عبدالرحمن منيف ليس مدن الملح
كانت وما زالت هنالك أصواتٌ تُقدّر إنجاز منيف حق قدره، فالخماسية مُنِحت مكانة تستحقها، لكنها سلبت كتب منيف الأخرى ما تستحقه من تقدير.
تحل اليوم الذكرى التاسعة والثمانون لمولد الكاتب والاقتصادي العربي عبد الرحمن منيف، وأقول العربي؛ لتنقله بين دولٍ عربيةٍ كثيرةٍ وعدم استقراره في بلده الأم السعودية، ولأنه عبّر عن مشاكل المواطن العربي عمومًا. جعل هذان السببان كل مواطنٍ عربيٍ ينسب منيف إلى بلده، وهو أمرٌ لا أظنه يزعج منيف في قبره، لكن ما قد يزعجه هو إطلال أغلب القراء على أدبه من فوق إحدى نخلات «مدن الملح».
هذه الإطلالة تحددُ للقراء زاوية نظرٍ واحدةٍ جمعيةٍ تُغفل نتاجه الهائل والمتنوع، بدءًا برواياته، مرورًا بسير المدن وكتبه السياسية والثقافية، ووصولًا إلى قصّتيه اللتين لم تُنشرا إلا بعد وفاته. زاوية النظر هذه التي تحجب رؤية أغلب أعمال منيف، تجعل الخماسية تأخذ حصتها وحصة كتبه الأخرى من الشهرة، ثم تتبعها نظرة عدم تقديرٍ، أو على الأقل عدم اكتراثٍ ببقية أعماله.
منيف الذي كرّس رواياته دفاعًا عن كرامة الإنسان وحقه في العيش وتقرير مصيره، واجهته محاولاتٍ لحجرهِ في وادي عيون «مدن الملح» بقصدٍ أو بغير قصد. لا شك أنه كان مستعدًا لدفع ثمن ما يكتبه، ولكن المخجل أن تُستغل كتبه لتصفية حسابات سياسيةٍ وثقافية مع سلطةٍ معينةٍ ليست أسوأ من السلطات الأخرى التي انتقدها.
استغلال منيف في مداهنة السلطات
لم يكن الدعم والشهرة اللذان كسبتهما الخماسية من أجل ما تتمتع به من إطار فني وروائي فحسب، وهي تستحق الاحتفاء بلا شك، لكن الدعم كان جزءًا من عملية نقد السلطات في هذه المدن والتحريض عليها، في زمنٍ كانت مركزية أوساط المثقفين تقع خارجَ هذه الدول المنتقَدة في الرواية.
وهذا يعني أن احتفائهم وسيلة لإبراز مدى بشاعة السلطة مع تأكيدهم على أن الناقد -أعني هنا منيف- من داخل مدن الملح، من البيئة ذاتها التي لم تزخر بحركة معارضةٍ ونقدٍ قاسيتين.
كان هذا الخطاب قاطرةً من قاطراتِ مراحل سياسية عُرفت نوعًا ما بالعداء لدول مدن الملح، مثل تبعات المرحلة الناصرية وتدهور علاقات هذه الدول مع دول مدن الملح، وصولًا إلى كامب ديفيد وعزل مصر عن الساحة العربية والحرب اللبنانية الأهلية وحرب الخليج الثانية، وأحداث أخرى رأت جوقة منظريها والمنظومة التي تتبعها، في دول مدن الملح قوةً صاعدةً لا تستحق ما تستحق.
لست هنا متملقًا لسلطات مدن الملح؛ فأنا أشيد بنقد منيف وبأهمية الرواية في سبيل النقد والاعتراض، وفي سبيل الوصول إلى قراءةٍ تاريخيةٍ تُخفيها السلطة، ما كانت لتظهر بهذه الطريقة لولاه. مع التأكيد على أن الخماسية ليست كتابًا تاريخيًا نستقي منه الأحداث، إنما هي روايةٌ تاريخيةٌ -من وجهة نظر الكاتب- تحاول رسم الأحداث داخل أطرٍ فنية.
«نجمة»: غنيمة كاتب ياسين
قد يقول قائل كيف لهذا أن يكون صحيحًا وقد باتت الخماسية عند أغلب النقاد والمثقفين أفضل ما كتبه منيف، واحتفى بها العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، بل حتى من هم داخل هذه البيئة التي رسمها! الحق أن هذا الاحتفاء جزءٌ من تلك المنظومة التي احتفت بالرواية لا لفنها وإنما لمنتقديها، ومركزية أوساط المثقفين التي كانت تنبع من الشمال، والشمال الغربي للشرق الأوسط هي ذاتها التي أبرزت الرواية وأثّرت في أوساط المثقفين في الطرف الآخر.
وما مجيء الخماسية في نهاية قائمة جريدة أخبار الأدب الصادرة في القاهرة لأفضل مائة رواية عربية، إلا تأكيداً للفكرة ذاتها، وإن كان قد حُملها نتيجةً للجو العام بغير تعمّد.
التعامي عن كوارث سلطاتهم
أما رواياته الأخرى مثل «شرق المتوسط» و«الأشجار واغتيال مرزوق»، و«ثلاثية أرض السواد» ملئت جميعها نقدًا شرسًا للأنظمة العربية بلا تفرقة أو تمييز كما يوضح منيف ذلك بنفسه:
أي أن شرق المتوسّط، مع أنه لا يسمّي مكانًا بذاته لكنه يعني كل دولةٍ تحديدًا. ولذلك، وحين يجري الحديث عن شرق المتوسط كانت كل دولة تنظر إلى الأخرى باعتبارها المعنية، أما هي فبريئة مما يقال.
لكن ورغم هذا لم يُحتفَ بها كما احتُفيَ بالخماسية، في حين أن شرق المتوسط تحديداً كانت ثائرةً على كل المقاييس، ومؤسسةً لنوعٍ جديدٍ يُعنى بالسجون وعلاقاتها ومخلّفاتها وتأثيراتها على المواطن العربي، إلا أنها لم تلقَ ما تستحق من احتفاءٍ وتقدير.
قد يكون سبب ذلك حساسية موضوعاتها داخل المنظومات ذاتها التي أبرزت الخماسية، فهي موضوعاتٌ يحرمُ الحديث عنها إلا إن كانت تصب في صالح تلك المنظومات. وبقدر ما كان القمع في تلك المنظومات السياسية مسيَّرًا بقبضةٍ حديديةٍ؛ تأتمرُ المنظومة الثقافية بأمر السلطة المطبقة على صدرها فتنظر من حيث نظرَت، وتعب الهواء من حيث عبّت.
بالتأكيد كانت وما زالت هنالك أصواتٌ واقعيةٌ مرهونةٌ بالفن تُقدّرُ إنجاز منيف حق قدره، إلا أنني وددتُ هنا الإشارة إلى أن الخماسية -كما قلتُ- مُنِحَت مكانة تستحقها، لكنها سلبت كتب منيف الأخرى ما تستحقه من تقدير. Click To Tweet
لا لأنها الأفضل بكل المقاييس، بل لأن الجو العام وُجِّهَ بإرادةٍ حينًا وبغير إرادةٍ حينًا آخر ليُنظر إليها على أنها الأفضل بكل المقاييس.
لذا فإن أول ما يرد في أذهاننا عند ذكر اسم عبدالرحمن منيف، خماسيةَ مدن الملح لا «شرق المتوسط» ولا «الآن .. هنا» ولا «أم النذور» ولا «أرض السواد» ولا «قصة حب مجوسية» أو «النهايات» أو «حين تركنا الجسر» أو «سباق المسافات الطويلة»، أي كتبه الكفيلة بأن تمكّنه من ركلِ باب جائزة نوبل للآداب، لولا أن للجائزة اعتباراتها السياسية الخاصة التي ساهمت في منحها لغيره، ولست هنا في معرض الحديث عنها ونقدها رغم أنهُ حديثٌ ذو شجون.