الأمان المالي في الكتابة الإبداعية

قد يبدو مستحيلًا الجمع بين تحقيق الأمان المالي وممارسة الكتابة الإبداعية كمهنة. في الواقع ممكن، لكنه يتطلب الإيمان بالنفس والكثير من العمل.

أذكر المرة الأولى التي استخدمت فيها لقب «كاتبة». كانت قبل ثمان سنوات تحديدًا، أي بعد ثلاثة عشر عامًا من الكتابة في مزيج من المشاريع المتنوعة. تواصل معي يومها مدير تحرير إحدى المجلات الإقليمية يطلب بياناتي الشخصية وعنواني البريدي ليصلني اشتراك مجاني من المجلة. لدى تدويني المعلومات المطلوبة وصلت إلى خانة المهنة وترددت. ثم قررت: هيفاء القحطاني – كاتبة!

مذ سنوات البدء في الكتابة مرورًا بقدرتي على التعريف بنفسي ككاتبة ثم وصولًا إلى اليوم، عشت تجربة اجتزت خلالها عدة فصول في حياتي. وما جعل التجربة قابلة للعيش كل تلك الأعوام أمرٌ واحد: الأمان المالي. كذلك، باختياري الكتابة مهنة، كان ينبغي بي دومًا معرفة ماذا أريد من الكتابة وما أنا مقبلة عليه.

منطلق الكتابة الإبداعية كمهنة 

كلما رويت قصتي مع الكتابة وتحولها إلى مهنة أستبعد السنوات التي سبقت الدراسة الجامعية لأنها كانت بمثابة التجريب. أكتب اليوميات والقصص الطريفة، وأدوِّن الرسائل لوالديّ عندما تطول فترة العقاب بحثًا عن مخرج لا يضطرني إلى اعتذار صريح. 

لي أن أقول أنَّ سنتي الأخيرة في الجامعة كانت المنطلق. حينها اعتذرت رئيسة الصحيفة الجامعية عن العمل لانشغالها بالتخرج. واقترحت عليَّ المساهمة في الصحيفة بالكتابة والبحث عن مواضيع مع فريق التحرير. لم أكن رئيسة تحرير ولا كاتبة كاملة، لكن التجربة بالضرورة كانت تعني النشر الأول لنصوصي.

تزامنت تلك الأيام مع موجة الكتابة الرقمية في المنتديات ومواقع النقاش، فالمدونات آنذاك لم تولد بعد. وانكببت على الكتابة بكل الأساليب الممكنة: خواطر وقصص فانتازيا ويوميات وقصاصات من دفاتر المذكرات. لم أحصل حينها على النقد الذي أردته، الجيد منه والسيء. بل اقتصرت التعليقات على صور لإبهام مرفوع كناية عن «عمل جيد» أو القلوب والورود للتفضيل. وبالطبع لم تمنحني أيُّها الثقة الحقيقية التي احتجتها للتيقن من قدرتي على الكتابة، إن كان ما أفعل حقيقيًّا أم مجرد تجريبٍ عابث؟

جربت أيضًا كتابة الملفات التعريفية والسير الذاتية لشخصيات أدبية من التاريخ، ونشرت في مجلة محلية لم يعد لها وجود اليوم. وكلما تذكرت تلك الصفحات أغرق في نوبة ضحك. فالنصوص لم تدقق ولا حتى المعلومات التاريخية التي سردتها فيها. لكن ما كتبته طُبع في مجلة حقيقية ووجد له قراء خارج إطار الشاشة. صحيح أنَّ كل التجارب التي خضتها قبل تخرجي لم توفر لي عائدات مالية، لكنها بالتدريج منحتني أسس خبرتي.

من وظيفة خانقة إلى العمل الحر

إذا كانت الدورة الأولى من حياة الكتابة كمهنة تتمثل في وضع الأسس، فالثانية تعتمد على زيادة الدخل. وهكذا عملت بعد تخرجي مباشرة كمدربة في مجال التقنية. كانت الوظيفة قريبة من تخصصي الجامعي ومعها استلمت أول راتب حقيقي في حياتي. 

مرت عدة أشهر لأكتشف أنَّ الوظيفة تسلبني راحتي. فقد كنت أعمل لفترتين صباحية ومسائية، ولم يتبق لي أي وقت للكتابة أو حتى العيش. لذا تركت الوظيفة وبذهني قرار وحيد وحاسم: مذ آن وصاعدًا سأعمل بشكل مستقل، وللأبد إن استطعت. فلا أريد للوظيفة أن تسحق روحي.

عملت كمدرسة خصوصية لطالبات الجامعة، ودرستهن الرياضيات واللغة الإنقليزية وبعض المهارات الجامعية التي احتفظت بها قبل تبخرها. ومن هناك بدأت أخترع طرق متنوعة للكسب المادي، كل ذلك لأطيل فترة بقائي قرب الكتابة وحولها. وفي الأثناء ما لبثت أطرح على نفسي الأسئلة كلما اقترح عليَّ الأصدقاء والمقربون فرصة عمل بدوام كامل.

يجب أن أنوّه هنا أن تكاليف معيشتي آنذاك لم تكن كبيرة. فالعيش مع عائلتي يعني ضمان مسكن وغذاء يومي واحتياجات أساسية ملباة بالمجان. وما أجنيه كنت أنفقه على مزيد من التعلم وسداد فواتير الاتصالات والاشتراكات.

لم تدم فترة الاكتفاء هذه لوقتٍ طويل. فكلما تقدم الزمن وتغيرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية لعائلتي، اقتربتُ من حتمية إيجاد عمل بدوام كامل يؤمن مدخولًا مستقرًّا. حينها وجدتني أمام مسارين محتملين. وظيفة بدخل جيد ووقت محدد ومهام روتينية مملة أحيانًا لكن تضمن لي التقدم في مسار مهني. لكن هل كنت سأرغب حقًّا في تعلم أي شيء من وظيفة كهذه؟ أم ستكون مجرد هروب من موهبتي ومهنتي الأحبّ؟

أما المسار الثاني فيأخذ شكلًا أصعب وفيه أعتمد على الآخرين لتوفير احتياجاتي وتقليصها لحيز أصغر، ثم التفرغ تمامًا للكتابة وإتقانها. وهكذا اخترت المسار الثاني وحاولت إنجاحه من خلال تقليل الإنفاق وتغيير الأولويات والكتابة الدؤوبة. ولحسن حظي تزامن المسار الثاني مع حصولي على وظيفة مرنة في الكتابة لصحيفة محلية براتب مرتفع وفق مقاييس الكتابة والوظائف بشكل عام.

مسرِّعة المهارات

كانت أيام الكتابة في الصحيفة مضنية لكن ممتعة، وأسميها اليوم بكثير من الحبّ: مسرّعة المهارات. لو كنت أذكر اسم المحرر حينها لشكرته في هذا المقال لكني للأسف نسيته. فقد علمني كل ما احتجت معرفته عن الكوارث التي أتركها له في كل مقالة. علامات الترقيم المستحيلة والأخطاء الإملائية التي لا يقع فيها طالب في العاشرة. لكنه بصبره الطويل وهدوئه أعادها واحدة تلو الأخرى بعد تظليل الجزئيات وترك الملاحظات. 

شهرًا بعد شهر تلاشت الألوان الفاقعة من السطور وأصبح التركيز أكثر على بنية المقال واختيار الأفكار التي ستحصد عددًا أكبر من القراءات. وكنت من وقتٍ لآخر أقتني العدد الورقي من الصحيفة حتى أتأمل العمود وأتحسس الحبر. فالنسخة الرقمية التي تصدر مع منتصف الليل لم تكن تثير حماسي. 

وهكذا ترافق الاستقرار المادي مع ممارستي الكتابة الاحترافية، وساهم منحنى التعلم المرتفع في تثبيت هدفي باعتماد الكتابة كمهنة. وأذكر كيف ظلَّ والدي يشكك في احتمالية اعتماد الكتابة كمصدر مستقر للدخل، وبضرورة تمسكي بشهادتي الجامعية والعمل في مجالها.

العودة إلى نقطة الصفر

فجأة استغنت الصحيفة عن خدماتي ووجدتني بعد خمس سنوات من الأمان المالي في نقطة الصفر. فعدت إلى العمل الحر وترجمت مراجع الدراسات لصديقاتي الباحثات، وفي أيام أخرى عملت مدرسة لغة عربية لغير الناطقين بها. في الوقت ذاته دأبت على محاولة التواصل مع مجلات محلية وإقليمية يمكنها الاستفادة من خبرتي ولم أنجح. مع ذلك واصلت الكتابة في المدونة باهتمام لا يكلّ.

ثم جاءت الفرصة من جديد ووجدتني أعود للمسار الأول: اخترت وظيفة روتينية أتقنت مهاراتها من أسبوع واحد. وحاولت من وقت لآخر تمرير مهاراتي الكتابية لأشعر ببعض البهجة. ويخطر لي هنا ما قاله رجل الأعمال الأميركي جيم رون: «اعمل بدوام كامل لتكسب رزقك، وبدوام جزئي لتصنع ثروتك». أجد مقولته تصف بدقة تلك المرحلة من حياتي، وربما أيضًا المرحلة التي أعيشها الآن.

عملي ليس مثاليًا، لكني راضية

فكرةً واحدة ساعدتني على إذكاء حماسي والاستمرار: أن أفعل الأشياء بصورة «جيدة بما فيه الكفاية» وأتوقف عند حدّ الرضا والقبول.

27 أبريل، 2021

كنت أنتهي من عملي في الثالثة عصرًا وأعود للمنزل ليبدأ يومي الفعلي بالتركيز على الكتابة. كنت أبحث عن الجوانب التي تحتاج إلى تحسين، فالكتابة صنعة تتطلب التطوير والجودة العالية في التنفيذ. ولن أستطيع أبدًا العمل استنادًا فقط على الموهبة بلا جهد أو تركيز.

الكسب بعملات مختلفة

مع الأمان المالي بدأت العمل على الدورة الثالثة من حياة الكتابة كمهنة: التركيز على العلاقات. واكتشفت إلى أي حد العالم الرقمي مليء بالفرص التي تنتظر انتباهنا. 

إذ ساهمت تقنية التواصل الاجتماعي في بناء مجتمعات متنوعة للكتابة خارج النمط التقليدي للأوساط الأدبية المنغلقة على نفسها.

عززت المجتمعات الرقمية مشاركة خبرة المخضرمين الذين تمرسوا الكتابة قبل ظهور الإنترنت، واستفدنا نحن الذين نبحث عن أي فرصة لنكتشف كيف فعلوها. Click To Tweet

ولاحقًا نقلتني هذه المجتمعات للكتابة الاحترافية بمعنى حصولي على فرصة النشر، ورؤية كتاب على الرفّ يحمل اسمي كمترجمة. 

كذلك اكتشفت في تلك الفترة عملات أساسية أخرى لا يمكنني اليوم القول بأنَّ مسيرتي كانت ستحظى بالنجاح دونها. إذ حظيت بالظهور والانتشار والخبرة، وكلها مقدَّرات لا تشترى بالمال. وإن حصل واستطاع أحدهم شراءها، ستكون مؤقتة وسريعة الزوال.

وهكذا، مع توفر الخبرة والأمان المالي وقاعدة الانتشار، تجرأت ورحت أختار مشاريع إبداعية مختلفة في مجال الكتابة. إذ تولدت لدي القدرة على تجربة المشاريع التي كنت أخشى ضياع الجهد والوقت عليها في حال لم تنجح. فسقف الخسائر المتوقعة أصبح منخفضًا جدًا. 

وإذا كنت سأقسِّم تلك المشاريع بحسب الدخل الذي تصنعه ستظهر بهذا التصنيف. مشاريع العمود الفقري التي تضمن لي الأساسيات من تكاليف المعيشة، يليها مشاريع طويلة المدى دخلها ممتاز لكنها آجلة الدفع. وفي نهاية القائمة مشاريع المغامرة والابتكار التي لا ضرر من إتمامها بلا مقابل لبناء شبكة علاقات ممتدة ومتينة.

الصورة الحقيقية

حلمت بمهنة الكتابة منذ سنوات الطفولة الأولى. كنت أرى نفسي في كوخ صغير وسط غابة هائلة، أكتب على آلتي وأحتسي القهوة وأعتني بمزرعة صغيرة جانبية. وحتى اليوم لم أتخل عن هذا الحلم، لكن التجربة منحتني عدسة مكبرة على واقع الطريق نحو تحقيق هذه الصورة المتخيَّلة.

اليوم أعمل بدوام كامل في وظيفة جيدة وممتعة. ليست روتينية تضعني في حالة روبوت منفصل عن العالم، وليست مرهقة حدًّا توقفني بشكل كامل عن العمل الإبداعي. بل إنَّ هذه الوظيفة منحتني القوة لطلب ما أستحق عندما يتعلق الأمر بأتعاب مشروع أو قيمة فكرة مكتوبة. ولو قُدر لي إعادة هذه الرحلة من جديد سأفعلها دون تردد، لكن كنت سأحرص على إضافة بعض التحسينات.

العمل الحرالكتابةالمهنالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية