الحياة في الرياض بين أقواس «التطبيقات»
انتقل إلى الرياض وحاول تكوين انطباعه الأوليّ عنها، لكن التطبيقات حصرته في دوائرها الضيقة حيث لبَّت كافة احتياجاته وأقصته عن المدينة.
انتقلت قبل شهر إلى الرياض، عاصمة الأعمال والفرص والآمال. ولأن المدينة جديدة عليّ أحببت اكتشاف تجربتي فيها على طريقتي؛ دون استشارات تعيق تشكيل انطباعاتي المبدئية وتحرمني فرصة اكتشافي للأمور من زاويتي الشخصية والفريدة.
لكن سرعان ما اكتشفت بعد تجربتي بأسبوع أنني أتعامل في كثير من تفاصيل يومي وقضاء حاجاتي وإنجاز معاملاتي مع تطبيقات الجوال. فلم أضطر للخروج من حدود شقتي في الطابق الخامس، أو اللقاء والتعامل مع أشخاص إلا في الحد الأدنى. ولم يتجاوز مجموع التعامل المباشر مع سكان المدينة الخمس دقائق.
تأسيس المسكن من مقعدي الوثير
أول خطوة تأخذها لدى انتقالك إلى مدينة جديدة البحث عن مسكن. ونصحني أحدهم بدلًا من الدوران على مكاتب العقار حيث تنعس الشقق المهملة، بفحص مواقع العقار المتيسرة على الإنترنت. وبالفعل وجدتُ الخيارات وفيرة. ومن مقعدي الوثير توزعت طاقة يدي وعينيَّ في عشرات الخيارات تتراكم في هاتفي مشفوعة بالصور والمزايا والفروق.
وعلى سبيل الحظ اخترت ما ناسبني من المعروض عندما وقفت عليها عيانًا. وشرعت في تجهيز الإجراءات الرسمية متنقلاً بين موقع «إيجار» الرسمي إلى تطبيق «أبشر» الذي يكفيك منه الرمز القصير المرسل إلى هاتفك لتفتح لك كل أبواب الثقة والأمان.
بعدها شرعت في تصميم الشكل الذي سيكون عليه شقتي. ووفرت الأثاث كاملًا من أصغره إلى أكبره من مواقع مختلفة كحراج للمستعملات وأمازون وأيكيا وهوم بوكس. كلها تتنافس فيما بينها في عروض التوصيل المجاني والتركيب والهدايا. إذ بمجرد استشارتي السيد قوقل بشأن قطعة أثاث تنهال عليّ العروض، وتلاحقني تطبيقات تلك المواقع أينما توجهت.
قضيت أيام التأثيث الطويلة، غير الشاقة بطبيعة الحال، في شقتي أستقبل عمَّال التوصيل. وقبل الانتهاء من تجهيز مطبخي الخاص لم أتعنَّ التجوال اليومي بين المطاعم والتعرف على أجوائها. إذ تكفَّلت عشرات التطبيقات بمنحي قوائم الوجبات المسدلة وفرصة انتقاء ما أشتهي بالنقر على صورة الوجبة التي ستسد جوعي.
هكذا قضيت أيام التأسيس سابحًا في بحر من التطبيقات التي تقوم بشأني. مدركًا أثناء تنقلي بينها أن ثمة الكثير من التفاصيل في حياتنا تتكفل التطبيقات بتلبيتها وتوفيرها دونما تفاعل بشري.
هل بدا الأمر مقلقًا؟ ليس بالضرورة. فلا أحد يكره تسهيل حياته، ولا رفع أعباء بعض المهام الروتينية عن عاتقه لا سيما مطاردة تخليص المعاملات. وفي المدن الكبرى التي تشبه الرياض، تقضي هذه التطبيقات على بعض سلبيات التوسع البشع والزحام الذي يستنزف الطاقة والتركيز والوقت.
لكن استفحال التطبيقات في تقطيع أواصر الطبيعة الأولية لتشارك البشر في التفاصيل الصغيرة لأيامهم قد ينتهي بتحويلنا إلى قطع جامدة. فهذه النوافذ الإلكترونية تبرمجنا على إيقاعها الخاص، وتهندس حياتنا على أساس أبعادها ونطاقاتها غير الآدمية.
جزر في بحر التطبيقات
أصبحت التطبيقات بمثابة بيوت هوى تضمن بنوكًا من الخيارات. وتغذي تعطش الإنسان الجديد للتغيير المستمر وجوعه للدهشة المؤقتة العابرة بدون إشباع، وبأدنى مسؤولية على الفرد من التزامات إنسانية مكتملة.
فيومًا بعد يوم تأخذ التطبيقات منحى الاهتمام بما هو خارج المألوف. تبتكر رغبات تفيض عن الحاجة كانت سابقًا في عداد الروتيني، لتعيد إنتاجها بطريقة ترفع معدل الطلب عليها. وتحثّ الجمهور الذاهل عن إبداء أي مقاومة على الالتحاق بها والاستفادة من خدماتها.
ويناقش عالم الاجتماع البولندي زيقمونت باومان، صاحب سلسلة السيولة، طبيعة التحولات التي طرأت خلال مرحلة ما بعد الحداثة. إذ يعتقد أننا على الأغلب نعيش في مرحلة من اللايقين، وأن الكثير من سلوكنا والمحيط من حولنا يتمتع بديناميكية متغيرة لا تهدأ في زوبعة من الحياة السائلة.
المتَّهمان الرئيسان هما «الفردانية» و«الاستهلاك» بصفتهما من انعكاسات الحداثة وما بعدها. ففي هذا التيار الهادر من التغيرات وأمواج التحولات أضحت العلاقات الإنسانية مفتوحة النهايات. ويعود جزء من ذلك إلى نموها بطريقة سريعة وغير تراكمية تقل فيها الثوابت العاطفية والالتزام الاقتصادي وتحمل المسؤولية.
بدائية الذات في وسائل التواصل الاجتماعي
ويعود جزء آخر إلى وجود تطبيقات معينة باتت تلبي الاحتياجات الشخصية والالتزامات الاجتماعية بتوفير نوافذ للحديث إلى الغرباء. والبحث أيضًا عن فرص لإزجاء الحب وتمضية الوقت وتفتيت أعباء الفراغ. لكن كيف يمكن للتطبيقات تعويض جوهر بنية العلاقات الإنسانية؟
فهذا الاعتماد المتعاظم على التطبيقات ينحت مجتمعات مترابطة بخيوط نحيلة تعصف بها أهواء النفس الموتورة وإعياء الذاكرة قصيرة الأمد. فتترك أفرادها مفككين كجزر معزولة في بحر من الهشاشة، حيث تمتص الهوية العولمية العصرية -أو «الهجين» كما يسميها باومان- خصوصيات المجتمعات وتنوعها وتنزع عنهم ذاكرتهم الثقافية. وتكسوهم بطابع أحادي وصيغة متشابهة خاضعة لنمط ذوقي قسري ودونما مقاومة.
تحوّلات العلاقة بين المستفيد ومقدم الخدمة
تقليديًا كانت تُبنى العلاقة بين مقدم الخدمة والمستفيد على الثقة والخبرة المشتركة. وكانت بعض العوائل تشتهر بصنعة تتوارثها الأجيال وتبني حولها مستعمرة اجتماعية كاملة وقيم معينة تنتج عن هذا التزاوج الاجتماعي-الصناعي. فتتأثر عمليات الإنتاج بكل المدخلات الاجتماعية والإنسانية المرتبطة بها.
وأتذكر في طفولتي أنني نجحت في تأثيث ذاكرتي وبنك معلوماتي بالكثير من قصص السودان ومصر والهند وباكستان والفلبين واليمن بمجرد الجلوس مع كل العمال الذين يفدون للخدمة في بيتنا. كنّا نحتسي معهم كاسات الشاي ونتناول وجبات الفطور أو الغداء، ونقضي ساعات في الحديث العفوي المشحون بالدهشة والشغف لاكتشاف بلدانهم.
تلك كانت عادة مألوفة في قريتنا. فبعض العمال -خاصة من السودان ومصر واليمن وباكستان- هم في الواقع جيراننا. نصلي في مسجد واحد ويحضرون المناسبات السعيدة والحزينة كفرد فاعل له كينونته وواجباته في مجتمع القرية الصغير.
أما الآن:
أصبحت العلاقة بين المستهلك ومقدم الخدمة جافة تمامًا. تبدأ باستعراض العاملين في دولاب التطبيق المختص بخدمة ما في مشهد استرقاقي يخلو تمامًا من أي بعد إنساني. Click To Tweet
وباحتياجي إلى عامل فلست مطالبًا بأكثر من ضغطة زر على تطبيق «ماي هوم» فيوافيني العامل المختص حسب حاجتي خلال ساعات.
ولأن عمليات التقييم والتعليقات من الجمهور تتحكم في مشهد العلاقة بين العامل والمستفيد، فيجدر بي ألا أنسى التعقيب على أدائه وخدمته بمجرد خروجه من باب الشقة. وذلك بغض النظر عن التهمة الشائعة التي لم يجرِ التحقق بشأنها حول عمليات التلاعب في نتائج التقييم وكتابة التعليقات المشجعة للمستهلك.
انطباعي الأوليّ للحياة في مدينة كبرى أنَّ للتطبيقات أن تعوض الكثير من الخدمات وتلبي كافة الاحتياجات، فالحياة تنمو في قفزات تقنية. ويبدو وصف «القفزات» مناسبًا لإعطاء الزمن حقه في تصوير الاضطراب والفجوات المهولة التي تبتلع التحولات المتدرجة ومنطق التمرحل الطبيعي.
إذ هكذا وجدتني أقع من حيث لم أنتبه في حبال التطبيقات. كلٌّ تتناوب على توجيه دفة خياراتي إلى حيث يكون الأمر بالتأكيد مربحًا لأصحابها، وليس معبًرا بالضرورة عن محض رغبتي واختياري.