السفر إلى نيويورك بعد الجائحة
زرت نيويورك وقد عادت للحياة بعد الجائحة، لأجدها مختلفة عمَّا عهدت. فالمدن التي أحببناها وأمدتنا بأجمل الذكريات مرضت أيضًا ولا تزال تتعافى.
ودعتُ نيويورك في يونيو 2019 بعد رحلة غامرة وملونة. كانت الرحلة الأجمل لو قيّمتها بمقياس الفعاليات والوقت والأجواء. حفلات توقيع كتب مع كتّابي المفضلين وحضور مهرجان للأفلام القصيرة المستقلة وزيارة المناطق التي أجلت المرور بها لسنوات. وفوق كلّ هذا المنعطفات العفوية التي تبعت فيها قلبي.
لكن نيويورك هذه المرة لم تكن كما عهدتها. بدت للوهلة الأولى متأهبة ومنغلقة، وساعتا الانتظار التي قضيتها في ممر الجوازات دليلٌ على ذلك.
كنت أشرت للموظف باتجاه مكائن التسجيل الذاتي للمسافرين والتي كنا نستفيد منها لعدة سنوات، لكنّه أصر بأنها مغلقة: «قفي هنا وانتظري دورك». وعلى خلاف حرصنا في الطائرة على التباعد، أصبحنا جميعًا مقيدي الحركة في مساحة لا تسمح حتى بتمديد أطرافي بعد عناء الرحلة الطويلة. لكنني تجاهلت كل ذلك. ورحت أردد في خاطري: تبقى عتبة صغيرة ينبغي عليّ عبورها لأنطلق في شوارع منهاتن التي أحب.
قلق فحص الـ«البي سي آر»
حذرني الجميع من السفر فأوضاع العالم لا تزال مرتبكة، لكن متطلبات السفر إلى أميركا كانت الأسهل في قائمة الدول المتاحة. لديّ فيزا سارية لعدة سنوات، ولا يشترط الحصول على جرعات اللقاح كاملة أو البقاء في الحجر لأكثر من خمسة أيام.
بعد حجز التذكرة، والذي كان سهلًا جدًا بسبب قلة ازدحام الرحلات، بدأت رحلة القلق من تعبئة النموذج الصحي للدخول لنيويورك. يتحقق هذا النموذج من حالة تلقي المسافر للقاح ومكان سكنه وتحديد مدة بقائه في المدينة.
لكن الأسبوع الأخير من يونيو حمل مفاجأة لطيفة تتمثل في إلغاء إلزامية هذا النموذج، والاكتفاء بفحص الـ«بي سي آر» المطلوب للسفر خارج السعودية.
مع ذلك بقي القلق يتملكني. فأكثر ما أخافني من نتيجة فحص كورونا المدة التي يتطلبها إجراء الفحص والتي لا تزيد عن اثنين وسبعين ساعة قبل الرحلة. ماذا لو أتت النتيجة إيجابية؟ وكيف أزيد على حرصي وانتباهي أكثر من الحذر الذي التزمته نحو سنتين؟ خياري الوحيد كان بذل كل ما في وسعي لعزل نفسي قدر الإمكان قبل الرحلة بأسبوعين. وبعد الفحص حبست أنفاسي حتى ظهرت النتيجة السلبية.
مرحبًا بك في عالم بلا كمامة
ما إن اعتدلت في جلستي مع سائق سيارة الأجرة حتى سألته: «هل يمكنني التخلي عن الكمامة هنا؟» فأخبرني أن المدينة كلها فعلت ذلك. وفعلًا ما إن بدأت السيارة تخترق زحام نيويورك حتى لمحت الجميع وقد تخففوا من كماماتهم وأوجدوا لها مكانًا جديدًا، أعلى المرفق وكأنها نيشان أو علامة على الخلاص. فبعض الأماكن لا تزال تلزم مرتاديها بوضع الكمامة.
قرأت رسالة محذّرة على واجهة إحدى المحلات: «يسعدنا رؤية ابتسامتك إذا كنت تلقيت اللقاح أما إذا لم تفعل فنرجوك الاحتفاظ بكمامتك.» أذهلتني هذه التفرقة الفورية التي ما من دليل يثبتها. إذ لا يوجد تطبيق يحدد تلقيك اللقاح، ولا أحد أصلًا سيسألك.
على أية حال، كنت أتنقل من مكان لآخر سعيدة بلحظات بلا كمامة، وكأنني عبرت إلى بعدٍ موازٍ لا تحكمه الجائحة.
مغلق للأبد بفعل الجائحة
عندما أصل لمدن أحبها أزور خارطتي الخاصة التي رسمتها بالأماكن المفضلة حتى أستعيد معها ذكريات دهشتي الأولى. لكن هذه المرة في نيويورك اصطدمت كثيرًا بعلامة الإغلاق الحمراء، والتي تارة كانت مؤقتة وأخرى نهائية.
أقف أمام الواجهات بحضورها الشبحي، ألواحٌ خشبية تقفل الزجاج ولوحة أزيلت منذ شهور. هنا كان مقهى مفضل، وهناك مكتبة مستقلة، وعلى رأس الشارع مطعم يغير قائمته مع تغير الفصول. كلها غادرت المدينة بلا رجعة.
مكانٌ واحد تبقَّى من خارطتي. مطعم بثيمة فرنسية ألقت الجائحة بظلالها عليه وأقفل لعدة شهور قبل أن يتبرع مرتادوه الأوفياء بميزانية إدارته ودفع رواتب موظفيه. عاد من جديد على ناصية الشارع بمظلاته الحمراء وكأن شيئًا لم يكن. مما دفعني للتفكير بكل المشاريع التي تضررت خلال العامين الماضيين ولم تجد من يمدّ العون لها.
فأكثر من مائتي ألف منشأة في الولايات المتحدة أغلقت أبوابها للأبد متأثرة بالجائحة. والمصير ذاته لقيه 26% من المشاريع حول العالم.
كم أرعبني هذا التسارع في استبدال الأماكن المحببة بأخرى أجهلها! وما يرعبني أكثر أن المدة الفاصلة بين آخر زيارة لي ووقوفي أمام الواجهة الجديدة لم يتجاوز العامين.
اللايقين وأزمة الوجود ما بعد كورونا
كان هناك مطعمٌ مكسيكي في زاوية من حيّ تشيلسي أحبه واعتدت زيارته، لكن هذه المرة ظهر مكانه آخر آسيوي. ولم يكتفِ المالك بتغيير اللوحة، بل امتد الأمر للأثاث والألوان والموقع على الخريطة. ولو لم أملك ذاكرة صورية جيدة لاستسلمت لفكرة أن المكان كان من نسج خيالي.
نيويورك تفاحة مقضومة
إذا كان ثمة سمة غلبت طابع الأيام التي قضيتها في نيويورك ستكون تأمل البشر. مشاعر احتفالية غامرة وكأننا جميعًا نقول: الحمد لله نحنُ أحياء! تذكرت كل الأفلام الديستوبية التي تنتهي بخروج البشرية من خندق خفي. الضحك والموسيقا والشوارع التي لا تهدأ حتى منتصف الليل.
فقد تحولت نيويورك بفضل عدة تعديلات إلى مسرح كبير. إذ تقرر إغلاق عدة شوارع على السيارات وحصرها للمشي وجلوس مرتادي المطاعم في مساحاتها الخارجية التي استحدثت.
وتنبثق فكرة تحويل ستة آلاف ميل من الشوارع وتسخيرها للأفراد من محاولات إنعاش الاقتصاد وزيادة دخل المطاعم والمقاهي من الجلسات الخارجية. في الصباحات الأولى كنت أقف على زاوية الشارع وأختبر ما إذا كان متاحًا للمشي، فتحسم تساؤلاتي الخارطة الإلكترونية لقوقل.
لكن تحت كل مظاهر الاحتفال كانت تتردد الهمسات حول وضع المدينة الاقتصادي وارتفاع نسبة الجريمة، والمتحورات التي تقف على مسافة قريبة تنتظر الانطلاق.
إذا كنت نجوت من المرض أنت وأحبتك وما زلت تحتفظ بوظيفة تضمن لك العيش وحصولك على الأساسيات فأنت محظوظ جدًا، لكن كن مستعدًا. هذا ما فتئت أسمعه من أهل المدينة بعيدًا عن صخب السياح وسكان الولايات الوسطى الذين تدفقوا على منهاتن منذ مايو الماضي.
وداعًا نيويورك
كانت زيارات نيويورك في السابق ممتعة لعفويتها. أستيقظ صباحًا وأقرر وجهتي التالية حسب الأجواء والرفقة. المتاحف الضخمة للأيام المشمسة أو المطيرة، والمشي في الشوارع واكتشافها في الأيام الغائمة.
لكن هذه المرة الوضع مختلف. فقد احتجت لتحديد الأيام بالساعات واختيار الأماكن التي سأزورها قبل شهر على الأقل وذلك بسبب تقنين عدد الزوار. العملية سهلة لكنها أشبه بورطة حقيقية إذا لم يكن المزاج مناسبًا. وهكذا انتهيت إلى تفويت زيارة أو اثنتين لأنني وصلت منهكة من رحلتي ولم أتمكن من المشي. ولم أكن في مزاج يسمح لي بتأمل اللوحات.
وحدها فكرة تأجيل زيارة متحف المتروبوليتان ومتحف الفن الحديث للأيام الأخيرة من الرحلة كانت صائبة. حينها كنت استعدت لياقتي واعتدل مزاجي وقضيت عدة ساعات بينهما. وما أثار اهتمامي يومها كيف أصبحت الزيارة محددة وموجهة.
فمكانٌ مثل المتروبوليتان دومًا ما يصخب بالزوار الذين يتنقلون عشوائيًا من صالة لأخرى بلا هدف محدد سوى الاستمتاع بالمجموعات الفنية. لكن هذه المرة وجدت المسارات موزعة على الطريق، والأعمدة الفاصلة والأسلاك قائمة بين كل مسار وآخر. تعال من هنا وأنت اذهب هناك. نمشي وكأننا في رحلة مدرسية وسيصعب على أي منا العودة للوحة والوقوف مطولًا عندها.
وصلت نيويورك محملة بذاكرتي الغنية عن المدينة وقلبي مبتهج برؤيتها «تعود للحياة» كما تردد الإعلانات. واستمتعت فعلًا بها مع ما أتيح لي من وقت ومساحات. لكن ثمة شيء تحت السطح لم أتمكن من الإمساك به. Click To Tweet
وأظن هذا الشعور سيكون سمة كل المدن التي نحبها ونعرفها ما إن نعود لاكتشافها.
في اليوم الأول لوصولي صعدت مبنى روكفلر وتأملت المدينة بأفقها الممتد. لم أرد إطالة النظر عن قرب، ولا أظنني قادرة على ذلك في الوقت الحالي. ولو لم تكن رحلتي تعبر من خلالها ما كنت سأختار رؤيتها الآن.