المستقبل يُهدد نفسيتنا فكيف نستعد له
لا بد أنك صادفت الأحد الماضي منشورات وتغريدات تحتفي باليوم العالمي للصحة النفسية. شارك المستخدمون حول العالم قصصهم الخاصة وتجاربهم في تجاوز أزماتهم النفسية.
لا بد أنك صادفت الأحد الماضي منشورات وتغريدات تحتفي باليوم العالمي للصحة النفسية. شارك المستخدمون حول العالم قصصهم الخاصة وتجاربهم في تجاوز أزماتهم النفسية. واستغل الأخصائيون فرصة زخم الحديث للتأكيد على أهمية الانتباه للعلامات والمؤشرات التي تدل على رفاهنا النفسي، وضرورة الخروج من فخ العار والإحراج في البحث عن مساعدة لبلوغ الرفاه والإسعاد.
وإن تذكرنا سنواتنا الأولى على منصات التواصل الاجتماعي، لم يكن هذا الفضاء مهيأً بعد للحديث عن الصحة النفسية لالتصاق وصمة العيب بها. وشعرنا -كلٌ في فقاعته الخاصة- بأننا وحيدون، نعيش أزماتنا وحدنا، لا يفهمنا ولا يتقاسمها معنا أحد.
لكن الأمر تغير، ويتقاسم المؤثرون اليوم قصصهم الشخصية مع الأزمات النفسية بشفافية، يحكون عن اكتئابهم أو نوبات القلق التي تصيبهم. ويستعمل مختصون منصات كإنستقرام لتبسيط المفاهيم وتضييق الفراغ بين من يحتاج الرعاية ويقدّمها. ونتشجع نحن، من حين لآخر، لنقول: أنا متعب، أشعر باحتراق، وربما أحتاج لمساعدة.
أقول الرفاه والإسعاد، لأنها الترجمة التي اختارتها الأخصائية النفسية جهاد بنيموسى لمفهوم (wellbeing). وتراها الأصح لهذا المصطلح الذي يكثر استخدامه في موجة تبسيط مفاهيم الصحة النفسية على الإنترنت التي كثيرًا ما يطالها الغموض.
فحينما يتعلق الأمر باللغة ومنصات التواصل الاجتماعي والصحة النفسية، تتقاطع المفاهيم والوسائل في تركيبة معقدة. في النهاية، أليست هذه المنصات نفسها أحد أهم مسببات الأزمات النفسية، وما يجعلنا الجيل الأكثر اكتئابًا حسب آخر الدراسات؟ متجاوزين حتى الأجيال التي خاضت الحروب والمجاعات وانهيار الاقتصاد، بارتفاع يبلغ 71% في تشخيص الأمراض النفسية لدى البالغين من عام 1995 فما فوق، خلال السنوات العشر الماضية.
هل يُعقل أنَّ منصات التواصل الاجتماعي هي نفسها الداء والدواء؟ سألت جهاد ما تراه في هذا الجيل المتصل دائمًا، وتوقعت أن أسمع مجددًا كيف أننا جيل هش و«حساس». لكنها فاجأتني!
منصات التواصل الاجتماعي والصحة النفسية
لنأخذ مستخدمي تك توك كمثال، مناورة البرمجيات التي تستغل مبادئ الإدمان ورهاب التفويت (FOMO) لخلق تجربة جماعية يتشاركون فيها الاهتمامات -مهما كانت- أساسُها التقاسم والتعاطف والمساندة. وهذا من أهم ركائز الصحة النفسية، أو ما يسمى نظام الدعم الذي نحتاجه في كل رحلة لتجاوز صعابنا النفسية.
لكن حتمًا الأمر ليس بهذه البساطة. شغلتني فكرة استغلال منصات التواصل الاجتماعي لحالاتنا النفسية، وتَغَذِّيها على شعورنا بالنقص وميلنا للمقارنة وخوفنا من تفويت أي جديد. فلماذا نرتبط باستخدامها رغم كل هذا؟
الجواب أنها أشبه بلعبة قِمار، لا نعرف بالضبط النتيجة التي سنخرج بها حالما نفتح تطبيقًا. مرة ستكون المشاعر إيجابية بتعليقٍ داعم أو صورة لطيفة، وأخرى يُفتح فيها صندوق باندورا التخبطات النفسية.
نعود لتبسيط مفاهيم الصحة النفسية وأعراض الأزمات. فموجة المحتوى كحال كل ترند على منصات التواصل صارت تعطي مفعولًا عكسيًا بين التشخيص الخاطئ لبعض الأعراض ورومانسية المرض النفسي.
خذ اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD) كمثال، لا تتطابق الأبحاث المحدّثة عن المرض مع كم المحتوى الهائل عن المرض. ومقطع «ريل» على إنستقرام ليس كافيًا لتشخيصك به، مهما بدا مقنعًا! بالعكس، يربط الباحثون ظهور أعراض المرض كنقص التركيز باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، ويمكن للإقلاع عن استخدامها لأسبوعين التخفيف من هذه الأعراض إلى تلاشيها.
ثم رومانسية المرض النفسي، هذه المنشورات التي لا تجعلنا نتعاطف بل نبخّس ونستصغر، أو نسخر حتى.. فنغلق باب إمكانية البحث عن مساعدة وحلها بميمٍ ساخر.
حينما أخذت أبحاث الصحة النفسية وعلاقتها بمنصات التواصل الاجتماعي تتشكل قبل عشر سنوات، كان الباحثون من البراءة أن اقترحوا التوقف عن استخدامها كليًا. مثلما كان مصممو تجارب هذه المنصات ومطوروها بريئين في ابتكار زر الإعجاب والتصفح اللانهائي، دون وعي كامل بآثارها المستقبلية.
لكننا الآن، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج لدراسة آثارها على الفرد والمجتمع بعمق أكبر. ما زالت أبحاث العالم العربي غير كافية، لا نعرف مثلًا كيف أثرت الجائحة وبقاؤنا في المنازل واعتمادنا الكلي على هذه المنصات على قدرتنا في التواصل ومتانة علاقاتنا الاجتماعية. فنعتمد في الغالب على دراسات أجنبية غالبًا ما تهمّش خصوصيتنا.
وعلى أية حال، نتائج هذه الأبحاث المستمرة صارت تضغط أكثر على مطوري المنصات لضمان استخدام سليم وآمن، من تقنين ساعات الاستخدام في كل التطبيقات إلى مقترح إلغاء أرقام الإعجابات على إنستقرام. واعتماد الفيسبوك الذكاء الاصطناعي واللغات الطبيعية في فتح نوافذ المساعدة في حال الأزمة.
إذ يفحص المحتوى بحثًا عن علامات ميول لأذى الذات أو أفكار انتحارية ويقدّم روابط وموادًا وأرقامًا ساخنة لطلب المساعدة. أو حتى صفحة «هنا لأجلك» التي طرحها سنابشات بداية 2020 للغرض نفسه.
لكن هل تكفي هذه المبادرات، أم تقع المسؤولية مجددًا على عاتق المستخدم؟ في الواقع أجل، يعود إيجاد التوازن إلينا نحن كمستخدمين. وأحد الحلول مراقبة مشاعرنا على معدل من واحد إلى عشرة قبل استخدام منصات التواصل الاجتماعي وبعدها، والمقارنة بين حالة وأخرى. وتقنين وقت استخدامنا وأخذ استراحات نشغل فيها أنفسنا خارج الفضاء الرقمي.
فإن كانت دوائر الأصدقاء التي صنعناها لأنفسنا على منصات التواصل مهمة لبلوغ الرفاه والإسعاد، هناك عوامل أخرى ينبغي أن نعززها لصحة نفسية سليمة نستعد بها للمستقبل.
تشاركنا الأخصائية النفسية ومؤسسة «إنسباير كورب»، جهاد بنيموسى، معادلة رياضية طوّرتها، نحسب بها عوامل الحماية وعوامل الخطر في دواخلنا وحولنا، لتطوير مناعة نفسية قوية تعدّنا للمستقبل.
ندعوكم لقراءة النشرة البريدية لبرنامج بكرة، من خلال الاشتراك في قائمتنا البريدية لتصلك على الإيميل كل أربعاء. بإمكانك التسجيل في قائمتنا من هنا.
روابط:
(Headspace)دليل التّأمّل – وثائقي
«إنديستراكتبل» (Indestractable)، كيف تتحكم في انتباهك وتختار حياتك – كتاب لنير إيال
«كيف أصبحنا جيلاً هشًا نفسيًا» – بودكاست فنجان
بُكرة، لكل الشباب الواعد، نطرح أسئلتنا الكبيرة والصغيرة والمتغيرة والعالقة، مع مختصّين وباحثين وعُلماء، ونفهم معهم كيف نعيش ونستعد ونعمل من أجل مُستقبل أفضل.