الجنون في الروايات 🫨

أهمية النهايتين في «البومة العمياء» و«مرحلة النوم» تكمن في تصويرهما ذروة الجنون التي بلغتها الشخصيتان رغمًا عنهما.

تصوّر الجنون في لوحة «على حافة الهاوية» لقوستاف كوربيه / Getty Images
تصوّر الجنون في لوحة «على حافة الهاوية» لقوستاف كوربيه / Getty Images

الجنون في الروايات

حسين إسماعيل

بعد أن أنهيت قراءة «البومة العمياء» قررت البدء بقراءة «مرحلة النوم» للروائي المصري محمد خير، أخذًا بنصيحة من صديق، ولم أعرف عن حضور الجنون ثيمةً رئيسة في هذه الرواية حتى بدأت مطالعتها. اقترحَ صديقي قراءتها بعدما أعجبَته مؤلفات الكاتب السابقة، مشيرًا لاكتناز روايته الجديدة بمواضيع النقاش المحتملة، وهي تبدو كذلك فعلًا، إذ أن بطل الرواية سجين سابق لاقى من عذابات السجن والحبس الانفرادي والتآمر ما لاقاه، وبالتالي يمكن قول الكثير عن الحرية والغياب والأنظمة البوليسية وعلاقة كل ذلك بـ«نفسية» (psyche) الفرد.

المشكلة أن رواية «البومة العمياء» -بدورها- كانت تتمحور حول الجنون هي الأخرى. يُعدُّ صادق هدايت -مؤلف الرواية- مؤسّس الرواية الإيرانية الحديثة عبر روايته هذه، ويا ما تم الاحتفاء بالرواية والتطبيل لموضوعاتها وأساليبها، وعدّها كلاسيكية ينبغي التعريج عليها. ونظرًا لخلو قراءتي الأولى قبل عشر سنوات من تذوق كل ذلك، لمت نفسي وقصوري، وعزمت منذئذ على معاودة قراءتها حين أصبحُ ذوّيقًا وضليعًا، وذا خبرة قرائية لا يُستهان بها مستقبلًا.

وأبشركم أن انطباع القراءة الثانية جاء مشابهًا كثيرًا للأولى. وأحسب لنفسي تركيزي هذه المرة على تغيّر تصور البطل لنفسه، وعلى العلاقة بين هذيانه ورمزية الحسناء، وهو ما مكنني من قراءة تحولاته الذهنية بشكل أفضل. مع ذلك، لا أزال عاجزًا عن هضم الرواية تمامًا، وثمة العديد من التساؤلات التي تساورني حيال مشاهدها الغريبة. 

لحسن حظي، لم تضع قراءتايَ سدى. إذ يتشارك كلٌّ من بطلي الروايتين في تدهور حالتهما الذهنية، صرت أقرأ جنون «وارف»، بطل «مرحلة النوم»، في قبال جنون بطل «البومة العمياء» مجهول الاسم. كلاهما مجنون، هذا أمر مفروغ منه، لكني أزعم بأنّ ثمّة اختلاف في جنونهما وتصورهما عن ذاتيهما، فضلًا عن أن اختلاف السرد الناجم عن ذلك، مادة خصبة لتقديم قراءة مقارنة سريعة تثري فهم كلا النصين.

تبدأ رواية «البومة العمياء» -الصادرة عام 1936- وتنتهي على لسان البطل الذي يقرر مقاومة الموت عن طريق الكتابة. وهو لا يكتب لنا أو لأي قارئ عام، بل لظله الذي على الجدار، ظله الذي يشبه البومة. ومن خلال ما يرويه، فهو يذكر حينما زاره عمه يومًا، فيقرر البطل -من باب الضيافة- فتح قارورة النبيذ المعتقة التي يحتفظ بها فوق الخزانة. وفي معرض محاولته لجلبها، ينظر من النافذة فيجد في قبالة عينيه المشهد نفسه الذي اعتاد رسمه مرارًا وتكرارًا على محافظ الأقلام -وظيفة البطل هي الرسم على هذه المحافظ- حسناء تنحني بكل جمالها على عجوز متربع بالقرب من نهر فياض.

بغض النظر عمّا إذا كان المشهد الذي رآه حقيقةً أم خيالًا، تصبح حالة انفصام البطل عن العالم أكثر حدة، ويزداد تعلقه بتلك الحسناء، واجدًا فيها قدره المحتوم الذي يستحقه. ولذا فهو لا يعتريه الاستغراب حين تقرر الحسناء المجيء لمنزله والموت بين ذراعيه. كما أنه لم يجد حرجًا بعد ذلك، لا في تكفينها ودفنها، ولا في رحلاته التي تخترق حدود المعقول، إذ يعيشها كما لو كانت سلسلة طبيعية من الأحداث. ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، يتذبذب السرد ما بين مشاهد واقعية وأخرى سريالية، وتتداخل ملاحظات البطل بذكريات طفولته وتأويلاته لعلاقته بزوجته ووالديه، تاركًا القارئ عاجزًا عن التمييز بين الواقع والجنون في أغلب الأحيان. 

في المقابل، تتبع رواية «مرحلة النوم» -الصادرة عام 2024- حبكة أكثر وضوحًا، مسرودة من منظور الشخص الثالث. تستفتح الرواية ببطلها «وارف» وهو عازم على استعادة وظيفته القديمة بعدما أنهى محكومية سبع سنوات في السجن. وخلال محاولته ذلك، يعرج على الطرقات والمناطق التي بات عاجزًا عن تمييز معالمها، ويقابل معارفًا وأحبة كانوا في حياته قبل السجن، ويتعرض بين الحين والآخر لنوبات هلع يستحضر فيها كيف أُلقي القبض عليه في الشارع في وضح النهار؛ بسبب منشور فيسبوكي، وما لقيه بعدها من عذابات الحبس. وتتنقل الرواية بين وجهات نظر الشخصيات المختلفة وهي تحاول تفسير ما يجري لـ«وارف» واستقراء حالته، إضافة لمساعدته -قدر الإمكان- في العودة لما تبقى من حياته السابقة.

وكما أسلفت ذكرًا، فالقاسم المشترك بين بطليّ الروايتين هو وعيهما بتدهور حالتهما الذهنية، وما يختلفان فيه هو إدراكهما لمداه، أي مدى وعي كل منهما بالمرحلة التي وصلاها وبقدرتهما على تطويع الجنون لصالحهما.

يدرك بطل «البومة العمياء» سوء حاله، ويقول بصريح العبارة بأن إدمانه الأفيون مثلًا قد فاقم أزماته الوجودية وانفصاماته، حتى لو أقر بكونه مَهرَبًا جزئيًّا من الواقع المرير. ولذا فهو يشاركنا الحيرة حول ما إذا كان يسرد لظله واقعة حقيقية أم هذيانًا مستفيضًا.

في المقابل، نعلم في الثلث الأخير من «مرحلة النوم» أن «وارف» قد اتخذ قرارًا شخصيًّا بالمضي للجنون طائعًا، أو هكذا يعتقد على الأقل. فحين وجد نفسه في زنزانة انفرادية ضيقة، قرر بألّا يظل عاقلًا في عالم لا يستحق العيش، وصار يحدّ ذهنه على الأوهام والتخيلات التي من شأنها إخراجه عن طوره.

إن العلاقة بين الحبس الانفرادي والعواقب الذهنية الوخيمة معروفة، ومن المنطقي أن يتساءل القارئ عمّا إذا كان «وارف» قادرًا على صيانة عقله من الجنون أساسًا. لكن بغض النظر عن ذلك، يمكننا أن نأخذ بعض مشاهداته -مثل الغزلان وحيوانات أخرى، وذكرياته بالسجن- ونعيد قراءتها كما لو كانت فعلًا وليدة عقل متدهور خارج سيطرة صاحبه. بعبارة أخرى، حتى وإن حاول «وارف» إقناعنا بسلامة عقله، فهناك في السرد ما يُفشي بتسرّب جنونه.

إذن، يحضر الجنون في «البومة العمياء» باعتباره ردة فعل ضد واقع مرير يجد صاحبه أنه أوهن من تغيير شيء فيه، في حين يجد «وارف» الجنون في «مرحلة النوم» حلًّا جذريًّا للتأقلم مع الواقع. وهنا أحد مفاتيح فهم الشخصيتين: في سرد هدايت يجد القارئ نفسه مضطرًّا للتشكيك في كل ما يسرده البطل؛ كيلا يقع في دوامات هذيانه. وفي الوقت نفسه -نظرًا لانبناء السرد على منظور الشخص الأول- يصبح عالم الرواية بحد ذاته موضع تساؤل، والنتيجة هي أن الواقع المرير غير قابل للتأويل إلا ضمن ما يُدلي به البطل نفسه.

وكل ذلك جاء على العكس من سرد محمد خير. فمن جانبٍ لا يزال البطل رزينًا للحد الذي يسمح للقارئ بمجاراة أغلب أفكاره دون إشكالات حقيقية. ويساعد في ذلك منظور الشخص الثالث في الرواية، إذ يُبقي مساحة بين تأملات «وارف» والقارئ، تتيح للشخصيات الأخرى وللمحيط الخارجي التأثير على مجرى الأحداث والتفاعل معها.

تنتهي كلتا الروايتين بمشهد هذياني غامض، تتداخل فيه الحياة والموت: يقتل بطل «البومة العمياء» زوجته، ويحلق «وارف» فوق المدينة وشوارعها. لكن أهمية النهايتين تكمن في تصويرهما ذروة الجنون التي بلغتها الشخصيتان رغمًا عنهما، فبغض النظر عن كل ادعاءاتهما سابقًا، تأتي النهاية لتؤكد انفلات ذهنيهما وخروج الأمور عن سيطرتهما، والامتزاج النهائي ما بين الواقع والخيال.


فاصل ⏸️


  1. حصل الشاعر السعودي حاتم الشهري على جائزة ابن عربي الدولية للأدب العربي 2024، عن ديوانه «من أين يأتي هذا الموت كله؟» الصادر عن منشورات المتوسط. وأشادت صحيفة «إل دايريو دي مدريد» (El Diario de Madrid) الأسبانية بالكاتب قائلة: «قصائد الشهري تستحق الترجمة إلى جميع اللغات، لأنها تصل إلى القلب بلا حواجز عبر لغتها الناعمة والمرنة، وأيضًا بمفرداتها القاسية».

  2. أعلنت دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة القائمة القصيرة لـ«جائزة نجيب محفوظ 2024» التي ضمت ست روايات من ضمن 181 رواية رُشحت للجائزة من كافة دول العالم العربي. تضم القائمة القصيرة الروايات التالية: رواية «السماء تدخن السجائر» لليمني وجدي الأهدل، ورواية «السيدة الزجاجية» للمصري عمرو العادلي، ورواية «الورّاق أبو حيان التوحيدي» للمصري هشام عيد، ورواية «اسمي زيزفون» للسورية سوسن حسن، ورواية «بيت القاضي» للمصري محمود عادل، ورواية «ميكروفون كاتم صوت» للبناني محمد طرزي.

  3. حاز الناقد الأدبي والصحفي الهندي بانكاج ميشرا على «جائزة وستون الدولية» (Weston International Award) للعام 2024. تُمنح الجائزة للمؤلفات في مجال الدراسات والأعمال غير الأدبية، وتبلغ قيمة الجائزة خمسة وسبعين ألف دولار أمريكي. 

  4. تصدر قريبًا عن منشورات حياة الترجمة العربية لكتاب «الحميمية الخوارزمية» (ALGORITHMIC INTIMACY) لعالم الاجتماع أنثوني إليوت والذي يناقش فيه كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل خياراتنا العاطفية ويوهمنا باستقلالية مشاعرنا.


توصيات النشرة من سعود السديري:

  1. الجلطة التي أنارت بصيرتي، د. جيل بولتي تيلور

الكتاب الورقي / قودريدز

لا يمكننا أن نعد الكتاب كتابًا علميًّا، لكنه لا يخلو من العلم المبسط للقارئ غير المختص في علم المخ والأعصاب، وقد سعت الكاتبة في الفصل الثاني والثالث من الكتاب إلى جعل المرجع العلمي محببًا وهينًا ومشتملًا لبعض الصور التوضيحية؛ بهدف تسهيل الوصول إلى تصور قريب لتجربة الكاتبة مع الجلطة في جوانبها الإدراكية والجسدية والروحية. وبالرغم من ذلك، يستطيع القارئ تجاوز الفصلين العلميّين والانتقال لفصول التجربة، وساعة انفجار الجلطة في الدماغ، والتحولات المؤلمة التي طالت حياتها وأعادتها كطفلة تتعلم أبجديات الحياة: كالأكل والشرب والتواصل وربط الأحذية! تقول الكاتبة: «لقد منحتني تلك الجلطة التي أنارت بصيرتي عطيّة لا تُقدّر بثمن، وهي إدراك أنّ السلام العميق ليس سوى فكرة أو شعور مراوغ وناءٍ، فإن تختبر السلام في داخلك، ليس معناه أن تتحول حياتك إلى نعيمٍ دائم. إنّه يعني فقط بأنّك قادرٌ على الولوج إلى حالةٍ من السكينة الذهنيّة وسط فوضى الحياة العارمة».

  1. هكذا أفكر: عسر القراءة واضطراب التآزر الحركي، ديفيد قرانت

قودريدز

من أبرز التحديات التي واجهتها في بداية مسيرتي في مجال التدريس محاولة فهم واكتشاف الطلاب المصابين بمتلازمة عسر القراءة. ولعل اكتشاف هذا الكتاب في جناح هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة في معرض الكتاب، كان من أجمل الاكتشافات التي أشبعت فضولي وأثارت تعاطفي مع هذه الفئة، وسهّلت عليّ فهم المعنى الحقيقي لجملة: «ضرورة احترام وتفهم الفروقات الفردية بين الطلاب».

  1. أبناء بالغون لوالدين غير ناضجين عاطفيًّا، د. ليندزي س. جيبسون

الكتاب الورقي / قودريدز

يخبرني أحد الأصدقاء المقربين عن تردده في تجربة مهنة التدريس -بالرغم من جدارته ولياقته بشكل رهيب لهذه المهنة- ويبرّر الأمر بأنه أمام طلاب وعوائلهم، ويربط شخصية كل طالب من طلبتي بمواقف محتملة شكّلت شخصيته، وأجده منح الأمر أبعادًا لا يحتملها، إلا أنه نصحني بعدد من الكتب التي تتناول تأثير الوالدين وطريقة تربيتهم على الأبناء. وكان من ضمنهم هذا الكتاب الذي لم أتوقع أنه سيجعلني أسقط حاضري على مواقف عفى عنها الزمن من طفولتي. الكتاب جدير بالاهتمام ويخلق بداخلك نفسية متفهمة ورحيمة.

  1. ثلاثة أكواب من الشاي، قريق مورتنسون وديفيد أوليفر ريلين

الكتاب الورقي / قودريدز

تحكي الرواية التحولات التي حدثت لـ«مورتنسون» عندما أضاع طريقه في جبال باكستان أثناء عزمه على تحقيق حلم شقيقته المتوفاة بوضع إكليل من الورد على قمة جبال الهمالايا، فيصادفه بعض البسطاء من أهل القرى؛ فأكرموه بثلاثة أكواب من الشاي -وهي إشارة في القرية بأن الضيف لم يعد غريبًا بل صار من أهلها- وردًّا منه للجميل قرّر «مورتنسون» أن يهب لهم عمره ويوظف جهده لبناء المدارس في القرية.

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+150 متابع في آخر 7 أيام