البتكوين: عملة تداول أو أصل لحفظ القيمة؟

حتى تفرض البتكوين قيمتها كعملة تداول معترف بها عالميًّا فلا بد من شروط أساسية تحققها، فهل تتوفر بها تلك الشروط؟

لدى وقوفك في صف المحاسبة في أسواق التميمي أو بنده منتظرًا دورك للدفع، هل تساءلت يومًا عما يجعل عملية الدفع سلسة؟ 

ليتحقق الأمر  لا بد للعملية أن تكون فوريّة، فمن غير المنطقي انتظارك طويلًا للتأكد من إتمام الشراء. ثانيًا قابليّة تجزئة العملة، فبعض المنتجات تحمل قيمة أقل من الواحد. وقبل هذين الشرطين، يلزم وجود قيمة جوهريّة أو ندرة للعملة في يدك يتفق الجميع على كونها قابلة للتداول. 

ننتقل بعد ذلك للأمور العمليّة كسهولة تخزين العملة وإرسالها واستقبالها. كذلك اتصافها بـ«المثليّة» (Fungibility)، أي أن الدولار يتعرّف عليه الجميع بكونه دولارًا مهما كثر استخدامه وبصرف النظر عن مصدر اقتنائه. وأخيرًا اتصافها بـ«المتانة»، أي قدرة تحمّل العملة التلف مع كثرة تداولها واختلاف طرق تخزينها. 

ما بين الذهب والدولار

يعد الذهب عملة تحفظ القيمة لكنّه غير عملي للتداول اليومي في القرن الحادي والعشرين. تجاوزنا العصر الذي ندفع فيه قرامات من الذهب لشراء وجبة شهية أو تخزين الأثرياء قنطارًا من الذهب داخل قصورهم. 

في المقابل فقد الدولار صفته كعملة تحفظ القيمة عام 1971. فحينذاك أعلن الرئيس الأميركي نكسون جملة من القرارات الاقتصاديّة المعروفة بـ«صدمة نكسون» للسيطرة على التضخم. كان محور تلك القرارات فصل الذهب عن الدولار مما سبّب انهيار نظام الـ«بريتون وودز» (Bretton Woods System)، ليطفو الدولار بعدها في الخزائن بلا قيمة جوهريّة. 

ولا تقل أهمية مثليّة العملة عن قيمتها الجوهرية. وتتميز الأوراق النقدية بالمثليّة لكن ضمن حدودها المحليّة، فعملة الوون الكوري مثلًا لن يقبلها تاجر في الولايات المتحدة. أمّا الذهب فلا تزال البشريّة متفقة على قيمته كذهب منذ إمبراطوريات الفرس والروم مما لا يدع مجالًا للشك بكونه الأكثر مثليّة بين جميع العملات.

كلوندايك، حمى الذهب

عرف منذ القدم عن الإنسان سعيه للكمال في شتى أشكاله، إن كان باتخاذ مكانة اجتماعية، أو إيجاد وظيفة مرموقة، أو جمع المال بمختلف الطرائق. تلك الأخيرة من أكثر الأمور المحفزة لجعل الإنسان يحظى بحياة رغيدة أو على الأقل يحسن من مستوى معيشته.

4 يوليو، 2017

من حيث التخزين، فلا شك يصعب تخزين الذهب، بينما تتميز العملات الورقيّة بسهولة تخزينها. ويتفوق الذهب في شرط المتانة. فمن بين كل المعادن يمتاز بقدرة تحمله العالية فلا يصدأ ولا يتلوّث ولا يُدمَّر بالنيران. أما الأوراق النقدية، فدخلت في تصنيعها مادة البوليمر فجعلتها أقل عرضة للضرر والتلف. 

بعد هذه المقارنة، هل للعملة أن تتصف فقط بإحدى الصفتين؟ إمّا أصل ذو ندرة لكن لا تتوافق مع العالم الذي نعيشه، أم عملة تملك كل الصفات إلا القيمة الجوهرية؟ هل ثمة وسيط آخر لتبادل القيمة يستوفي جميع الشروط المذكورة، فيحمل صفة العملة والأصل في آن واحد؟ عملة فوريّة وفائقة التجزئة وذات قيمة محدودة متماثلة يسهل استخدامها وانتقالها عبر الحدود؟

ندرة البتكوين واستيعاب الشبكة

تعد تقنية «البلوك تشين» (Blockchain) الشبكة المشغّلة للبتكوين. وتمتاز الشبكة بكونها لا مركزية، فلا تخضع لقيادة موحدة وجميع من فيها رقيبٌ عليها. كما تميزت منذ انطلاقتها بالمحدوديّة، إذ لن تعدِّن أكثر من 21 مليون بتكوين.

يؤكد دستور البتكوين هذه السياسة الماليّة. ويزيد ترسيخها والموافقة عليها كل شخص يرى مستقبلًا في هذا النظام المالي فيقرر تشغيل عقدة بتكوين خاصة به. لينضم بهذا إلى جميع الأفراد المشاركين في تشغيل الشبكة الذين وصل عددهم هذا العام رقمًا غير مسبوق. 

مع وجود سقف محدد للإنتاجية تحقق تقنية البلوك تشين للبتكوين شرط الندرة بحمله قيمة جوهريّة. لكن ماذا عن فوريَّة الشراء؟ 

سنغير للتوضيح اسم شبكة البتكوين من البلوك تشين -أي «سلسلة الكتل»- إلى «سلسلة الغرف». حينما تُرسَل كميّة من البتكوين من محفظة لأخرى، لا بد من معالجة هذه العملية داخل غرفة مُغلقة ومُظلمة لا نعلم أين موقعها. لذا نحتاج إلى كهرباء لإضاءة المكان وإيجاد هذه الغرفة. 

إن وجدناها فلا بد من حل مسائل رياضيّة معقدة لفتح الباب المغلق، وهذا يستدعي وجود طاقة حوسبيّة لتمرير العمليات إلى الداخل. إن تم ذلك وفُتح الباب، ستتدفق العمليات بلا توقف وسيرغب الكل بالاستيلاء على زاوية داخل الغرفة. 

لكن الغرفة تحمل طاقة استيعابية ولا تحتوي الجميع دفعة واحدة. فإذا لم يكن لعمليّتك نصيب في الانضمام ستضطر للانتظار عشر دقائق تقريبًا لبناء غرفة جديدة. ومن غير المؤكد انضمام عمليتك في الغرفة المقبلة، إذ قد تبقى معلّقة حتى يخف الضغط على الشبكة. 

تعالج شبكة البتكوين 1700 عملية فقط كل عشر دقائق، ما يعني أنها قادرة على تمرير العمليات بمعدل 4.5 عملية/الثانيّة. وهذا كم زهيد جدًا مقارنةً بشبكة فيزا التي تعالج أضعاف هذا العدد بمعدل 24,000 عملية/الثانية. 

كذلك ثمة رسوم مصاحبة لمعالجة كل عملية في شبكة البتكوين. وتحدِّد حالة الشبكة قيمة الرسوم، فتبدأ من بضعة دولارات وتزداد مع احتقان الشبكة وتراكم العمليات.

فوريَّة «الشبكة الرعدية» 

يصف البعض البتكوين بالعملة المثالية، لكن الحواجز التقنيّة في مدة الإرسال والاستقبال تؤثر سلبًا في عملية الدفع. 

في عام 2015، نشر مبرمجون ورقة بحثيّة تشرح بروتوكولًا يسمّى «الشبكة الرعديّة». تكمن فكرته في إضافة طبقة فوق شبكة البتكوين بهدف بناء أدوار جديدة فوق الغرف الرئيسة. وعلى خلاف شبكة البتكوين الممتلئة بالعمليات، تتكون الشبكة الرعديّة من «قنوات» مشحونة سلفًا بكميات من بيتكوين تُرسَل وتُستَقبل بـ«سرعة الرعد». 

وتكاد الرسوم تكون معدومة، فالقنوات الرعدية جاهزة بالبتكوين للإرسال والاستقبال لحظيًّا. ليس هذا فحسب، فالقدرة الاستيعابية لهذه القنوات عالية جدًا تصل إلى ملايين العمليات بالثانية. 

من غير المنصف مقارنة سرعة معالجة العمليات في شبكة البتكوين الأساسية بشبكة الفيزا. فالأولى شبيهة بنقل الأموال عبر الحدود التي تستغرق أيامًا، بينما تعد الأخرى طبقة ثانويّة. أما المقارنة بين الشبكة الرعديّة والفيزا فعادلة، وترينا بالأرقام ألَّا مجال أصلًا للمقارنة بينهما.

فالشبكة الرعدية تعالج ملايين العمليات دون تحديد رقم معيّن، كونها تحمل قابليّة التوسع لاستيعاب حتى مليارات العمليات بالثانية.

اعتمادًا على ما سبق:

نستطيع تشبيه شبكة بتكوين الرئيسة بحساب الادخار والشبكة الرعديّة بالحساب الجاري. عند استخدام البتكوين في الشبكة الرعديّة نحقق شرط الفورية في استقبال المال وإرساله. وبهذا يستوفي البتكوين شرطين مهمين من أصل شروط العملة السبعة.  Click To Tweet

ادفع بقدر ما تستهلك 

حتى تستمع إلى بودكاست شهير يتوجب عليك دفع بضعة دولارات مقابل محتواه الحصري. ولنفترض بعد دفعك المبلغ وسماعك الجزء الأول لم يرق لك المحتوى ولم تعد راغبًا بالاستمرار، لكنك دفعت المبلغ كاملًا. 

هل تساءلت حينها لماذا يجب عليك دفع مبلغ مقابل المحتوى قطعةً واحدةً بينما قد لا تستهلكه بكليَّته؟ ماذا لو كنت تستطيع الدفع مقابل كل ثانية؟ فيُحسب عليك فقط ما سمعت. 

فكرة جديدة! لكن حتى تكون قابلة للتطبيق تحتاج تجزئة العملة إلى فتات قيميّة تعادل الكم الهائل من الثواني في المحتوى. فالدولار لا يمكن تجزئته إلى أكثر من 100 وحدة «سنت». ما يعني أنَّ الدفع بأصغر وحدة للعملة النقدية سيعد باهظًا في حال تطبيق الدفع بالثانية.

فإذا شاهدت فلمًا مدته ساعة ونصف مع مزود خدمة يطلب دفع سنت لكل ثانية، ستجد نفسك دفعت في مشاهدة فلم واحد ما يعادل سبعة أضعاف اشتراك نتفلكس الشهري. 

وُضعت هذه الإشكالية في الحسبان لدى تصميم البتكوين، إذ يمكن تقسيم البتكوين الواحد إلى 100 مليون وحدة. ويطلق على أصغر وحدة اسم «سات» (Sat) نسبة لمخترع العملة المجهول ساتوشي ناكاموتو. بهذا تصبح سياسة «ادفع بقدر ما تشاهد» أكثر عدلًا وبنطاق أسعار أوسع. إذ يستطيع المشاهد دفع سات لكل ثانية بما أن البتكوين يحمل ثمانية أعداد عشرية. 

كذلك، قد تفتح هذه السلاسة في تجزئة العملة مجالًا أكبر للابتكار والتطوير في صناعات أخرى كـ«المعاملات الدقيقة» (Microtransactions) والتي بلغت قيمتها 33.4 مليار دولار عام 2020.

إن ضاعت كلمة المرور ضاعت أموالي 

في مطلع عام 2021، نُشر مقال حول مبرمج ألماني الجنسيّة عجز عن الوصول لثروته المقدّرة بـ7000 بتكوين -ما يعادل 220 مليون دولار- إثر نسيانه كلمة مرور القرص التخزيني. تعطي هذه القصة انطباعًا بحتمية فقدانك للبتكوين إذا ما فقدت كلمة المرور. لا يعد هذا الانطباع خاطئًا، لكنه بالتأكيد يفتقر للدقة. 

فعند انشائك لمحفظة بتكوين بواسطة جوالك ستجد تحذيرًا قبل البدء باستقبال العمليات وإرسالها يذكرك بأهميّة الاحتفاظ بـ«بذور المحفظة» (Wallet Seeds). فما هذه البذور؟

يقوم بروتوكول البتكوين بصورة أساسية على مفتاحين: مفتاح عام ومفتاح خاص. المفتاح العام يُستنبط منه عنوان محفظتك أو رقم حسابك في الشبكة الذي من خلاله يستطيع الآخرون إرسال البتكوين إليك. أمّا المفتاح الخاص فلا يجب تحت أي ظرف من الظروف مشاركته مع أحد. فالوصول إليه يعني الوصول لأموالك. 

وتقدم لك تطبيقات محافظ البتكوين المفتاح الخاص على هيئة «بذور» أو كلمات عشوائية مكونة بالعادة من أربع وعشرين كلمة. وتشكل هذه الكلمات مجتمعة مفتاحك الخاص.

فإذا فقدت جوالك أو نسيت كلمة المرور، كما حصل مع المبرمج الألماني، تستطيع بكل سهولة استعادة جميع أموالك. حمِّل تطبيق محفظة البتكوين من جديد واضغط على «استعادة محفظة» ثم أدخل الأربع وعشرين كلمة بنفس الترتيب. ستظهر لك أموالك تمامًا كما تركتها. 

ما حصل للمبرمج الألماني أن بذور المحفظة التي تحتوي على 7000 بيتكوين احتفظ بها داخل قرص تخزيني. قرص صُمّم للاستخدام الحكومي والعسكري، ومشفَّر على نحو معقد بحيث يدمّر البيانات المخزنة تلقائيًا بعد عشر محاولات. 

هذا الأسلوب في تخزين البيانات كان اختيارًا شخصيًّا خارج شبكة البتكوين كليًا، ولكان أسهل عليه كتابة بذور المحفظة على ورقة خارجية وحفظها في مكان آمن. بهذا كانت الطريقة غير المألوفة التي اختار بها تخزين بذور محفظته السبب في فقدان أمواله.

مع ذلك لا بد من التوعية بأهمية المفتاح الخاص وخصوصيّته والطرق المثلى لتخزينه. وتوفر بعض الشركات صفائح مرقّمة من معدن التيتانيوم لنحت بذور المحفظة عليها وحمايتها من اللهب والصدأ.

إشكالية المثليَّة والمتانة في البتكوين

لا يتمتع البتكوين بالمثليّة لأن الشفافية الزائدة ليست دائمًا ميزة. فهناك من لا يرغب باقتناء بتكوين يحمل تاريخًا على الشبكة في السوق السوداء. كما لا يفضل مهووسو الخصوصيّة شراء البتكوين من المنصات المرخَّصة لارتباطها بهويتهم، لذا يلجأون للشراء بسعر أغلى بطريقة الند للند وبلا وسيط. 

أمّا الشركات فلا تمانع دفع 20% فوق سعر السوق للاستحواذ على البتكوين المعدّن حديثًا. ويرغب مطورو البتكوين بحل هذه المشكلة وذلك بإضافة المعاملات الخفيّة على الشبكة لتعزيز الخصوصيّْة وتقليل «التنبيش».

من حيث شرط المتانة والقدرة على تحمل مسببات التلف، فالأمر نسبي. إذ بما أنَّ البتكوين في أصله مجرّد بيانات، سيعتمد صموده أو تلفه على حامله.

نعود لسؤالنا، هل البتكوين عملة للتداول أم أصل لحفظ القيمة؟ موضوعيًا تفوّق البتكوين في شروط الفوريّة والتجزئة والندرة، وشرط مثليّته قابل للتطوير. ويتفاوت تفوقه في شرطيْ التخزين والمتانة اعتمادًا على المتعاملين به. لذا أترك القرار النهائي للقارئ، ففي نهاية المطاف المال مجرّد نظامٍ قائم على الإيمان.

الاقتصادالبتكوينالعملات الرقميةالرأسماليةالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية