الشعر أم القبيلة 🥷

لم يكن الشعر أداةَ طربٍ وحسب لدى العربي، بل وسيلة إعانة غالبًا؛ إنه يستعين به على الغيب مرة، وعلى الطبيعة أخرى.

إلقاء قصيدة شعرية / Getty Images
إلقاء قصيدة شعرية / Getty Images

الشعر أم القبيلة

زين العابدين المرشدي

أتذكّر أنّي قلتُ مرةً: منذ الطفولة يدهشني جمالُ شكل البيت الشعري العربي القديم، وحتى الآن يدهشني ببعده البصَريّ، بشطريه المفصولين؛ فلم يكن عبوري هذه المساحةَ الفارغةَ بينهما على الورقة إلا كعبوري النهرَ في قريتي، النهر الذي يفصل أرضًا عن أرض وقبائلَ عن قبائل لا يوحّدهم إلا هذا النهر ولا يفرّقهم إلا هو.

هل أخذني المجاز إلى قولي هذا؟ 

إنّي لا أرى ذلك، وبعيدًا عن المجاز أيضًا لا أجد اعتباطية في تسمية السطر من القصيدة بيتًا ولا في التشابه مع كلمة البيت (الخيمة) التي كانوا يعيشون فيها، بل أجد دقة لدى القدامى؛ فكلاهما المأوى العالي الذي لا سقفَ فيه يزعج قامة العربي. وعليه فإنَّ وجود أي خلل في بناء البيت (الشعري) لدى العربيّ لا يقلّ خطرًا ودمارًا عن الخلل في بناء البيت (الخيمة). 

أفكر مرارًا: إلى أية درجة من التلقي وصل القدامى مع الكلمة، بخاصة في تلقيهم الشعر بوصفه ديوانهم؟

ففي الوقت الذي انشغلت فيه الأمم الأخرى بالعلوم المتعددة، فانشغلت الهند بالطبّ مثلًا، كان الأوائل يتطببون بالشعر. 

حين أفكر في درجة تلقيهم الشعر لا أدري ما الذي يأخذني إلى قول ابن عربي: «إذا قلتَ التمر ولم تشعر بحلاوته فإنك ما قلت التمر»؟!

فأسحب القولَ عن مقام قوله وبُعده الصوفيّ وعن زمنيته، قارئًا إياه من زاوية أقصدها هنا؛ لأقول: حينما كانت في ألسُنِ العرب القدامى براعمُ تتحسس الحموضة والحلاوة والمرارة كانت تنغرس في تلكم الألسن المباركة براعمُ لتذوّق الكلمة، ووفق هذا التشبيه المُتخيَّل ربما خَشيَ جَدُّك أو جدّي أن يقول: «حنظل» مثلًا؛ كي يجنّب ريقه المرارة. 

ربما وحدهم العرب الأوائل بين الأمم مَن جعلوا الشعر من الوظائف، أو الوظيفة الدائمة الملازمة للمرء، كما عدّوه من الطبائع، متعديًا كونه موهبة اختص بها إنسان دون آخر؛ فكانوا يعتقدون بأن على المرء أن يكون كريمًا يقري الضيف، وأن يكون فارسًا يذود عن حمى أهله وربوعهم، وعلى المرء أن يكون شاعرًا أيضًا، تخيّل! 

أنا حزين على شاعر ما، شاعر أفترضه ولا أعرفه بذاته، عاش مع القدامى، لكنَّ القبيلة، بوصفها المؤمنة بأن الشاعر لسان حال قبيلته، لمْ تعطه فرصة ليكون لسان حال نفسه على الأقل، وأشغلته بالمشترك الجمعي، لا بأن يكوّن صوتًا خاصًّا به. بل إن مواهبَ شعرية كثيرة خسرتها الثقافة الإنسانية العربية؛ بسبب وظيفية الشعر التي ابتدأتها القبيلة؛ حيث تعاملت مع الشعر بوصفه الشجرة الخفيضة ذات الثمار المتدلية؛ فاكتفت بقشورها الذابلة، ولكنها رمت اللبّ، أعني الشعر الذي ينتصر للإنسان إزاء نفسه وإزاء الطبيعة وعالميه الخارجي والداخلي، الشعر الذي يكون حرًّا كالهواء، الشعر المنحاز إلى الإنسان بوصفه قبيلة كاملة، قبيلة متضادة فيما بينها، ومتصالحة أحيانًا.

نجا من هذا المأزق فئة قليلة، واعتزلوا القوم، وكأن هذا الاعتزال من أعمدة بقائهم بيننا إلى الآن؛ فلقد تفرّدوا بالشعر همًّا شخصيًّا ملازِمًا، همًّا إنسانيًّا؛ لذا صمدت أوتاد قصائدهم العالية أمام أعتى ريح، وهي ريح الزمن؛ لأن ما يهم الإنسان يظلّ على الأرض.

إنهم، ببساطة، ربحوا القصيدة لكنهم خسروا القبيلة، وانزاحوا عن ثقافة جمعية لم يسلم منها كثيرون من مبدعي ذاك الزمان، ولعلّ مَن يخطر مثالًا على خسارته القبيلةَ وربحه القصيدةَ، في بالي هو طرفة بن العبد، الذي عومل كالبعير المعبّد الأجرب، حسب بيته: 

إِلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا

وأُفْـرِدْتُ إِفْـرَادَ البَعِيْـرِ المُعَبَّـدِ

ألمْ يكن هو القائل في القصيدة نفسها: 

إِذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني 

عُنيتُ فَلَم أَكسَل وَلَم أَتَبَلَّدِ

لكأنَّ القبيلةَ لا تكتفي بالذود عن القوم في الوغى وحسب، بل بالكلمة أيضًا، كلاهما سلاح وعليك الدفاع به، لكنّ ساحة المعركة تختلف؛ فلا يشترطَ أن تكون البراري الرحبة ساحة المعركة. 

لم يكن الشعر أداةَ طربٍ وحسب لدى العربي، بل وسيلة إعانة غالبًا؛ إنه يستعين به على الغيب مرة، وعلى الطبيعة أخرى، وعلى كل ما يجهله. 

قبالة هذا الفهم المتجذّر أتذكّر ما أوصى به، ذات يومٍ فيلسوف فقال: «إذا لم يكن لديك بحر فلديك راحة يدك» هكذا أوصى الرجلُ وغاب. 

هل فكّرت أن تصنعَ، من قعر كفك ومليلترات قليلة، بحرًا؟ 

أورد وصية الفيلسوف هذه لأقول: لكأنَّ العربي القديم تعامل مع الشعر بهذا المنطق في حياته الصعبة القاسية؛ إنه كفّه التي قعّرها ليصنع منها بحره الشخصيَّ، بحره الذي يحمله متجولًا معه، وأخذ يضع فيه كل ما رآه وكل ما لمْ يره، ما استطاعه ولم يستطعه؛ فالشعر لدى العربي هو الحياة التي تُبتَكرُ بالنسخة التي يكتبها هو، النسخة التي يريد لها أن تكون.


فاصل ⏸️


  1. أعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي «كتارا» قائمة الـ18 لأفضل الأعمال المشاركة في الدورة العاشرة لجائزة كتارا للرواية العربية في فئتي الروايات المنشورة والروايات غير المنشورة وروايات الفتيان والرواية التاريخية والدراسات النقدية. وتضم القائمة روائيين من 17 دولة عربية، منها مصر بـ26 رواية ودراسة نقدية، تلتها المغرب بـ 19 رواية ودراسة نقدية، ثم سوريا بتسع روايات والأردن بثماني روايات ودراسات نقدية، ثم العراق بـخمس روايات ودراسات نقدية، والجزائر بخمس روايات، ثم السعودية واليمن بثلاث روايات لكل دولة، وموريتانيا والسودان وفلسطين شاركت بعملين لكل دولة، وأخيرًا عمل واحد لكل من الكويت والامارات وعُمان ولبنان وتونس.

  2. أعلنت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» استعدادها لتنظيم «ملتقى الشعر الخليجي 2024»؛ لتعزيز التواصل الثقافي وتعميق دور الشعر في الثقافة الخليجية بصفة خاصة وفي الوطن العربي على نحو أعم. ومن المقرر انطلاق الملتقى 5 يوليو المقبل في محافظة الطائف. 

  3. أعلنت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» بدء استقبال المقترحات البحثية للمشاركة في مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة بعنوان «الفلسفة وجودة الحياة: الوجود، والحقيقة، والخير»، وآخر موعد لاستقبال المقترحات أول أغسطس من عام 2024. وسيقام المؤتمر في ديسمبر المقبل. 

  4. صدر حديثًا عن دار «صفحة سبعة» كتاب «قرناء الخير في طبيعتنا البشرية: لماذا تناقص العنف؟» للعالم اللغوي والطبيب النفسي الأمريكي ستيفن بينكر، ومن ترجمة الكاتب السعودي بندر الحربي. 


توصيات النشرة من فهد الترجمي:

  1. كرة القدم في الشمس والظل، إدواردو قاليانو

الكتاب الورقي / الكتاب الصوتي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

رغب الكاتب الأوروقوائي قاليانو أن يصبح لاعب كرة قدم، لكنه كان اللاعب الأفضل في منامه والأسوأ في أحياء الشوارع. وبالرغم من إخفاقه في أن يصير لاعب كرة قدم فإنه أفضل من كتب عنها.

يستعرض قاليانو في كتابه عناصر كرة القدم المادية وغير المادية كاللاعب وحارس المرمى والمشجع والهدف وقواعد اللعبة، ويعرف كلًا منهم بطريقة شاعرية ناعمة قلما تجدها في اللعبة، ويحفز الذاكرة مع أساطير المستديرة أمثال بيليه ومارادونا ويلاتيني وغيرهم. كما يسرد أهم الأهداف ومباريات كأس العالم منذ عام 1938 حتى مونديال 1994.

معتاد على قراءة محسن الرملي، وهو أحد الكتّاب الأقربين إلى ذائقتي، وروايته «حدائق الرئيس» أحب أعماله كلها إليّ؛ فمن خلالها نقل إلينا واقع العراق وتاريخه مع الحروب والويلات وتأثير ذلك في تكوين الفرد العراقي البسيط الذي وجد نفسه مجبرًا على عيش الحرب العراقية الإيرانية، ليستقبل حرب الخليج وسقوط بغداد، وتنتهي حرب لتبدأ أخرى، وبين ذلك مآسٍ يقشعر لها البدن.

  1. الفيومي، طاهر الزهراني

الكتاب الورقي / قودريدز

رواية بالرغم من قصرها تبعث بداخلك الحنين والتوق للعودة إلى القرية، أيًّا كانت قريتك، بعيدًا عن زحام السيارات وعوادمها الخانقة ومياه الصرف الصحي والمشاجرات والسباب في الشوارع. والأهم بعيدًا عن غلاء العقار. يأخذنا طاهر الزهراني إلى واحدة من قرى الجنوب، حيث الأحلام القروية الممكنة للبطل «عطية الفيومي» الذي «يشعر بمتعة العيش في تلك اللحظة، وهو ينظر في المكان، يحدّث نفسه أنّه ضيَّع عمره في جدَّة، لم يعد ينقصه في ديرته سوى أن يشارك الطيور سماء الله».

  1. السجينة، مليكة أوفقير وميشيل فيتوسي

الكتاب الورقي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

سمعت عن الكتاب في أكثر من مناسبة أدبية، وتردد عنوانه على مسمعي مرات عدة، لكن لم أفكر في قراءته إلى أن أهداني إياه صديق عزيز في مناسبة عزيزة، ومن يومها اختلف حسابي للأمور جذريًا. الكتاب سيرة روائية عن المغربية مليكة أوفقير التي منحت الروائية ميشيل فيتوسي قصتها وقصة عائلتها المريرة لترويها. هي حكاية ابنة جنرال قضت حياتها في البلاط الملكي، وبين ليلة وضحاها من الحياة الملكية المترفة وجدت نفسها وعائلتها في السجون ظلمًا وقهرًا لسنوات عديدة.

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+150 مشترك في آخر 7 أيام