أقاوم تعبي من العالم 🥺

وجد سيوران في سيمون رفيقًا يستحق مشاركته شغف ركوب الدراجات، حيث جابا معًا الريف والمدن.

إميل سيوران وسيمون بويي / Portal E.M. Cioran Brasil
إميل سيوران وسيمون بويي / Portal E.M. Cioran Brasil

أقاوم تعبي من العالم

إيمان العزوزي

في يوم الثامن عشر من نوفمبر عام 1942، وفي مدينة باريس، التقى الكاتب الروماني إميل سيوران سيمون بويي. في ذلك اليوم وقف سيوران يراقب من كثب شابة تنتظر متوترة وخجلة دورها في طابور مطعم جامعي، وما كادت تصل إلى نهايته حتى أسرع نحوها متجنبًا انتظار دوره. سألها عن أول شيء خطر في باله: تاريخ اليوم. وأجابته سيمون عن السؤال مستغربة من هيئته، وأدركت أن مظهره لا يتناسب مع الطلاب الآخرين وأنه يبدو أكبر سنًا ليكون طالبًا. كان سيوران قد بلغ للتو سن الثلاثين على حين كانت سيمون تحتفل في ذلك اليوم بعيد ميلادها الثالث والعشرين.

بعد هذه الصدفة تكاثرت اللقاءات والنزهات بين سيمون وسيوران، الكاتب الذي جاء من رومانيا ليخوض مغامرته الفرنسية، على غرار العديد من الكتاب «الشرق أوربيين» الذين تطفلوا مثله على مطاعم الجامعات وتنقلوا بين الفنادق والمقاهي الثقافية، علّ فرصة للنشر تلوح في الأفق. وجد سيوران في سيمون رفيقًا يستحق مشاركته شغف ركوب الدراجات، حيث جابا معًا الريف والمدن، وتشاركا شظف العيش وأرق الليالي.

حُرم الثنائي من النوم ومن ساعات اللاوعي التي تمنح البشر فسحة للأحلام وتجربة تختلف عن الواقع. عدّ سيوران أرقه امتيازًا يستثنيه من بقية البشر، وقد شاطرته سيمون هذا الغرور دون أن تظهره، وركزت كل اهتمامها في دفع شريكها إلى الكتابة بالفرنسية لأول مرة، وأعانته على تنظيم أولويات عمله، والتزمت بأن تدوّن على الآلة الكاتبة كل ما يمليه عليها وتحرره وتصححه نحويًا.

ما يلفت الانتباه في علاقة هذا الثنائي هو التفاني الذي أظهرته سيمون في خدمة سيوران، حيث تولت مسؤولية تنظيم حياته بجوانبها كافة، وبالرغم من ذلك لم تلق منه سوى الخيانات المتكررة وبحثه المستمر عن حب ينكره في كتاباته التشاؤمية. عاشت سيمون في غفلة، أو ربما كانت مدركة واختارت عدم الاعتراف بذلك. لقد رأت أن الصمت جزء من المهمات التي يجب عليها تدبيرها، وهكذا أصبحت شريكة في جزء من أزمة سيوران الوجودية وطاولها أثر الضجر الذي رافقه منذ الخامسة من عمره؛ فكيف لامرأة، مهما كانت تضحياتها، أن تعوض رجلًا استولى عليه الضجر طفلًا؟!

يجيب سيوران في إحدى المناسبات النادرة أمام جمهوره عن سؤال مفاجئ من أحد المعجبين حول علاقته بسيمون قائلاً: «كانت سيمون بويي رفيقتي المقربة منذ الخمسينيات، وعلى الرغم من ذلك أحببنا بعضنا ولا زلنا نفعل.» قد توحي عبارة «على الرغم من ذلك» بنوع من الإثم والعبء الوجودي بالنسبة لسيوران، الذي يقارن البشر بالفيروسات ويتساءل كيف يمكن لفيروس أن يحب مثيله، الحب بالنسبة إليه مبني على تناقض لا يمكن تخيل وجوده في علاقة حب مثمرة؛ فهو يجمع بين طبيعة مصاص الدماء وعاشق متيم بزهرة شقائق النعمان. ويسترسل في شرح علاقته بسيمون مشيرًا إلى أن غياب ذكرها وإسهاماتها الكريمة في كتبه هو محاولة منه ألّا يناقض فلسفته حول العزلة البشرية، ومع ذلك يؤكد أن الأسوأ هو الشعور بالوحدة وأنت محاط بالعائلة ولا يغير تزايد عدد أفرادها ومشاعرهم شيئًا من وحدة الفرد. قد يكون لسيمون ولعشيقاته المتعاقبات رأي مختلف، لكن سيوران هو من اشتهر وأصبحت آراؤه جزءًا من فلسفة يُحتذى بها.

لا نعرف الكثير عن سيمون سوى أنها درست الإنقليزية وكانت تلقب «النَّحوِّيّة»، وهي من أدخلت سيوران عالم الأدب الإنقليزي. لم تكن تجيد الحديث عن نفسها، سئلت في الحوار اليتيم الذي أجرته عمن تكون فأجابت بكل ثقة: «الناس لا يهتمون بمن أكون، ما يهم الناس ويهمني في المقام الأول هو سيوران». ربما تكهنت المرأة بأن البقاء في الظل قد يورثها الغموض والألق الذي يرافق كل نساء العظماء أو ربما اعتقدت أن إرثها الحقيقي من سيوران يكمن في تقليص الحضور إلى الصفر أي العدم. في الصور النادرة التي تظهر سيمون مع سيوران تتزين ملامحهما بابتسامات خفيفة؛ وهذا يقدم لقراء سيوران وجها مختلفًا عن التجهم الذي تعكسه صوره المتداولة. ومن خلال ما وصلنا من شهادات يبدو أن الاثنين تمتعا بحس دعابة مميز لا يتوافق مع حياة العدمية التي اختاراها سمة مميزة لسيرتهما.

عاشت في الخفاء، وتحت رعايتها عاش هو مكرمًا، تصله وجباته جاهزة وملابسه نظيفة ومرتبة، ومن ثم يأتيه الوحي ليسطر مآسي الحياة، مؤكدًا في كلماته وهواجسه أن البشرية تسير في طريق مسدود. لكن هذا الطريق، بلا شك، كان مفتوحًا في أحضان سيمون الواعية والصبورة، التي ضحت بكل شيء من أجل مغامرة غريبة وغير طبيعية، كما يصف سيوران الحياة ببساطة. ولعل من أولى التضحيات التي قدمتها سيمون هو تنازلها عن حقها في أن تصبح أمًّا، إما بإرادتها أو مجبرة تحت ضغط فلسفة سيوران الرافضة للإنجاب، الذي يعده وباءً حقيقيًا أصاب البشرية، وزيادة في عدد الوجوه التي يمكن الاستغناء عنها.

لكن أقسى ما تخلت عنه سيمون كانت رغبتها التي وافقت رغبة سيوران في أن يمضيا معًا على نحو ما قام به الزوجان زفايق. لكن القدر كان يحضر لسيوران مأساة لم يكن يتخيلها حتى في أسوأ كوابيسه؛ إذ أُصيب العدمي بمرض الزهايمر في منتصف الثمانينيات، متخليًا عن عقله ورغبته في الزوال. وظلت سيمون معه ترتب بإخلاص أعماله وحياته حتى وفاته في عام 1995.

وبعد أن رتبت إرثه واطمأنت على استمرار شهرته استجابت سيمون لنداء الفراغ؛ فلقيت مصرعها غرقًا بعد سقوطها من حافة صخرية. هل كان ذلك حادثًا أم انتحارًا مؤجلًا؟ يتردد السؤال بين الناس دون إجابة، لكن في عيون الأصدقاء يُقرأ الجواب بوضوح، رحلت وهي تردد ما سبق لرفيقها أن أكده:

لا أقاوم العالم، أقاوم قوة أكبر، أقاوم تعبي من العالم.


فاصل ⏸️


  1. أعلنت «هيئة الأدب والنشر والترجمة» أسماء المقاهي التسعة الفائزة في النسخة الثالثة من مبادرة الشريك الأدبي عن فئاتها الثلاث (أ، ب، ج)، حيث حاز المراكز الثلاثة الأولى من الفئة «أ» الشركاء الأدبيون مقهى «بارادايم» من محافظة ينبع، ومقهى «تشكيل» من مدينة الرياض، ومقهى «عُريب» من المدينة المنورة. ومن فئة «ب» فاز مقهى «فاصلة» من جدة، ومقهى «أورا» من محافظة ينبع، ومقهى «الساعة التاسعة» من منطقة الجوف. ومن فئة «ج» فاز مقهى «حبات القهوة الحلوة» من تبوك، ومقهى «حاسة 12» من الرياض، ومقهى «روشن» من مكة المكرمة. 

  2. أعلنت إدارة معارض الكتاب في السعودية فتح باب التسجيل لمشاركة دور النشر في دورة العام الحالي من معرض المدينة المنورة للكتاب الذي سيقام من 30 يوليو إلى 5 أغسطس 2024. ويُعدّ المعرض فرصة استثنائية لدور النشر لعرض أحدث إصداراتها في بيئة ثقافية غنية والتواصل مع قاعدة جماهيرية واسعة من داخل المملكة وخارجها. يُغلَق التسجيل يوم الأحد 16 يونيو 2024. 

  3. أعلن «اتحاد الناشرين العرب» تغيير موعد إقامة معرض عمّان الدولي للكتاب في دورته الثالثة والعشرين ليصبح بين 10 و19 أكتوبر المقبل في المركز الأردني للمعارض بـ«مكة مول»، كما فُتح باب التسجيل في المعرض حتى 30 يونيو 2024م. 

  4. يصدر قريبًا عن دار الآداب كتاب «اختراع الكتب: اللامتناهي في بردِيّة» الذي يتحدث عن الكتب وصناعتها بجميع أشكالها لعالمة اللغويات الإسبانية المعاصرة إيريني باييخو، بترجمة مارك جمال. 


توصيات النشرة من زياد البليهشي:

  1. أزمة منتصف العمر الرائعة، إيدا لوشان

الكتاب الورقي / قودريدز

عندما شاركني صديق مقرب صورة عشوائية لمكتبته جذبني عنوان الكتاب «أزمة منتصف العمر». خمنت أن الكلمة المكملة لهذه الأزمة هي «المقرفة، الفظيعة، الكئيبة». لكن المضحك لي آنذاك هي كلمة «الرائعة»! فكيف لمنتصف العمر وأزمته -التي أعيش حذافيرها آنذاك- أن تكون رائعة؟ وما أزمة منتصف العمر المقصودة بالكتاب أصلًا؟ وما الذي قد تقوله الكاتبة لحالة ظلت في طي الكتمان المقصود وغير المقصود؟! 

تقسم الكاتبة هذه الأزمة إلى قسمين: أزمة منتصف العمر المبكرة التي تمتد من العشرين حتى الأربعين عامًا، وتتبعها أزمة منتصف العمر المتأخرة التي تمتد من الأربعين حتى الستين عامًا، لتخبرنا بكل وضوح أن هذه المرحلة هي أطول في حياة الشخص، ومن أسعد لحظاتنا فيها أن نكون أكثر مما نفعل.

  1. قلق الأمسيات، ماريكا لوكاس رينفيلد

الكتاب الورقي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

رواية «قلق الأمسيات» أول عمل سردي تكتبه الشاعرة الهولندية ماريكا لوكاس رينفيلد، وظفرت على إثره بجائزة البوكر الدولية كأول أديبة هولندية تحصل على الجائزة. تدور أحداث الرواية في الريف الهولندي وتحكي قصة عائلة الطفلة «يأس» التي غضبت من شقيقها عندما رفض طلب مرافقتها له في رحلة التزلج على الجليد فتمنت له الموت: «لطالما فكّرت كثيرًا في حقيقة أنّني الصغرى، وكيف أنه لا أحد يقول لي إنه سيسمح لي بفعل أي شيء عندما أصبح كبيرة كفاية... ولذلك سألت الربّ أن يأخذ أخي ماتياس ويترك لي أرنبي.. آمين»، والمفارقة التعيسة أن «ماتيس» يموت فعلًا لتبدأ التحولات والتصدعات تنخر في روابط العائلة وتنمو الفجوة بينهم بعد الفجيعة والتغيرات التي سببتها لهم.

  1. بيدرو بارامو، خوان رولفو

الكتاب الورقي / قودريدز

تستهويني روايات الواقعية السحرية، وهذه الرواية هي السبب، وأظن الأمر غير مستغرب لكون خوان من أوائل من كتبوا الواقعية السحرية وتأثر به أشهر كتّاب الأدب اللاتيني. يأخذنا الروائي المكسيكي خوان رولفو في رحلة بطل روايته الذي تبع وصية أمه وذهب بحثًا عن والده ذي النفوذ والجاه في قرية متخيلة تسمى «كومالا»، وهي قرية أشباح لا يسكنها سوى أرواح سكانها السابقين، فنتتبّع رحلة بحثه الشاقة ونستمع إلى أصوات الأموات وحكاياتهم الغرائبية.

  1. حلم ماكينة الخياطة، بيانكا بيتسورنو

الكتاب الورقي / الكتاب الإلكتروني / قودريدز

في واحدة من الجولات المشتركة لمعارض الكتب رفقة الأصدقاء لمح صديق رواية «حلم ماكينة الخياطة» ورفع صوته بـ«الله». سألته إن كان قد قرأ للكاتبة من قبل لكنه أجاب بالنفي، وما دفعه للذهول هو غلاف الكتاب، والسبب نفسه دفعني لشراء الكتاب، لكنه كان أكثر من غلاف جميل.

تنسج الكاتبة أحداث روايتها بصوت خيّاطة بسيطة لا اسم لها من جنوب إيطاليا، حيث الأمراض وسوء الحال وكدر العيش، وكيف كانت ممّن يمتهنّ مهنة الخياطة التي تدخلهن بيوت الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتنهال على أسماعهن الحكايا والأسرار التي اعتدن كتمها وحفظها تفاديًا للعقاب المحتم الذي ينتظرهن إن تفشت الأسرار.

نشرة إلخ
نشرة إلخ
منثمانيةثمانية

لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.

+180 متابع في آخر 7 أيام