الفسيفسائي: رواية عصية على التصنيف 😓
لم تسر رواية «الفسيفسائي» سيرًا خطيًا من البداية إلى النهاية ولا اعتمدت أسلوبًا واحدًا، بل ضمّنها المؤلف أساليب عدة.
الفسيفسائي: رواية عصية على التصنيف
لعل أوّل إشكالٍ قد يواجه قارئ رواية «الفسيفسائي» لعيسى ناصري هو إشكال التصنيف؛ فالرّواية تقدّم نفسها منذ صفحاتها الأولى ضمن خانة الروايات البوليسية، ولا نقصد هنا الرواية البوليسية بمعناها التقليدي، أي رواية يسعى فيها المحقّق إلى فكّ خيوط جريمة وكشف المجرم، بل الرواية البوليسية بمفهومها الحديث، المفهوم الأشمل القائم على فكّ لغزٍ أو أجحية، حتّى بنائهما، دون اشتراط وجود شرطةٍ ومحقّقين، ودون حتمية إيجادِ حلٍّ في النّهاية؛ لأنّ الغاية من الكتابة هنا تتجوز بناء حبكة متماسكة، أو دفع القارئ إلى لعبة البحث والتقصّي، بقدر ما يسعى الروائي إلى معالجة موضوعاتٍ أعمق وأشمل (كالعدالة وصراع العوالم واختلاف أنماط التفكير...). وقد يكون أحد جوانب القوّة في عمل عيسى ناصري هذا التلاعب بالتّصنيف قبل التلاعب بالمضمون والشّكل؛ فالتّعاقد بينَه وبين القارئ ما ينفكّ يتبدّل على امتداد العمل.
إنّ القارئ يكتشف وهو يقرأ، ويبدأ أوّل تعاقد ضمني بينه وبين الكاتب من عتبة الغلاف، حيث تميل كلّ الدلائل البصرية (من عنوانِ وصورة غلاف) بالقارئ إلى الاعتقاد بأنّه بصدد قراءة رواية تاريخية، أو سيرة بطلٍ تاريخيّ (اسمه الفسيفسائي، أو ربمّا مهنته فسيفسائي)، ثمّ ما يلبث هذا التعاقد أن يتبدّل مع الصفحات الأولى حيث يدرك أنّ الأمر يتعلّق برواية بوليسية، ما دام السارد نفسه يصرّح بما يفيد ذلك. لكنّ هذا الانطباع سرعان ما يتبدّد في انطباعات شتّى، إذ يدرك القارئ مع توالي الصّفحات أنّ الأمر لا يرتبط برواية بوليسية واضحة المعالم وقاطعة بقدر ما يواجه عملًا متعدّدًا وحبكاتٍ داخل الحبكة الواحدة، بل أكثر من رواية داخل الرواية نفسها.
ولعلّ حيلة التشتيت هذه عمد إليها عيسى ناصري على مستوى الشّكل أيضًا؛ إذ لم تسر الرواية سيرًا خطيًا من البداية إلى النهاية ولا اعتمدت أسلوبًا واحدًا، بل ضمّنها المؤلف أساليب عدة، حتّى قصاصات وأخبارًا، كأننا به يعمد إلى كولاجٍ بصريّ. قلت: لعلّ حيلة التشتيت هذه هي ما يسمح للرواية بأن تنفلت من دائرة الحبكة البوليسية التقليدية (التحقيق في جريمة وكشف قاتل.) إلى قضايا أعمق ترسم تاريخًا طويلًا من نضال المغرب مع الغزاة؛ فالرّواية وإن كانت تنطلق من الحاضر فهي تمسح قرونًا من تاريخ المنطقة (تحديدًا منطقة وليلي ومكناس وإدريس زرهون) التي توالى عليها الغزاة وظلّت في كلّ مرّةٍ تتمرّد على الاستعباد وتتوق إلى الحريّة. إنّه تاريخ دائريٌّ يتّخذ في كلّ مرّة شكلًا من أشكال الصّراع بين الأنا والآخر، لكنّ جوهره هو الصّراع وإثبات الذّات.
ولمّا كانت كلّ رواية بوليسية بالضّرورة ثنائية القيمة (خير وشرّ، وعدالة وظلم، وحقيقة وزيف)، فإنّ الإشكال الذي قد يعاني منه كاتب الرّواية بالمفهوم المعاصر هو إثبات وجهة نظرٍ ما بوصفها حقيقة، وجعلها مركزًا تدور حوله بقية وجهات النّظر كمجرّد ملاحق. قد تكون الحيلة الأبسط هنا هي اعتماد البوليفونية (تعدّد الأصوات)، بحيث يتعاقب على السّرد عدد من الرواة فيتشكّل المعنى في أبعاده العديدة بدلًا من أن تترسّخ الحقيقة في بعدها الواحد. غير أنّ رواية الفسيفسائي، وإن اعتمدت تقنيّة تعدّد الأصوات (من بين ما اعتمدته من تقنيات)، ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ فلم يعمد عيسى ناصري إلى تقديم مسوّدة حكاية ثمّ جعْلِ الرّواة يتناوبون عليها، بل قدّم ثلاث روايات مختلفة (ليالي وليلى، وحكاية الفتى الموري، وباخوس في العيادة)، لكلّ واحدةٍ منها مسارها الخاصّ وملابسات تأليفها وحتّى مؤلّفها. لكنّها تجتمع جميعًا في ذهن القارئ الموكول إليه العمل الأشقّ، وهو ربط الخيوط لرسم العالم الأشمل الذي تتحرّك فيه شخصياتها مع الحكاية (الإطار) النّاظمة لها، وكلّ ذلك داخل تاريخ أشمل هو تاريخ المنطقة بما شهدته من حركة واستقرار وصراع وسلمٍ وإبداع وخراب.
هذه روايةُ تشتّتٍ وتشظٍّ وتعدّد، لكنّ القارئ لا يحسّ في أثناء قراءتها بقطائع واضطرابات. قارئها أشبه ما يكون بمتأمّل الفسيفساء كما درج على صناعتها المعلّمون المغاربة. إذ يقوم فنّ الزّلّيج على نظامٍ بصري يتكرّر فيه «موتيفٌ» واحدٌ، لكنّ النّاظر إذ ينتقل بين النّسخ المتكرّرة لا يكاد يكتشف الحدّ الفاصل بينها، في كلّ مرّةٍ يكتشف مركزًا جديدًا للفسيفساء، وملاحقَ تدور به لكنها سرعان ما تتحوّل نفسها إلى مراكز لها ملاحق. وهو الانطباع نفسه الذي ينتاب القارئ وهو ينتقل بين «روايات» الرّواية وبين أصوات الرّواة وبين التاريخ المعاصر والتواريخ الغابرة، حيث ينقلب الهامش في كلّ مرّة إلى مركز والمركز إلى هامش.
يُعرض في أول مايو على نتفلكس، فيلم «في جُحر الأرنب» (Fiesta en la madriguera) المقتبس من رواية خوان بابلو بيالوبوس «حفل في الوكر» الصادرة عن دار صفحة سبعة السعودية بترجمة الكاتب المصري محمد الفولي.
توفيت الروائية والباحثة القوادالوبية ماريز كوندي عن عمر يناهز التسعين عامًا، يعدّ قلمها من أبرز الأقلام الأفريقية التي حاربت العبودية والتمييز العنصري ضد السود. تُرجمت لها عدة أعمال للعربية منها: «أزهار الظلمات» و«أنا تيتوبا: ساحرة سالم السوداء» و«في انتظار الطوفان» و«الحياة الآثمة».
صدر حديثًا عن دار المدى للنشر والتوزيع كتاب «حلم جميل لامرأة في منتصف العمر» للكاتب الإيرلندي صامويل بيكيت صاحب المسرحية الكوميدية التراجيدية الشهيرة «في انتظار قودو»، بترجمة حسين عجة.
يصدر قريبًا عن دار سؤال للنشر والتوزيع كتاب بعنوان «تولستوي: شهادات معاصرين» لليف نيكولاييفيتش، بترجمة إبراهيم إستنبولي.
توصيات النشرة من فادية البلوي:
أنا، عباس محمود العقاد
سيرة ذاتية رائعة تملؤها ذكريات حياة العقاد، يروي قصصًا حصلت في طفولته وأخرى في شبابه. كتاب مملوء بحكمة العقاد. نتنقل معه في خطه الزمني ونلعب بشريط الذكريات. كتاب محمل بحكمة شيخ وبهجة طفل وروح شاب، يذكر لنا فيه نصائحه في القراءة ومنهجه في الكتابة وتفاصيل التفاصيل، ولا أعتقد بأنه قد غابت عن ذهنه تفصيلة واحد، فيروي لنا ذكرياته في السجن مع السجناء والمعتقلين، ويحكي لنا فلسفته في الحب، ويذم كثرة القراءة فيقول: «سوسة الكتب هو الذي يعيش في الكتب كما يعيش السوس، وأما الذي يقرأ الكتاب ليوسع حياته في العالم فالكتاب عنده طريق إلى عالمه، أو هو نظّارة يكبّر بها نظره ليضاعف رؤيته».
الصوت المتحدث من الثلاجة، أحمد عبدالرحيم
أسلوب تهكمي عجيب، فالمؤلف يسخر من نفسه أحيانًا بأسلوب طريف، وبتواضع يلامس شعور القارئ دون تكلّف. هذه القدرة على ملامسة الوجدان بكل بساطة في ذاتها نادرة وهي أكثر ما يميز أسلوبه، وتشعرك بأنك تجالس صديقًا. رغم أن بعض القصص حوَت من الغرابة ما لا يمكن فهم معانيه أعجز عن ألّا أندهش بخيال الكاتب الخصب والفريد؛ فلا يمكن أن ينافسه في الخصوبة إلا خيال طفل بريء، فقصصه مليئة بالترميز والتشبيهات غير المباشرة، وكان عصيًا عليّ فهمها وربما، وبكل جرأة أظن، حتى الكاتب ذاته يجهل ما ترمي إليه، قد أحسن الظن وأقول إنها محاولات لفتح باب التأويل. والمهم أنه في النهاية كتاب جميل.
كوخ العم توم، هارييت ستاو
رواية تاريخية يقال إنها أسهمت في إشعال الحرب الأهلية الأمريكية، تحكي مشاق العبودية ومكانة الرجل الأسود في المجتمع الأمريكي، قد لا يصح أن نعدها توثيقًا تاريخيًا سليمًا لحقبة العبودية في أمريكا، لكن قراءتها مؤخرًا، أي بعد حراك السود ومحاكمة قاتل جورج فلويد، خيار سليم، فبالرغم من مرور سنين طويلة على انتهاء العبودية لا يزال السود يعانون من وطأة الاستعباد؛ فالنظرة الدونية إلى العرق الأسود باقية ومتكتلة وراسخة في الوعي الجمعي، ليس في أمريكا وحسب بل ربما في العالم أجمع.
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى، أندرو ديكسن وايت
هذا الكتاب هو سرد تاريخي مثر لصراع العقيدة والخرافة الدينية المسيحية مع العلم في أوربا، وأشكال التضييق على حرية التعبير التي كان يكابدها العلماء آنذاك في الغرب، وهو بمثابة مرجع لكل ما يمكن ذكره عن التطور العلمي للحضارة الإنسانية، وعن مصدر الكثير من الخرافات العلمية، وعن تداول الفلسفات الدينية والمفاهيم حول الكون والنشوء والأرض، فالمعرفة التي قد يظنها المرء أصيلة في حقيقتها متوارثة عن حضارات قديمة، والأفكار (والخرافات) تنبثق من جدودها ولا تولد من العدم. يتقصى شيئًا من تاريخ العلم واللاهوت، بترجمة جيدة جدًا ومهارات تعريب خلّابة.
سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.