هل صدئت مسامير في نتفلكس؟
لقي «محافظة مسامير» لدى عرضه في نتفلكس صدىً هائلًا من معجبيه، وفي خضم النجاح يلحُّ سؤال حول مستوى لغة أبطاله.
منذ عام 2010، خاض مسامير تجربة فريدة على يد المبدعَين فيصل العامر ومالك نجر. فمع إطلالته الأولى من نافذة يوتيوب استحق بكل جدارة أن يطل على جمهوره العريض من الشاشة الكبيرة، مواصلًا تقدمه إلى المنصة العالمية نتفلكس.
وما لا يستطيع أحد إنكاره أن تلك التجربة الفريدة شكلت في مضمونها صوتًا وإلهامًا. فحوَّلت أدواتها البسيطة ولغتها السهلة إلى مادة رصفت الطريق للمشاهد لإيصال أعمق الرسائل، دون أن يتمكن حارس البوابة من تعطيل مسيرتها. ولعل هذه المادة السحرية ما يفتقر له الكثير من صناع المحتوى.
ولكن مع بداية متابعتي «محافظة مسامير» الذي عُرض على نتفلكس دارت في رأسي أسئلة ترددتُ كثيرًا قبل التعبير عنها. إذ خشيت الاصطدام بهالة التقديس حول المسلسل. فيُصوَّر لجمهوره أني انزلقتُ من النقد إلى التصيد، بل إلى تعكير الماء عُنوة لإيجاد مبرر للاصطياد.
حاولت جاهدًا الصمت عن أسئلتي لعل النهاية تختلف إلا أن خاتمة الموسم لم تختلف كثيرًا عن بدايته.
لماذا اللغة المبتذلة في نتفلكس؟
ما الذي يريد صناع مسامير قوله من خلال هذا الجزء المترع باللغة المبتذلة؟ لغة متخمة بالشتائم والإيحاءات الجنسية من قَبيل «اركب عليه» و«انت خابر وين تحط الموز»، وغيرها الكثير من الألفاظ النابية والإيحاءات المقززة.
كان هذا تساؤلي وأنا أستحضر الأجزاء السابقة، إذ لم تكن بهذا القدر من الإسفاف. فهل هذه النسخة امتداد للهوية السابقة أم مسخٌ ناتج عن اتساع مساحة العرض مما أفقد صُنَّاعها توازنهم أم أنهم وجدوا أن هذه اللغة تردم المسافة بينهم وبين أهدافهم؟ أم أن أهدافهم تغيرت فعلًا، لا أعلم!
لكن تهيمن هذه اللغة على المحتوى بشكل لافت لا يقبل التجاهل، بل تكاد تكون ثيمة أساسية لكل الحلقات. وأحدثكم عن ثمانِ حلقات، متوسط الوقت فيها لا يتجاوز العشرين دقيقة، ضخت ما لا يقل عن عشرين مشهدًا من هذا النوع.
تزيد تلك الدقائق أو تنقص قليلاً بحسب تمكن المشاهد من لغة الشارع، المصدر الأساسي لتلك الثقافة التي يبدو أن مسامير أصبح الناطق الرسمي باسمها. في كل الأحوال سأفترض أننا أمام أداة تسويقية تقتفي الأثر الذي وصفه أدونيس قائلًا «الناس تبحث عن المبتذل» في إشارته لشعر نزار قباني.
ولنقل أننا أمام أداة تعتمد في طرحها كسر «التابوهات» لتصطاد انتباه المشاهد. فتقدم له المنتج في ثوب تشويقي لمّاع يزيد من جاذبيته وانتشاره. مع يقيني التام أن الإسفاف تشويق لا يصنع أثرًا حقيقيًا بل مجرد إثارة مؤقتة، سرعان ما يغسلها الوقت ويفشل في غسل وجوه صناعها.
بافتراض صحة ما تقدَّم، لماذا يحتاج مسامير للتسويق بهذه الطريقة وهو المتفرد في السوق، أي حاجة ملحّة دعته لذلك؟
مسامير ليس للأطفال
ما الذي اختلف منذ اعتلاء مسامير المنصة العالمية؟ لقد تلاشى ذلك القلق المشوب بالمسؤولية تجاه الأطفال عندما عرض «فلم مسامير» في دور السينما، كيف اختفت تلك المخاوف التي عبّر عنها مالك نجر في لقائه في فنجان بقوله:
أكثر شغلة أخافتني إنهم يقولون تقييمه خمسطعش وفوق لأنه إذا قالوا تقييمه خمسطعش وفوق معناته محَّد يقدر يدخله كأطفال بالتالي قد يؤثر على أداء الفلم.
وفي أحد لقاءاته بعد عرض الفلم وقطفه لكل أهدافه قال مالك:
مسامير مسلسل غير موجه للأطفال ولكنه آمن لهم.
فإذا لم يكن مسامير موجهًا أصلًا للأطفال، فهل كانت تلك الخشية بمثابة الممر العمليّ فقط؟ وبمجرد الحصول على اعتماد «هيئة الإعلام المرئي والمسموع» لم يعد مسامير مضطرًا لأن يسلك ذلك الممر؟ أم أن الشاشة الكبيرة أبدلته أجنحة الشمع بأجنحة الثقة، وحفَّزته للانحدار بمستوى اللغة للقاع، خاصة أن نتفلكس تقف على الحياد ولا تعترف بهذه المعيارية.
ربما لهذه الأسباب لا يرضى عبد العزيز المزيني، المنتج في مسامير، لابنته ذات الإحدى عشرة سنة مشاهدة الجزء الأخير منه. ويؤكد أنه ليس مسؤولاً عن تربية أبناء أحد. فقبل الوصول لـ«محافظة مسامير» عبر منصة نتفلكس ثمة بوابات كثيرة لن يتخطاها الطفل إلا بموافقة أبويه. لينسف تلك الفكرة فيما بعد بفكرة أكثر واقعية، يختصرها بقوله: «مين ما عنده نتفلكس!»
فعلًا «مين ما عنده نتفلكس»، لكن ماذا عن تلك الأسر التي لا تعرف شيئًا عن صناعة المحتوى وأبعاده لأي سبب كان. وأقصى ما يجول بخاطرها أن أفلام الكرتون حقٌّ أصيل للأطفال. والصورة الكرتونية كفيلة ببعث الطمأنينة في نفوسهم، ويزيدها طمأنينة دمغة «صنع في السعودية».
أين يقع المسلمون الأخيار في عوالم الأبطال الخارقين؟
قطعًا لامس المزيني في حديثه حدود الصدق، سواء عن البوابات الكثيرة والآمنة، أو عن سيطرة الانتشار التي تفرضها نتفلكس. لكنه للأسف «صدقٌ مشرَّب بالأنانية» كما يصف الروائي محمد عبد اللطيف.
حجة الدفاع عن الواقعية
يدافع البعض عن هذا المستوى من الحوار بحجة الواقعية. فـ:
قبول العمل في المجتمع مقترن بالحوارات المنحوتة من السائد في يومياته. لا أنكر انحيازي لهذه الفكرة مع بعض التحفظ إذ تسد بشكل او بآخر بعض الفجوات في العمل. لكن الفكرة تتبخر تمامًا إذا ما قرنّاها بمسامير. Click To Tweet
فعن أي واقعية نتحدث ونحن أمام شخصيات كرتونية رُسمت بطريقة تنفي واقعيتها تمامًا. وباعتقادي أن الحوار الذي دار بين أبطال المسلسل في الإعلان التشويقي الذي اختتمه منير المثقف بحنق قائلاً: «يا كلب أي واقعية في إني أبيع عرق، على رائد فضاء، مطوع، راكب فوق وزير خارجية طاجاكستان» يختصر كل الحكاية حول الواقعية.
هناك أيضًا حجة أخرى أصبحت رائجة، تتمثل في تقبلنا هذه اللغة المنحدرة وترحيبنا بها إذا كان مصدرها أجنبيًا، لكننا نرفضها إذا كنّا نحن المصدر. ويغيب عن أصحابها أن هذه المنافسة منافسةٌ على القاع لا أكثر.
انحدار صناعة مسامير
على أية حال لم تضف هذه اللغة المنحدرة شيئًا لقاموس شتائمي، وأكاد أجزم أنها لم تضف كذلك للكثيرين. وأعلم جيدًا أن هذا المنحدر يقبع في خانة ما في نفوسنا جميعًا.
وأنا لا أسعى هنا لمثلنة المجتمع وتحويل حياتنا لنموذج يُحتذى به، ما أقصده أهون بكثير. هي مجرد محاولة لاختلاس النظر لما يدور خلف ستار صناعة محتوى مسامير وانحدار لغته.
وتترك هذه النظرة أسئلة كثيرة. أكثرها إلحاحًا: ما السبب الذي يدفع مسامير إلى فتح حاوية النفايات وعرضها والترويج لها، بل وتصدير نتانتها؟ فهل صدئت مسامير؟