ابقوا في مقاعدكم حتى تنتهي الأرض من الدوران!
تفاؤل، اللحظات السعيدة ستأتي لأنها مقدرة لنا، وليس لأننا تزلفنا للرقم الجديد وبالغنا في الترحيب به واستقباله.
إن كنت تقرأ هذه التدوينة فهذا يعني أنك واحد من الناجين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى العام الرقمي 2024، ويمكنك التفاخر بأنك نجوت بأعجوبة من براثن العام السابق 2023.
صحيح أن الأيام هي الأيام، ولا يُتوقع أنك ستحب في الأول من يناير شيئًا كنت تكرهه في الواحد والثلاثين من ديسمبر، ولا يوجد ما يدل على أنك ستصبح إنسانًا آخر غير ذلك الإنسان الذي كنتَه لمجرد أن الأرقام على ورقة التقويم قد تغيرت.
والأشرار في العام السابق هم الأشرار في العام اللاحق، وليس من المتوقع أن تتغير الأسماء في قوائم الطيبين.
ومع الإيمان بهذه الحقيقة البدهية فإن ذلك لا يتعارض مع كون أيام التقويم وسيلة لأرشفة الأحداث، هي شيء يشبه الخزانة التي نرتب فيها آلامنا وآمالنا وأحلامنا وذكرياتنا.
هل أنا فعلًا محظوظ؟
أنت محظوظ حين تقرأ هذه التدوينة لأنك لم تكن واحدًا من ضحايا الزلزال الذي ضرب أجزاء من تركيا وسوريا في بداية العام المنصرم وأدى إلى موت نحو ستين ألف إنسان وفقدان أضعاف ذلك الرقم مساكنهم، وإن لم يفقدوا حياتهم بالكامل فإنهم فقدوا على الأقل حياتهم التي اعتادوا عليها.
ولا شك أنك يجب أن تحمد الله أنك لم تكن مواطنًا سودانيًا وجد نفسه فجأة ضحية صراع على السلطة بين الجيش السوداني الأساسي والجيش السوداني الرديف، وهو صراع أدى إلى مقتل أكثر من عشرة آلاف ونزوح أكثر من خمسة ملايين مواطن سوداني كانوا ينتظرون من حكامهم أن يكونوا عونًا لهم على الحياة، فوجدوا طرفين يتصارعان من أجل الوكالة الحصرية للموت والبؤس والشقاء والضياع.
أنت هنا الآن لأنك لم تكن ضحية زلزال المغرب ولا فيضانات ليبيا؛ لأن أكثر من عشرة آلاف إنسان لم تكن لهم حظوظك نفسها في النجاة من هاتين الكارثتين.
ثم تأتي أحداث غزة، ولا أستطيع القول إنك محظوظ أكثر من الشهداء الذين تركوا هذا العالم إلى مكان أكثر طمأنينة وسلامًا.
في العام المنصرم اكتشف كثير من سكان العالم المتحضر مصادفة أن الكيان الصهيوني البغيض كان يحتل فلسطين منذ خمسة وسبعين عامًا. وفي العام المنصرم اكتشف العاديون من سكان هذا الكوكب أن النفاق وازدواجية المعايير أسلوب حياة العالم المتحضر، ورأيت بنفسك كيف بدأ البعض متابعة المسلسل من الحلقة ما قبل الأخيرة ثم أصدر أحكامه قبل نهاية الحلقة، دون أن يشغل نفسه بتسلسل الأحداث.
ربما تكون محظوظًا لأنك نجوت هذا العام ولكن آخرين يؤمنون بأنهم منحوسون لأنهم نجوا، فالبقاء وحده ليس إنجازًا كافيًا؛ لأن الموت ليس مخيفًا بالطريقة التي يروّج لها السعداء، الحياة أشد رعبًا ووحشية من الموت في كثير من أوجهها.
وأنا هنا لا أدعو للانتحار الجماعي على سواحل العام الجديد، بل على العكس تمامًا، أنا أروج للتفاؤل والابتعاد عن حالة الهلع التي تصيب البشر في نهاية كل عام، تلك الحالة التي تدفعهم إلى الاحتفال بشكل هستيري، فيطلقون الألعاب النارية ويتبادلون التهاني والهدايا. ومن المؤكد أنه لو أن مخلوقات فضائية راقبت الوضع على كوكبنا لسخرت كثيرًا من تصرفات البشر، وكأني بمخلوق فضائي يقول لآخر: انظر إلى هؤلاء البشريين كيف يحتفلون بدوران الأرض وكأنهم كانوا يدحرجونها بأيديهم حتى تكمل دورتها حول الشمس.
دوران الأرض حول محورها ليس بهذه الأهمية
أحاول بث الطمأنينة في قلوب الخائفين الذين أشعلوا السماء ترحيبًا بالعام الجديد، وأطالبهم بالهدوء، والجلوس في أماكنهم حتى تنتهي دورة الأرض الجديدة، فالأيام لن تتوقف عن قضم أعمارنا لمجرد أننا استقبلنا العام ببعض الألعاب النارية، واللحظات السعيدة ستأتي لأنها مقدرة لنا، وليس لأننا تزلفنا للرقم الجديد وبالغنا في الترحيب به واستقباله.
وقد قلت سابقًا، وأنا شخص يحب تكرار البدهيات: يمكننا في أي يوم نريده أن نبدأ في مرحلة جديدة أو اكتساب مهارات أو التعرف إلى أشخاص يجعلون للحياة طعمًا وللأيام معنى. نستطيع أن نبدأ في أي وقت القراءة أو مشاهدة الأفلام، أو التوقف عن التدخين، أو ممارسة الرياضة أو حتى الانحراف. يمكن فعل ذلك في الأول من يناير أو في الخامس من مارس أو السادس والعشرين من سبتمبر.
يمكن أن نفلس ونفقد كل شيء في أي يوم، ويمكن أن نصبح أثرياء، مع صعوبة مثل هذا التوقع، في أي لحظة، لا علاقة لرأس العام ولا ذيله بهذه الأمور.
تجاهل الأرقام وعش ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، الاختلاف الوحيد الذي يجب أن تنتظره بقلق وتتوقع أنه سيشكل فرقًا مع نهاية العام هو «العلاوة السنوية»، ما عدا ذلك اختلافات لا علاقة لك بها؛ لأنها لا تضر ولا تنفع!
الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!