّس في الدفاع والمرافعات، ودرس الأنظمة، واجتهد في معرفة أوجه تنفيذها وقواعد تطبيقها. وهو بعد هذا كله كفى وزارة العدل مؤونة التدريب الطويل والنفقات الباهظة.
أخشى أني بهذه الكلمات قد نكشت عش الدبابير، لكن عزائي أني قصدت رضا ربّي، والنصيحة الخالصة للبلد الطيب، وردّ الجميل لأهله الكرام. والله من وراء القصد.
فاصل ⏸️
«المنطق: ثابت، رجولي، منضبط ونرى أفضليته، على النقيض من العاطفة: واهنة، أنثوية، مندفعة، والتي لا نرغب بها. أليس كذلك؟»
تستعرض مقالة «اشعُر وفكّر كمحامي: دور العاطفة والتفكير القانوني في صناعة القرار» لكرستين كونراد دور العاطفة الجوهري والإيجابي في طبيعة عمل المحامي، وخطأ التصوّر الشائع بلزوم ملازمة المحامي للمنطق والعقل وحدهما.
توضّح حلقة بودكاست جادي «حماية البيئة تسببت في دهس الأطفال» خطأ الالتجاء المباشر للقانون والتشريع لتحقيق أي تغيير، وتستعرض مآلات ذلك السلبية عبر عدد من القصص والتجارب العالمية، وتقدّم البديل والحلول لتحقيق التغيير دون الانعكاسات السلبية الممكنة.
أشارك في هذه الفقرة رسائل القراء وآرائهم حول أي رأي طرحه العدد السابق، سواءً وافقوه وأضافوا عليه أو نقدوه.
شاركنا رأيك في هذا العدد بالرد على هذه الرسالة، أو عبر بريد النشرة safha@thmanyah.com، على ألا يتجاوز مئتي كلمة.
متطلّع لأفكارك!
*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.
مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.