هل حوَّلنا الإنترنت إلى أخصائيين نفسيين؟

مع ضغوطات الحياة وتأثّرنا بمعلومات التواصل الاجتماعي أدمنّا التشخيص الذاتي بالأمراض النفسية، ليفقد المرض النفسي في الإنترنت معناه الحقيقي.

شدّت انتباهي تغريدة وأنا أتجوّل في أروقة تويتر تدّعي بأن عدم الاهتمام بالناس وكره الأصوات العالية من أعراض الاكتئاب. ولم يسعني إلا أن ألاحظت كيف تعوَّدنا على التلفظ بالمصطلحات النفسية في كلامنا اليومي وإطلاق الأحكام بسرعة، وكيف ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في ذلك.

فتعليقات كهذه بدأت تتخلل خطابنا على الإنترنت، وأصبح لكل سلوك طابعٌ مرضيّ حتى إن كان السلوك عاديًا للغاية. فمثلًا الرغبة في العزلة أتت نتيجة صدمةٍ نفسية، وليس الانهماك في الكتب إلا آلية تأقلم مع آلامها المكبوتة

خوارزميات الأعراض وبناء الجماعات

لا أُنكر أن وسائل التواصل الاجتماعي مرجعٌ رائع لمن يبحث عن معلومات خفيفة وسهلة القراءة. ولا شك أنها أفادت كثيرًا في نشر الوعي عن أهمية الصحة النفسية، وتشجيع من هم في أمسّ الحاجة نحو السعي إلى التشخيص الطبي. لكن كما العادة مع الإنترنت، هناك جانب سلبيّ لتدفق المعلومات المجانيّ الذي قد يأتي عن حسن نية لكنه ليس منظّمًا.

إذ لا يبرر حسن النية تصنيف سلوكٍ غير ضار، مثل عدم معرفة ردِّك على رسالة، كعارضٍ مرضيّ بحاجة إلى تشافٍ.

وتحثُّنا طبيعة منصات التواصل الاجتماعي على تكوين مجموعات نجد فيها من يشبهنا. نشارك فيها شخصياتنا وآلامنا مع أناس ما كنَّا لنعرفهم لولا الإنترنت. وهكذا نشأت ثقافة تصنيف الأشخاص المتشابهين في مجموعات تُعرِّفها صفةٌ معيّنة.

لأن أعراض الأمراض النفسية قد تبدو رابطًا عاطفيًّا مشتركًا، أصبح تشخيص المشاعر المشتركة بأسماء كـ«الاكتئاب» أو «التوتر» أحد الطرق لتحقيق الشعور بالتكاتف والألفة في مجتمعات الإنترنت. Click To Tweet

وصار استخدام المصطلحات النفسية منتشرًا بين مستخدمي إنستقرام وتك توك اللذيْن يراقبان استخدامنا ويبنيان خوارزميات تقترح علينا بالضبط ما نبحث عنه.

من هنا بدأ تكوين صداقات ومتابعات مبنية على تلك التسميات التي ترسخت وانتشرت في الساحة الافتراضية. ووصل الأمر إلى التحدّث عن الأمراض النفسية كأنها تخص جماعة حصرية من الناس؛ بأعضائها المتفردين ومفرداتها الخاصة التي لا يفهمها إلا من كان منهم. 

ومن السهل جدًا النظر إلى عَرَضٍ ما فنقول بيننا وبين أنفسنا: «هذا أنا!». خاصةً عندما تُقدَّم الأعراض منفصلة عن سياقها المعقَّد فلا تعكس عمق تلك الأمراض أو تعدُّد أبعادها.

فلا أرى صفات كعدم التركيز تعني الكثير. فكلنا نجد صعوبة في التركيز أحيانًا، ونغوص في الكتب والمسلسلات هربًا من واقعنا وبحثًا عن شيء من المواساة والراحة. فوجود عرض من أعراض مرضٍ ما لديك لا يعني بالضرورة أنك مصابٌ به. فتشابه الأعراض لا يعني تشابه الأمراض. وهذا مبدأٌ مهم يضيع في لغة وسائل التواصل الاجتماعي المبسّطة.

تصاميم الخطاب العلاجيّ

أكثر ما يثير اهتمامي ارتفاع ما يُسمّى بـ«الخطاب العلاجي» (therapy-speak) في تصاميم إنستقرام. إذ تبدو التصاميم مغرية بألوانها الجميلة ونصوصها التي تنصحك بالاهتمام بنفسك والابتعاد عن كلّ ما يُشعرك بأخف الإزعاج، وتعرض لك «عشر علامات على كونك مكتئبًا». 

يبدو لي أن منشورات من هذا النوع أصبحت نوعًا من الموضة، إذ يكاد لا يخلو حسابٌ منها.

كيف أصبح كل شيء قصة

شهد الوقت الراهن، بفضل العولمة التقنية، عودةً غير متوقعة للشفاهية. إذ دفعت مساهمة التقنية في التاريخ الثقافي البشري معلّقين، مثل والتر أونق، إلى وصف العودة

9 أبريل، 2021

أما تك توك، فظهر فيه نوعٌ آخر من المحتوى؛ مقاطع تتميز بطابعها الموسيقي الراقص، وهوسٌ في تصنيف كل تصرف كردة فعل لصدمة نفسية. فمثلًا لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) وسمٌ خاص على المنصة (#whatadhdisactuallylike). ويظهر في تلك النوعية من الوسوم أشخاص يشرحون تجربتهم الشخصية مع اضطراب نفسي من خلال نصوص قصيرة وصور تظهر على الشاشة. 

هذا النوع من المحتوى السهل والسريع -وإن يحكِ تجربة حقيقية- يشجّع المشاهدين على التعميم والتشخيص الذاتي دون قصد. إذ يختزل واقع الأمراض النفسية ويبسّطها أكثر من اللزوم، ولا يوضّح للمشاهدين أنَّ حالتهم الصحية قد تكون مختلفة تمامًا. 

ولأن تلك المنصات تقتصر على مقاطع فيديو قصيرة من ستين ثانية، أو تصاميم مكوّنة من عشر شرائح، أو نصوص قصيرة لا تتجاوز 280 حرفًا، فمن النادر توفُّر مساحة كافية لمعالجة هذه الموضوعات بدقة وتفصيل. فهذا الأسلوب الوجيز لا يعطي إلا صورة محدودة عن الحقيقة، وتنشر ثقافة استخدام مصطلحات تبدو متقدمة وعلمية، لكنها لا تؤدي الغرض.

إذ يتطلب تشخيص الأمراض النفسية سنوات من الدراسة والممارسة والتأهيل. وتبسيط مستخدمين غير مرخّصين للتشخيص يحمل العديد من العواقب تتراوح في ضررها وخطورتها. فقد لا يتسبب التشخيص الخاطئ بتعرضك لصدمة في طفولتك بضرر كبير، غير أنه يشحنك بمشاعر سلبية تجاه عائلتك التي وفّرت لك تنشئة سليمة لكن بطبيعة الحال لم تكن مثالية.

وقد يؤدّي الإفراط في استخدام المصطلحات الطبية في غير محلها إلى فقدان المصطلح لمعناه الحقيقي. فالشتم بعبارات كـ«هذا مريض نفسي» أو «فيك نرجسية غير طبيعية» يشوّه ألم المرض النفسي الحقيقي، ويسلب من أهمية تجربة المعانين.

سوق الإنترنت النفسيّ 

لا يخفى علينا أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فحينما ينشأ طلب على شيء يأتي من يعرضه. ورغم وجود توعية حقيقية ونوايا طيبة وأخصائيين مرخَّصين على الإنترنت، فهناك من يشجّع ظاهرة التشخيصات الخاطئة من أجل مصلحة مخفية. 

ففي ظل الجائحة وفقدان كثير من الناس لوظائفهم، سعى المستخدمون لإيجاد مصادر دخل أخرى عبر الإنترنت. وهنا نشأ هوسٌ بالدخل السلبي على تك توك، تجسَّدَ في تصميم مذكّرات ونشر أوراق عمل تساعد في التعامل اليومي مع الاضطرابات. 

هذه المنتجات جزءٌ من سوق أكبر ممتلئ بكل ما يدّعي مقاومة القلق والتوتر وغيرهما. ورأينا مؤخرًا كيف بات الكثير من تلك المنتجات منسجمًا مع حياتنا اليومية، ككتب التلوين والدورات اليدوية والتطبيقات الإلكترونية التي تساعدنا على النوم. فقد أصبحت لمقاومة القلق وإزالة التوتر قيمة مالية خلقت سوقًا بأكمله يتماشى جنبًا إلى جنب مع عارضي الحيل والنصائح. 

ولا يقتصر السوق المستفيد من «الخطاب العلاجي» على بيع المنتجات الملموسة فقط. إذ يقدم بعض صانعي المحتوى عبر تك توك جلسات أو دورات تدريبية يعالجون بها الذين «شُخّصوا» بالمرض بناءً على مقاطعهم.

وسواءً أكانت تلك المنتجات مذكرات أم دورات فهي نوعٌ من الخداع. حيلةٌ تُشعر المشاهِد بوجود سبب مقنع للجوء إلى تلك الشخصيات «التكتوكية» بدلًا من استشارة طبيب أو أخصائي.

هل كلنا أخصائيون نفسيون؟

شخصيًّا، لم أُدرك تأثير المعلومات النفسية التي كنت أتناولها يوميًا عبر إنستقرام إلى أن بدأت أتمعّن في تصرفاتي اليومية من خلال منظار «الخطاب العلاجي». فأنا أيضًا شرعت أصنّف ما أقوم به كأعراض من الاكتئاب أو ردة فعل لصدمة ما، رغم انعدام أي رأي طبي يُثبت ذلك. 

مع ذلك لا أشعر أنَّ شيوع المصطلحات النفسية مصيرٌ سيء بالضرورة. فالعديد من الأشخاص المؤهّلين والجهات الصحيّة على منصات التواصل الاجتماعي تنشر معلومات موثوقة مبنية على أبحاث وأدلة. 

ولا ينفي ضرر المبالغة في التشخيص الذاتي ووصف الأمراض النفسية حقيقة زيادة الوعي المجتمعي حول مفهوم الصحة النفسية وأهميتها.

لكن مهما كثرت محاسن التوعية، علينا أن نعي دومًا أنَّ العلاج الحقيقي الفعّال للأمراض النفسية لا يتواجد على منصات التواصل الاجتماعي. فتك توك وإنستقرام وتويتر ليست مراجع علمية، وإن كانت مفيدة للتوجيه وفتح آفاق جديدة للتثقيف. الأطبّاء والأخصائيون هم أهل الثقة فيما يخص العلاج والتشخيص، لا تصاميم إنستقرام الملوَّنة وتشخيصات تك توك السريعة.

الإنترنتالصحة النفسيةوسائل التواصل الاجتماعيالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية