هامش الادخار السعودي في مستقبل ما بعد النفط
بينما ساهمت زيادة الوعي الاستهلاكي في التقليل من الإنفاق، لا تزال نسب الادخار متدنية حيث لا تتعدى 2.4% من دخل الأسر.
تتجه المملكة العربية السعودية بخطى سريعة نحو اقتصاد أكثر استدامة من خلال العمل على تنويع مصادر الدخل والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط. وهذا التحول المهم مرهون أيضًا بقدرة الشعب على التأقلم مع المتغيرات التي تفرضها هذه النقلة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي.
إذ شهدت السنوات القليلة الماضية سن العديد من الأنظمة والقوانين لتمويل الإنفاق الحكومي. ومن ضمن تلك القوانين: فرض الضرائب، والتي ارتفعت من 5% إلى 15% بسبب عوامل مثل جائحة كورونا، ورفع الدعم عن أسعار المياه والطاقة ومستقبلًا إقرار النظام الجديد للخصخصة.
ويضع النظام الجديد إطارًا قانونيًا للشراكة ما بين القطاع الخاص والعام، ويهدف إلى تسهيل الاعتماد على القطاع الخاص في توفير بعض الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والنقل.
يبدو أن هذه السياسات الاقتصادية الجديدة كان لها الأثر في رفع الوعي لدى الأفراد وتغيير ثقافة الاستهلاك. حيث يشهد استهلاك السعوديين اليوم انخفاضًا بسبب ارتفاع أسعار بعض السلع الاستهلاكية. مع ذلك، لا يزال الميل نحو الصرف يؤثر على سلوكيات إنفاق البعض.
وفيما ساهمت زيادة الوعي الاستهلاكي في التقليل من الإنفاق، لا تزال نسب الادخار متدنية حيث لا تتعدى 2.4% من دخل الأسر. بينما تنص رؤية 2030 على رفع نسبة الادخار إلى 10% بهدف تحسين جودة الحياة. وتعتبر النسبة متوسطة مقارنة بباقي دول العالم.
توضح الإحصاءات الرسمية الأبعاد الاقتصادية الحالية التي تدفع المواطن السعودي إلى عدم الادخار؛ إذ تعود بالأساس إلى الركود النسبي في رواتب القطاعين الخاص والعام.
كما أن ارتفاع أسعار الأساسيات وبعض السلع الاستهلاكية، خصوصًا مع تعدد خيارات الإنفاق الاستهلاكي في الآونة الأخيرة التي توفرها برامج رؤية 2030، دفع بعض المواطنين إلى الاقتراض، وقد يعزى السبب كذلك في عدم الادخار إلى الحفاظ على مستويات المعيشة المعتادة والتي أصبحت اليوم أكثر كلفة.
الادخار بين القطاعين العام والخاص
في مقابلته الأخيرة في شهر رمضان، أوضح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن 50% من الوظائف لا تساعد على الادخار، ويوضح هذا التصريح نوع الوظائف المتوفرة حاليًا في القطاع الخاص، والذي يقع اليوم تحت ضغط مستمر للسعودة وخلق الوظائف للمواطنين.
إذ تتجه الحاجة حاليًا نحو تقليل وظائف القطاع الحكومي ورفع نسبة التوظيف في القطاع الخاص. لكن اختلاف الوضع بين القطاعين يفسر عزوف بعض السعوديين عن العمل في القطاع الخاص.
إذ بالنظر إلى متوسط الدخل الشهري في السنوات القليلة الماضية يتبين الفرق بين دخل الموظف في القطاعين، حيث ارتفع قليلًا متوسط دخل الموظف السعودي الشهري في القطاع الحكومي بنحو 1000 ريال، وذلك خلال الفترة ما بين 2017 إلى 2019.
كما يتساوى تقريبًا متوسط دخل الرجال مع النساء في نفس القطاع، مما يشير إلى عدم وجود تمييز بين النساء والرجال في القطاع الحكومي فيما يخص الرواتب.
أما الصورة في القطاع الخاص فهي كما كانت عليه منذ أربع سنوات؛ أي أن رواتب القطاع الخاص لم تتغير. ويعزى السبب إما إلى ثبات المرتبات في الوظائف المختلفة على ما هي عليه، أو لارتفاعها نسبيًا للموظفين القدامى. بينما بقيت رواتب الموظفين الجدد على انخفاض ربما لحصولهم من الأساس على وظائف متدنية الدخل وهذا ما قد يساوي بين رواتب الموظفين القدامى والجدد، فيجعلها تبدو وكأنها لم تتغير.
ويعد دخل النساء في القطاع الخاص أقل من دخل الرجال وذلك لعدة أسباب؛ ففي كون التمييز الجندري أحد هذه الأسباب، إلا أن عوامل أخرى تقف وراء هذا الفارق مثل العمل لساعات أقل، أو بنظام الدوام الجزئي.
وتدني رواتب النساء في القطاع الخاص، بغض النظر عن الأسباب، يزيد الأعباء المالية عليهن، لا سيما وأن العديد من الخدمات الخاصة بالنساء عادة ما تكون أسعارها أعلى من تلك المقدمة للرجال؛ مثل النوادي الرياضية والخدمات الصحية والتجميلية.
الادخار في مواجهة التضخم
في الجهة المقابلة، يواجه ثبات رواتب الموظفين تضخمًا في أسعار العديد من السلع، مما يفسر صعوبة الادخار في ظل هذه الظروف. فقد شمل التضخم المواد الأساسية، ووفقًا للرسم البياني أدناه، ارتفعت تكلفة التنقل والأغذية والمشروبات. كما شمل التضخم قطاع الخدمات مثل الصحة والتعليم.
وبطبيعة الحال، شمل التضخم أيضًا السلع الاستهلاكية، إذ ارتفعت أسعار الفنادق والمطاعم. وقد يعزى الارتفاع إلى تزايد الطلب بعد التغييرات التي شهدتها السعودية على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، والتي ساهمت في جذب السعوديين للتمتع بفرص السياحة والترفيه. كما ساهم افتتاح المزيد من المطاعم والفنادق الجديدة الفاخرة، خصوصًا في المرافق السياحية الجديدة، في رفع نسبة الإنفاق.
تجاوز الإنفاق المرتب الشهري
تضخم الأسعار في ظل ثبات معدل الرواتب، خصوصًا في القطاع الخاص، وضع عبئًا أكبر على بعض الأسر التي تنفق اليوم أكثر من مدخولها الشهري. Click To Tweet
ففي السابق، انعكس هذا الوضع فقط على بعض مناطق السعودية. إذ في عام 2013 تجاوز معدل الإنفاق الراتب الشهري فقط في المدينة المنورة والرياض والقصيم وتبوك.
أمَّا في الرسم التوضيحي أدناه، فيتبين أن معدل الإنفاق في عام 2018 قد تجاوز معدل دخل الأسر في معظم مناطق السعودية. فوفقًا لنتائج مسح أجرته هيئة الإحصاء عام 2018 ينفق السعوديون أكثر من مدخولهم بما يقارب 1302 ريال.
وقد يعتقد البعض، بسبب ثقافة النفط التي أثرت على الاستهلاك لدى السعوديين والخليجيين إجمالًا، أن النمط الاستهلاكي اليوم لا يزال يعكس هذه الثقافة. لكن تشير الإحصاءات الأخيرة إلى ارتفاع الإنفاق على الأساسيات مثل المواصلات والسكن والمياه والكهرباء، والتي ارتفعت أسعارها مؤخرًا. حيث بلغ إنفاق الأسر في عام 2018 على هذه الأساسيات حدًّا أعلى بكثير من إنفاقهم عليها في السنوات السابقة.
الإقبال على الاقتراض الاستهلاكي
دفع ارتفاع الأسعار وزيادة الالتزامات الاقتصادية بالكثيرين إلى اقتراض الأموال. فقد شهدت السعودية إقبالًا على بعض أنواع الاقتراض الاستهلاكي خلال السنوات الأخيرة. لكن نسبة الاقتراض بشكل عام لا تختلف كثيرًا عن السنوات السابقة.
فالإقبال أصبح أكبر على القروض قصيرة الأجل، حيث ازدادت بشكل ملحوظ بعد عام 2014. وعلى ما يبدو فالحاجة لهذا النوع من الاقتراض تتفاوت ما بين اليوم والأمس. فمثلاً بلغت نسبة الاقتراض بغية بناء بيت أو ترميمه أو شراء سيارة ما بين 15% إلى 20% من مجمل الاقتراض الاستهلاكي في الأعوام 2002-2006.
لكن في السنوات الأخيرة انخفضت النسبة لتتراوح بين 12-15%. وقد يُعزى الانخفاض إلى توفر طرق جديدة مؤخرًا تُعنى، على وجه الخصوص بتطوير سوق التمويل السكني.
هل ثمة حيّز للادخار؟
المرحلة التحولية التي تخوضها المملكة العربية السعودية، والحاجة لتنويع مصادر الدخل في ظل التضخم والضريبة المرتفعة، لا تسهل فرص الادخار على الكثير من السعوديين. كما أن توفر وسائل الترفيه داخل السعودية، وافتتاح العديد من المطاعم والمقاهي الجديدة التي تستهدف السعوديين في المقام الأول، زاد من مغريات الإنفاق وسهولته.
ويمثل الإنفاق رافدًا مهمًّا لدعم الاقتصاد والاتجاه نحو تعزيز القطاع الخاص. إلا أنَّ استمرار فرض ضريبة القيمة المضافة بمعدل 15% من سنة إلى خمس سنوات إضافية، كما صرح الأمير محمد بن سلمان، مقرونٌ بتحسن الوضع الاقتصادي للبلاد.
هل تتبنى السعودية سياسة تقشفية عبر ضريبة القيمة المضافة؟
قد يجد المواطن اليوم نفسه بموقف صعب بين واجب الوفاء بالتزاماته المادية اليومية والرغبة في التقليل من الإنفاق، لا سيما في ظل افتتاح العديد من المشاريع والمطاعم الجديدة. وبما أن البلاد تمر في مرحلة انتقالية تفرض واقعًا ماديًّا جديدًا، فالترشيد في الاقتراض، خصوصًا في الحاجات غير الأساسية، هي الخطوة الأولى نحو تقارب المصروفات مع معدل الدخل الشهري، وإيجاد هامش للادخار.