حياتي المزدهرة مع اضطراب ثنائي القطب

على الحديث عن الصحة النفسية أن يصبح جزءًا من حياتنا اليومية، وأمرًا طبيعيًا، نستخدم فيه المفردات التي لا ترفع سقف «الوصمة» بل تخفضها.

بعد عامين من العيش في مدينة نيويورك، وأثناء التدريب في برنامج الزمالة الإكلينيكية في جامعة كولومبيا، أخبرني معالجي النفسي بالتشخيص النهائي: «أنت مصاب بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب.»

فور مغادرتي مكتبه، حدثتني نفسي ألا أخبر أحدًا، وإلاّ أكلتني وصمة الاضطراب. كان سؤالي الأوحد حينها: كيف لي إكمال دراستي إثر هذا العارض الصحي المفاجئ؟

الانزلاق نحو كهوف العقل السوداء

قبل أشهر قليلة من حديث معالجي، ظهرت لدي مجموعة من الأعراض تمنعني من التركيز والتفكير والقراءة، بل حتى من الحديث مع الآخر بوضوح. لم يمنعني هذا في البدء من مزاولة العمل والدراسة في الجامعة، لكنه كان مثيرًا للإزعاج. كانت الكلمات والأفكار تتدفق بسرعة فائقة داخل عقلي، كأن فيه بركانًا ثائرًا يحتدم، عشرات الأفكار في الثانية الواحدة ولا أستطيع القبض على فكرة واحدة. 

أصبحت سريع الانفعال، غاضبًا، مذعورًا، ومتورطًا داخل كهوف عقلي السوداء. كانت هذه المرة الأولى التي أتعرف عليها وأدخلها، بل لم أعلم بوجودها قبلًا. طوال الوقت كنت أتساءل: كيف لتلك الكهوف القاتمة أن توجد بداخلي؟ منذ متى؟ وكلما حاولت البحث عن مخرج، وجدت نفسي داخل كهف مظلم آخر. حينها أسمع صوتًا في رأسي يقول: «لن ينتهي البؤس، ستظل هنا إلى الأبد!»

بلادة مدينة نيويورك بدت لي جلية آنذاك. فالرياح تحمل معها غبارًا رماديًا تتسرب حباته إلى عينيّ، والأكل طعمه مر، وأكياس القمامة السوداء في كل مكان. جريدة نيويورك تايمز مهترئة، وسيارات الأجرة لم تعد صفراء بل هادرة قاتمة، وفتاة تتقيأ في الزاوية، ورجل مشرد يتلفظ بعبارات بذيئة. عيناي مظلمتان، تحدقان متفكرتين في كل شيء، وصوتٌ مرعب يلاحقني، يخنقني كلما تعالى، ولا أعلم مصدره. 

أهمية الصحة النفسية

الدكتور محمد السويدان، أستاذ المساعد في قسم الطب النفسي في جامعة الكويت ورئيس وحدة الصحة النفسية في مستشفى مبارك الكبير، وجد الدكتور معنى حياته في نشر الوعي بالصحة النفسية، فبالنسبة له هذا الوعي هو ما سيتصدى لوصمة العار المرتبطة في المجتمع بالصحة النفسية، والتي تمنع الكثيرين من اللجوء للعلاج النفسي عندما يحتاجونه.

8 ديسمبر، 2019

وجدتني أغرق في كآبة تمتص كل الكلمات. تتكثف دموعي وتهطل بغزارة، دقات قلبي متعبة، أعصابي مشدودة، لا أود مقابلة أحد أو محادثة أحد. فقدت شهيتي وراحتي وقدراتي الذهنية كافة، فلم أعد أستطيع الكتابة ولا القراءة ولا وضع الكلمات في جمل مفهومة.

وفي أوقات أصبح فائرًا، شديد الثقة بنفسي، أشعر بالعظمة ولدي قوة إبداعية متوقّدة تحدث سريعًا كسرعة اضطرام النار في الهشيم. كان جسدي وحده يواجه هذا الانهيار، أما روحي فمستلقية في القبر. كل هذا منحني شعورًا بأني أفقد نفسي، بأني انزلق بلا وعي وبسرعة نحو الهاوية.

الاستسلام في غرفة الطوارئ 

بعد أن لاحظت أستاذة في الجامعة شحوبي، اجتمعت بي مرات عديدة لتحاول إقناعي بالذهاب إلى طبيب نفسي للاستشارة. كان عقلي يتحكم بي حينها، فرفضت ذلك بشدة وظننت بها سوءًا.

مرت الأيام والأسابيع، ولاحظ أساتذتي في الجامعة تغيبي عن الحضور، والهبوط الشديد في الأداء الأكاديمي. فطلبوني في اجتماع عاجل تبين لي لاحقًا أنه كمين. وبعد نقاش معي، تأكدوا خلاله من عجزي عن وضع الكلمات والأفكار في جمل مفهومة وحاجتي العاجلة إلى العلاج، طلبوا مني النزول معهم إلى الطابق السفلي من المبنى حيث تقبع غرفة الطوارئ في المستشفى.

عند وصولنا إلى ردهة الطوارئ، كررت رفضي، فبدأت حولي محاولات الإقناع المتكررة من أشخاص عدة أعرفهم ولا أعرفهم. أخيرًا رضخت لتلك المحاولات الكثيرة، ودخلت غرفة الطوارئ. ولسبب ما شعرت بما لم أشعر به منذ فترة طويلة، بأني في مأمن.

مرت الأيام في المشفى بطيئة، هدأت أثناءها نزاعات كثيرة بداخلي. شعرت أني مقيد، مخدر، خامد، كأنني حقنت بجرعة عالية من المورفين. تلاشى بداخلي تدريجيًا ذلك الهيجان والغليان والفزع. شعرت بأن هذه النوبة -بما حملته من ثوران وخوف وجوانب مقلقة كثيرة- صعبة الشرح والتوضيح. فهي ليست ألم فقد ولا ألم فشل، هي أضعاف ذلك، إنها ألم خارج عن نطاق إحساس الإنسان الطبيعي، هي منطقة أسفل القاع لا يصلها إلا من هوى به وجدانه، أو مسَّه شيطان.

لمن المؤلم والصعب جدًا أن تفقد ذاتك، أن لا تعرفك، أنت الذي ظننت أنك تعرفك وتثق بك جيدًا. كيف لاختلال كيميائي بسيط في عقلك أن يُحدث كل هذه الفوضى؟ أن يُفقدك كل مهاراتك الذهنية، أن يحوّل الواقع وهمًا، أن يسلب منك القدرة على الشعور، أن يبث بداخلك الرعب والفزع، أن يجعلك تشعر بالموت.

العودة التدريجية إلى نقطة الاتزان 

من العجب أن سبب كل تلك المعاناة نقصٌ بسيط في عنصر مِلحي يدعى الليثيوم. فمنذ بدأت أتجرّع دواء الليثيوم وأنا أشعر بأنه منع كل تلك الارتفاعات الكارثية والانخفاضات المنهكة. خلصني من قمة الابتهاج ومن قاع البؤس، ليعيدني من جديد إلى السطح، إلى الخط المستقيم، إلى نقطة الاتزان. كما جعل الليثيوم خضوعي للعلاج المعرفي السلوكي ممكنًا. 

إذ أيقنت في هذه المرحلة بأني لا أستطيع التخلص من هذا الإعياء المستمر، أو المضي قدمًا لعيش حياة طبيعية، دون العلاج الدوائي، وأيضًا دون العلاج المعرفي السلوكي الذي يطلق عليه: «العلاج بالكلام». 

فخلال علاجي النفسي، شعرت لأول مرة بأني لست وحيدًا في مواجهة الاضطراب. واتضح لي، من اللقاء الأول، أن معالجي النفسي يود أن يفهمني بكل عمق وصدق وإخلاص، ودائمًا كان يوصيني بالصبر:

عليك أن تكون صبورًا، فنحن الآن في مرحلة تسوية، لا أريدك أن تعتلي القمة ولا أن تهبط إلى القاع. من المهم جدًا أن تعي تمامًا أهمية العلاجين الدوائي والمعرفي وتكاملهما في رحلة العلاج، ولا تظن بأن الدواء وحده كافٍ. اعتنِ بنفسك جيدًا، فقدرتك على الوقوف مرة أخرى لا يملكها سواك.

صحيح، حبوب الدواء لا تستطيع وحدها إعادتي بفاعلية إلى الواقع بعد نوبة انهيار عصبية وجسدية. فقد فسَّرت جلسات العلاج المعرفي بشكل منطقي كل ما حدث من تشوّش وذعر وشك، وأعادت لي كثيرًا من الأمل والقدرة على التحكم والسيطرة، وأعطتني فرصة التعلم مما أمرّ به. كما ساهمت برفق في استعادة فهمي للحقيقة وإعادة اتصالي بالواقع، وعودة أجزاء عقلي وقلبي بشكل تدريجي إلى الحياة.

اضطراب ثنائي القطب داءٌ مزمن كالسكّري

كنت أزحف على يديّ وركبتيّ للوصول إلى غرفة العلاج النفسي لشد ما كان الأمر صعبًا، أسبوع يتبع أسبوعًا. مررت بفترة كسل وكآبة سئمت فيها العلاج وفكرت جديًا بالترك، بالتراجع، بعدم الإكمال، بالفصل من الجامعة ومغادرة الولايات المتحدة والارتياح من هذا كله. 

وفي خضم هذا الصراع، كان معالجي يصغي لي من أعماقه، ويتعاطف بشدة مع ما أقول، ناصحًا إياي:

«عليك أن تنظر إلى هذا الاضطراب الوجداني كما تنظر إلى داء السكري أو ضغط الدم المرتفع. لديك داء مزمن يتطلب أخذ دواء بانتظام، ليقلل احتمالية اعتراض الاضطراب لشؤون حياتك. عليك خلق روتين منتظم يقلل من تعرضك للتوتر وهو المحفز الأساس للنوبات الوجدانية. وعليك ممارسة أي نوع من الرياضة لتفريغ كل الضغط والشحنات السلبية المتراكمة بداخل جسدك، كما يجب عليك أن تعتني بنومك، أن تنام نومًا كافيًا.

 ينبغي أن يكون لك نشاط تلجأ له في حالة التيه والإعياء كي يعيدك إلى نقطة التوازن، إلى المركز، كأن تمارس مهارات الحضور واليقظة الذهنية، أن تتأمل، لتعي بأنك من يملك القوة دائمًا، بأنك مركز التحكم وبداخلك السكون والهدوء والسلام. كل تلك الأمور ستساعدك على اكتساب نمط حياة صحي يدفعك لإنجاز أمورك بفاعلية.»

مقترنًا بالعلاج الدوائي، كان لهذا العلاج المعرفي السلوكي الأثر البالغ في التحسن والاستشفاء. فقد منحني الراحة عن طريق معرفة الخطأ، وتعلمت من خلاله كيف للعقل أن يشفى. Click To Tweet

كيف للصبر واللطف والرفق أن يعيد ويحيي عالمًا مبعثرًا كان بداخلي، كيف لعنصر مِلحي واحد أن يعيد التوازن الكيميائي من جديد، وكيف لطبيب ومعالج نفسي أن يعملا سويًا بمهارة عالية لإنقاذي.

العلاج الدوائي والمعرفي يعيدان لي حياتي الطبيعية

بعد مدة من تجرع الليثيوم، خالجني شعور عجيب وفريد. بدأت أشعر بالاتصال بالواقع، بدأت أرى الألوان بوضوح، بدتْ لي السماء صافية، شعرتُ بشعاع الشمس يسقط على جسدي، بدأت أسمع تغريد العصافير بشدّة. شعرت بأن الحياة دبت بداخلي من جديد، والأهم من ذلك، استعدت قدرتي على الكتابة والقراءة كما كنت.

أتذكر كيف أصبح قلبي حيًا وعقلي في حالة من الهدوء، أنني أتعافى من سقطة طويلة، والآن عادت إليَّ نفسي.

فقد استخرج العلاج المعرفي، بعد أن تفاعل مع الماضي والحاضر، بعض الأفكار السلبية والافتراضات والمعتقدات، وعالجها من خلال إخضاعها للعقل والواقع. كما عالج المعلومات الواردة بطريقة سلبية ومتحيزة إلى عقلي، ومنحني القدرة على التمييز بين الأفكار والمشاعر والمواقف. 

أصبحت أفهم مشكلاتي بشكل أفضل بعد أن أدركت الاتصال بين المزاج والسلوك، وبعد استيعابي المعادلة البسيطة التي تقول: إن السلوك الجيد يحسّن المزاج.

ويقدّر معظم المعالجين جهود المُراجِع. فكلما نسبتُ الفضل لمعالجي قائلًا: «لم أكن لأفعل ذلك لولا مساعدتك،» أجابني: «انسب الفضل لنفسك، فأنت من سعيت وعملت جاهدًا للتغيير.» 

بالطبع، لا تظهر النتائج فورًا، فإصلاح الأمور الوجدانية يحتاج إلى عمل شاق. ولكن بالممارسة -وبعد الكثير من الجلسات العلاجية- أستطيع القول إني تعلمت كيفية إدارة ظروف الحياة المجهدة بطريقة أفضل، ومهارات التأقلم والتحكم في المشاعر، والتكيف مع المواقف المزعجة بطريقة صحية، وملاحظة الأفكار الراسخة والتفكير السلبي وأنماطه. 

فلنتحدَّث علنًا عن الصحة النفسية

معظم المصابين بالاضطراب الوجْداني ثنائي القطب الذين يتلقون رعاية طبية يعيشون حياةً طبيعية ومستقرة نفسيًا واجتماعيًا ووظيفيًا. فبعد خمس سنوات من تشخيصي بثنائي القطب، وبعد العديد من فوضى النوبات التي تخللها الكثير من جلسات العلاج السلوكي المعرفي، أقف اليوم بكل ثبات في وجه هذا التيار العقلي الجارف.

فأنا اليوم أعمل كعضو هيئة تدريس وطبيب تقويم أسنان في الجامعة، أمارس الرياضة والتأمل بانتظام، كما أسعى لتحقيق بعض الآمال والطموحات. لقد نجوت وازدهرت، وأصبحت داعمًا لجميع المصابين بثنائي القطب، ومناصرًا للتوعية بأهمية العلاج.

فوفقًا للمسح الوطني في 2019، 80% من المصابين باضطراب نفسي شديد في السعودية لا يبحثون عن علاج. وأمام هذا الواقع نحن بحاجة ماسة إلى انتشال، إلى انتفاضة توعوية نفسية في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا. 

كذلك، على الحديث عن الصحة النفسية أن يصبح جزءًا من حياتنا اليومية، وأمرًا طبيعيًا، نستخدم فيه المفردات التي لا ترفع سقف «الوصمة» بل تخفضها. فمنذ نشرتُ كتابي «وجدٌ لا ينام» حول رحلتي الكاملة مع ثنائي القطب، والرسائل تتوارد من القراء الذين يتشاركون التجربة ذاتها، وآخرون وجدوا أنفسهم بين السطور. 

فالتحدث علنًا عن الاضطراب ومشاركة الرأي في المجالس أو عبر الإنترنت يساعد على بث روح الشجاعة في الآخرين الذين يعانون من تحديات مشابهة، كما يثقف الجمهور العام حول الاضطراب النفسي، وأهمية اللجوء للعلاج الدوائي والمعرفي. فعقلك، كما قال معالجي النفسي، «أداة بإمكانها أن تجعلك مريضًا، كما باستطاعتها أن تشفيك.»

الإنسانالصحة النفسيةالطب النفسيالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية