إدارة المعرفة من العمالة الأجنبية إلى الخليجية
اعتمدت دول الخليج العربية على العمالة الأجنبية ريثما تهيئ العمالة الوطنية لسوق العمل، فلماذا لا يزال الاعتماد اليوم على العمالة الأجنبية؟
تَمُر دول الخليج العربية اليوم في مرحلة هامة تسعى فيها للانتقال إلى حقبة ما بعد النفط بنسبة اضطرابات محدودة، وتستوجب فيها تحول اقتصاداتها من ريعية إلى اقتصادات قائمة على المعرفة.
إلا أن الاقتصاد القائم على المعرفة يقلب الدور الذي تلعبه الدولة من مؤسسة تساهم في توفير الخدمات لمواطنيها إلى مؤسسة تستمد قوتها من العمل الذي ينتجه مواطنوها. لكن ماذا لو كانت الدولة تفتقر إلى العدد الكافي من المواطنين المنتجين أو المؤهلين الذين يمكنها الاعتماد عليهم؟
هل العمالة الأجنبية مرحلة مؤقتة؟
ساهمت الثروة النفطية في إحداث تحولات واسعة في دول الخليج العربية على رأسها النهوض العمراني والاقتصادي. فاستعانت بالعمالة الأجنبية الماهرة بغية جلب المعرفة اللازمة لإدارة مؤسسات الدولة، واستوردت العمالة قليلة الأجر لشغل الوظائف الشاقة، خصوصًا في قطاع الإنشاءات.
ولأمد طويل، كان يُنظر إلى عملية جلب الخبرات والعمالة الأجنبية على أنها مؤقتة لسد حاجة الاقتصاد المحلي. وذلك ريثما تسعى الدولة إلى تهيئة العمالة الوطنية وتدريبها وإعدادها لسوق العمل. لكن بعد مرور نحو خمسين عامًا على هذا النهج، يُظهر الواقع الملموس عدم تقلص حاجة دول الخليج العربية إلى العمالة الأجنبية. بل يشتد اعتمادها اليوم عليها أكثر من ذي قبل.
وقد ترسخت هذه الحاجة بسبب متغيرات سياسية واجتماعية عديدة. فوقفت عائقًا بين العمالة الوطنية المؤهلة الراغبة في دخول سوق العمل وبين المجالات المتاحة لها، والتي أصبحت مع مرور الوقت من نصيب العامل الأجنبي.
وبالرغم من سعي دول الخليج العربية الدؤوب في العقود الماضية لـ«توطين» الوظائف، إلا أن استمرارية الحاجة للعمالة الأجنبية لم تترسخ بسبب خبرات تلك العمالة وحسب. بل لقدرتها أيضًا على إظهار مهارات وظيفية قد لا يتسنى للمواطن اكتسابها من المؤسسات الوطنية سواءً التعليمية منها أو التقنية.
ورغم تنفيذ استراتيجيات وخطط مختلفة خلال هذه الفترة الانتقالية، فقد تتعارض مع توقعات الأفراد في المجتمعات الخليجية. إذ ساهم التركيز على توطين الوظائف في إعطاء انطباع بأن وجود العمال الأجانب أمر مؤقت.
لذلك، لا يزال يعبر البعض في مواقع التواصل الاجتماعي عن حيرتهم لوجود الأجانب، اعتقادًا بتعارض رغبة دولهم في استقطاب المهارات الأجنبية مع خطط التوطين المعلنة. علاوة على ذلك، بدأ عدد من دول الخليج العربية في طرح تأشيرات إقامة مختلفة لتحفيز الأجانب على الاستثمار والاستقرار بصفة دائمة في المنطقة.
القطاع الخاص عائقٌ أمام التوطين
ساهم تدفق العمالة الأجنبية في إحداث تغييرات جوهرية في سوق العمل حيث أصبح القطاع الخاص المشغل الرئيس للعامل الأجنبي. في حين كانت الوظائف المناسبة للمواطنين تتركز معظمها في القطاع الحكومي.
لكن أصبح الحفاظ على هذا الانقسام أكثر صعوبة في السنوات الماضية. فالتشبع الناتج عن ارتفاع نسبة الوظائف غير المنتجة في القطاع العام أصبح عبئًا على دول المنطقة الراغبة في الانتقال من اقتصادها الريعي. كذلك ساهم ارتفاع نسبة البطالة في دفع المواطنين للدخول إلى القطاع الخاص.
ورغم هذا التوجه، لا تزال بعض المجالات داخل القطاع الخاص تميل لصالح العامل الأجنبي. وذلك إما اعتقادًا بتفوقه في بعض المهن كالتسويق والإعلان، أو لتفضيل بعض الشركات الاحتفاظ ببعض المناصب بين المهنيين الأجانب رغم جهود الدولة في توطينها.
سوق العمل في الربع الثالث، متى ينتهي شبح أزمة البطالة السعودية؟
وبالنظر إلى كل هذه العوامل والتحديات التي يمر بها سوق العمل اليوم، هل يمكننا منطقيًّا أن نفترض سهولة تحقيق توطين الوظائف؟ لا سيّما في ظل رغبة دول المنطقة في تطوير اقتصاداتها؟
إذ قد تحدُّ رغبة دول الخليج العربية في استقطاب الشركات والمؤسسات العالمية من قدرتها على إلزام الشركات بتوظيف العمالة المحلية، وهذا من شأنه أن يعيق محاولات التوطين ونقل المعرفة.
أزمة نقل المعرفة من الأجنبي إلى الخليجي
تتبع دول الخليج العربية مسارات مختلفة فيما يتعلق بحاجتها للعمالة الأجنبية. بعضها لا يزال يعد العمالة الأجنبية -سواء المهنيين من ذوي المهارات العالية أو العمال ذوي المهارات المنخفضة- العمود الفقري لاقتصادها. بينما بدأ البعض الآخر في تقليص عدد العمالة قليلة الأجر والاحتفاظ بالأجانب ذوي المهارات العالية وجذب آخرين من الفئة المحترفة ذاتها.
ومع اختلاف مساراتها، إلا أن توجهها نحو تأسيس اقتصادات قائمة على المعرفة لا يزال ثابتًا، رغم العوائق المختلفة التي تقف في طريق نقل المعرفة. فهي لا تزال تشجع على نقل المعرفة من الخبراء الأجانب إلى المواطنين وتسهيلها. لكن لم توضَع آليات مفصلة لتتبع هذه العملية المعقدة.
فالمعرفة ليست دائمًا قابلة للقياس الكمي، كما أنها ليست بالضرورة أمرًا يمكن للمرء استعراضه كالمهارات التقنية مثلاً. بل تكمن المعرفة في قدرة الموظف على ممارسة مهارات إضافية تعطيه القدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ بالعقبات المحتملة، والتفكير أيضًا بالحلول المبتدعة والجديدة ومعالجة المواقف الصعبة.
فمثلًا مهارة التفكير النقدي ليست مهارة قابلة للنقل بسهولة. هي مهارة تنمو في ظل ظروف اجتماعية وسياسية تتسم بالتسامح الفكري مع الأفكار والرؤى غير التقليدية والجريئة. لكن بالنظر إلى طبيعة مجتمعات دول الخليج العربية، فأي حديث عن نقل المعرفة يصبح غير مجدٍ.
إذ تعجز تلك المجتمعات عن مواجهة العوائق الاجتماعية والسياسية التي قد تعرقل سبل الوصول لغايات نقل المعرفة والاكتفاء الذاتي.
لهذا:
يجب النظر إلى العمالة الأجنبية الماهرة على أنها عنصر ثابت في اقتصادات دول الخليج العربية. خاصة لأن تلك الاقتصادات تهدف إلى الحفاظ على معدل النمو في حين تحاول تقليص الامتيازات التي أصبحت عائقًا على ميزانية الدولة. Click To Tweet
سؤالٌ أخير
رغم المذكور أعلاه، لا ينبغي الاستمرار في الحديث عن مواطني دول الخليج العربية كمستفيدين غير فاعلين من الامتيازات التي كانت وما زالت تقدمها دولهم. ولا يجب تصويرهم كأفراد يستوجب على الدولة تحفيزهم لاكتساب المهارات اللازمة للنجاح في الاقتصاد المحلي.
لكن ينبغي لنا الاعتراف بأن آليات الرفاهية التي شيدت عليها اقتصادات دول المنطقة ساهمت في إعاقة تقدم مواطنيها. وبعد تسجيل هذا الاعتراف، يبقى السؤال: ما الذي يمكن لمواطني دول الخليج العربية فعله في هذه المرحلة للتعامل مع التحديات المتزايدة في سوق العمل، خصوصًا في ظل المنافسة غير المتكافئة بين العامل الأجنبي والمواطن الخليجي؟ وكيف لهم اللحاق بالركب والانضمام إلى مجموعة المواهب العالمية التي تحاول الاقتصادات المتقدمة جاهدة جذبها والاحتفاظ بها؟
لا نملك الإجابات لهذه التساؤلات ولا الخبرات التي تمكننا من استنتاج حلول سريعة ووافية يمكن مشاركتها. إلا أننا مدركون لحاجتنا الماسة إلى الحديث عن هذا الموضوع الذي بات يؤرق جيل الشباب الخليجي.