«NFT» بداية مستقبل الأصول الرقميّة

دفع بيع صكوك لوحات بييل في دار كرستيز بالفن الرقمي إلى الواجهة كفن نخبوي باهظ للأثرياء. لكنها البداية وحسب نحو مستقبل التملُّك الرقمي.

في التاسع عشر من مارس الماضي، نشر الممثل الكوميدي الشهير جون كليز مقطعًا قصيرًا على تويتر، يقول فيه:

«أهلاً، لن أخبركم باسمي، فكل ما تحتاجون لمعرفته عني أني فنانٌ شاب مغمور، أنتج فنًا رقميًّا.» وأضاف، «كلانا ندرك أهمية العقود الرقمية، بينما أهلنا يسخرون من الفن الرقمي قائلين: كيف لك أن تعلقها على الجدار؟ هل هذه نهاية العالم؟!»

«بل أبعد ما يكون عن النهاية، هذه لحظة حضارية، جسرٌ يربط الماضي بالمستقبل، والجسر يرمز للثقة. وإن كنت تؤمن بكلامي، فعندي جسر أريد بيعك إياه. فحين تصدق شخصًا فأنت تثق به وستشتري منه جسرًا. واليوم أريد أن أبيعك عقد لوحة جسر بروكلين.»

ثم وقّع كليز اللوحة على حاسوبه اللوحي وختم الفيديو قائلًا: «بدأ المزاد».

أُغلق المزاد بمبلغ 37 ألف دولار ثمنًا للوحة. في حين تمنى كليز أن تباع لوحته بمبلغ 69,346,250.50 دولار، المبلغ الذي حدده كي تكون لوحته أغلى بنصف دولار من أعمال الفنان «بيبل» (Beeble) الذي باع صكوك لوحاته الرقمية عن طريق دار المزادات الشهير كرستيز بمبلغ 69.3 مليون دولار، في صفقة تعدّ الأعلى تاريخيًا في عالم الفن الرقمي.

لوحة «بيبل» / Christie’s

بالنظر إلى تاريخ كليز في الكوميديا، أجزم أنَّ نيته كانت السخرية من ظاهرة الفن الرقمي المقترن بالصكوك الرقمية التي سببت ضجة، وحولت فنانين مجهولين إلى مشاهير بين يوم وليلة.

لماذا نشتري الفن الرقمي؟ 

قد تستغرب قليلًا حين أقول لك أن ما بيع لم يكن «اللوحات» ذاتها، بل صك إثبات الملكية أو «الرمز المميز» (NFT). أما اللوحات الرقمية، فمن الممكن إعادة نشرها ونسخها ملايين المرات دون مشاكل. 

لكن لِم يشتري الناس هذه الأصول الرقمية إن كان بالإمكان نسخها إلى ما لا نهاية؟ ربما يعود السبب، في المقام الأول، لطبيعتنا البشرية.

هل سألت نفسك لماذا نحب امتلاك أعمال فنية مميزة، ولِم يشتري الأغنياء اللوحات بمبالغ خيالية؟ يُرجع المهندس والمستثمر مصعب الحكمي الأمر لعدة أسباب منها المكانة الاجتماعية وحفظ رأس المال وحتى غسيل الأموال. ولو تركنا السبب الأخير جانبًا، فيكفينا السببان الآخران لنفهم ولو قليلًا إجابة هذا السؤال.

ما يحدث في عالم الفن الرقمي مؤخرًا من صفقات لشراء اللوحات الرقمية ما هو إلا انعكاسٌ لما يحدث في العالم الحقيقي من مزادات على اللوحات. ففي الماضي كان شراء الفن واللوحات محصورًا على فئة معينة من الأغنياء، تتكلف حضور مزادات معروفة مثل كرستيز.

لكن التفجر التقني، مدعومًا بتقنيات السلاسل وتصاعد أسعار العملات الرقمية، مكَّن الكثيرين من دخول عوالم المزادات وشراء الأعمال الفنية. وصار لمخزون العملات الرقمية الذي كونوه وجمعوه طوال السنوات الماضية منفعة، بعد أن كان من غير الممكن شراء شيء ذي قيمة بواسطتها من قبل.

هناك أيضًا من يرى أن هذا الحراك يسعى لإضفاء نوع من الشرعية على العملات الرقمية الجديدة التي استثمر فيها عددٌ من أثرياء التقنية والشركات مبالغ تصل مليارات الدولارات. وهو أمرٌ مفهوم، ففي النهاية المال فكرة تستمد قوتها من إيمان الناس بها، وكلما زاد إيمان الناس بالعملات الرقمية، تسارع تبنّي بقية المجتمعات والدول لها. فينعكس إيجابًا على من استثمروا مبكرًا في هذا المجال.

ولنبتعد قليلًا عن تفسير الجوانب النفسية والنظريات المشوبة بالمؤامرة، ونتحدث مرة أخرى عن تقنية «الرموز المميزة» (NFT) التي تقف وراء هذه الضجة.

قيمة الرموز غير القابلة للاستبدال

مصطلح (NFT) تسمية مختصرة لعبارة (non fungible tokens)، والتي تترجم حرفيًا إلى «رموز غير قابلة للاستبدال». ولأجل اختصار الكلام سنطلق عليها «رموزًا مميزة».

ويعني التوصيف «غير قابلة للاستبدال» -مربط الفرس هنا- أن لا مثيل للرمز الذي اشتريته في العالم الرقمي. وحتى أوضح لك أكثر، فالريال الذي أملكه مساوٍ لقيمة الريال الذي تملكه، يعني هذا أنهما قابلان للاستبدال كونهما يمثلان نفس القيمة، واستبدال ريال بريال لا يغير من قيمته.

أما في حالة الرمز المميز، فأنت غير قادر على نسخه، وبذا فقيمته تكمن في «تميزه». أي أن أي رمز يمكن أن يرتبط -نظريًّا- بأصل ذي قيمة مثل اللوحات الرقمية.

بعد تملكك للرمز، يمكنك إعادة بيعه أو الاحتفاظ به، فأنت من يحدد قيمته مثلما يحدد صاحب لوحة شهيرة سعر البيع الذي يرغب فيه. وانطلاقًا من هذه الفكرة، نستطيع ربط هذه الرموز بالأعمال الرقمية سواءً كانت صورًا أو كتبًا أو موسيقا. Click To Tweet

نستطيع إذن أن ننظر لفكرة الرموز هذه كأحد الحلول الحديثة لمشكلة ملكية المحتوى الرقمي الذي يسهل على الناس نسخه ونقله دون إثبات ملكيته. إذ تستطيع نسخ هذه المقالة ونشرها على موقعك دون أي عواقب فعلية (لا تنس إرفاقها بإسمي). لكن بيدي أن أستخرج «رمزًا مميزًا» لهذه المقالة يثبت ملكيتي لها.

وكأي تقنية جديدة، كثيرًا ما تطفح مشاكل لم تكن في الحسبان، ويحتاج حلها بعضًا من الوقت.

معضلة إثبات ملكية الفن الرقمي

حين أشتري الرمز الرقمي لعمل معين، فأنا كمن يشتري ورقة كتب عليها «ثمود يمتلك هذه اللوحة». فالأصل الرقميّ المرتبط بهذا الرمز سواء كان صورة أو مستندًا ليس جزءًا من الرمز ذاته.

لنفترض أنك اشتريت صورة من موقع (Foundation) المتخصص في بيع الصور الرقمية. بعد إتمام عملية البيع، تُسجّل ملكيتك للصورة عبر ربط الرمز المميز لها بحسابك في سجل سلسلة كتل «إيثيريوم» (Etherium) والمستخدم من الموقع. أما سجل «إيثيريوم»، فهو سجل عام غير قابل للتعديل، يستطيع أي شخص الاطلاع عليه والتأكد من البيانات المنشورة عليه، كما في حالة لوحة كليس المذكورة أعلاه.

وتلك الصورة التي اشتريتها، فيمكنك تحميلها من الموقع وحفظها على جهازك، وإرسال نسخ منها لمن تريد. وتبقى حسب السجل العام ملكك أنت فحسب.

لكن يظل بإمكان أيّ شخص نسخ الصورة واستخدامها. وفقط لأنها ملكك، لا تظن بأنك قادرٌ على اتخاذ إجراءات قانونية بهذا الصدد. فحداثة هذه التقنية تجعلها أبعد ما يكون عن التشريعات القانونية لأي دولة حتى الآن.

صحيحٌ أن ثمة حلولًا تقنية متوفرة، لكنها غيرُ متبناة بالكامل، وما زالت حبيسة التجارب. إحدى الحلول التي يروج لها البعض بروتوكول (IPFS) الذي يسعى لحل كثير من مشاكل الانترنت الحالية، من ضمنها تكرار نسخ الملفات. لكن تلك الحلول تعمل منفصلة عن «سلاسل الكتل» (Blockchain) المستخدمة لإصدار الرموز.

ولنزيد الطين بلة، فالرموز المميزة لا تحكمها تقنية واحدة أو سلطة مركزية واحدة. فأعمال بيبل الرقمية بيعت مؤخرًا عبر تقنية «إيثيريوم» (Etherium)، إحدى تقنيات سلاسل الكتل الشهيرة. وانتشرت سلاسل الكتل بعد تفجر شعبية «العملات التشفيرية» (Crypto-Currency) مثل بتكوين، ولها استخدامات مختلفة نظرًا لقدرتها الممتازة على حفظ السجلات من التلاعب والتغييرات.

ولذلك، تعتمد العديد من الشركات في بناء حلولها على تقنية سلاسل الكتل، وضمن هذه الحلول إصدار رموز مميزة.

منصة تربط بين سلاسل الكتل 

أقرب مثال حديث يخطر ببالي إطلاق رابطة كرة السلة الأميركية موقع (NBA Top Shots) الذي يستخدم سلسلة كتل من تطوير شركة «فلو» (Flow) لبيع لقطات ومشاهد من الدوري تصل قيمة بعضها إلى مئات الآلاف من الدولارات. مما شجع دوري كرة القاعدة (MLB) على القيام بخطوة مشابهة.

مع تزايد عدد الشركات، سيعني تزايد سلاسل الكتل المختلفة وتنوع الاستخدام خلق عوالم متوازية. أي أنك لو اشتريت الرمز المميز على شبكة «إيثيريوم» على سبيل المثال، فلا سبيل لنشر هذه الملكية على سلاسل الكتل الأخرى. ومن شأن ذلك تصعيب موضوع إثبات الملكية في العالم الرقمي. لهذا السبب، يلجأ كثيرون لاستخدام السلاسل الأكثر شعبية. 

ناقشت هذه المشكلة مع مصعب الحكمي الذي وضح لي أنها ليست بالأمر العويص. فمع التبني المستمر لسلاسل الكتل المختلفة والحلول المتباينة، ليست سوى مسألة وقت قبل ظهور منصات تربط تقنيًّا بين هذه السلاسل المختلفة وجمعها في مكان واحد.

كما سيساعد ظهور هذه المنصات على تقليل الفوضى التي تحدثت عنها. حيث سيكون بإمكانك إنشاء حساب وربطه برموزك المميزة على «إيثيريوم» و(NBA Shots) على سبيل المثال. وهكذا تجد مرجعًا لكل ممتلكاتك في مكان واحد.

نحو مستقبل المحتوى الرقمي الحصريّ 

صحيحٌ أن تقنيات سلاسل الكتل والرموز المميزة لا تزال في بداياتها، إلا أنها قد تعطينا نظرة على مستقبل المحتوى الرقمي الآخذ في التغير. ففي الفترة الأخيرة، أصبح جل استهلاكنا للمعلومات والتسلية على نحوٍ رقميّ، لكن هذه السهولة جلبت معها ضريبة القرصنة التي تحاول الشركات محاربتها منذ ظهور الإنترنت. كما أنها فرصة لتحقيق المزيد من الدخل.

أول ما يخطر ببالي: كيف ستستفيد شركات الألعاب من هذه التقنية؟ وأرى أمامي الكثير من الفرص والأفكار. دعنا نبدأ بلعبة فورتنايت التي سمع عنها القاصي والداني. فهذه اللعبة تتوفر بشكل مجاني، لكن الشركة تحقق أرباحًا عن طريق بيع أشكال الشخصيات وملابسها. فيصير بإمكانها مستقبلًا تصميم ملابس وأشكال حصرية مرتبطة برموز مميزة ومحدودة تباع بأغلى الأثمان.

وأكاد أتخيل مشاهير لاعبي ألعاب الفيديو مثل ننجا (Ninja)، يشتري شكلًا حصريًّا يميزه في اللعبة. وهكذا تغدو ملكية هذا الشكل كاملةً من حق ننجا أو من يشتريها.

التصاميم الحصرية هي بداية الغيث. فالعديد من الشركات تصدر نسخًا محدودة من الألعاب الحالية وتأتي مغلفة بصناديق أكبر وتحتوي على كتب رسوم وتماثيل لشخصيات اللعبة. وقد نرى تحول جزء من هذه الفكرة إلى عوالم الألعاب الرقمية المدعمة بالرموز المميزة، بحيث يحصل اللاعب على الإضافات الرقمية مع إثبات بأنه أحد ملاك النسخ المحدودة.

لو خرجنا من عالم الألعاب، فتطبيق الأفكار حول الاستفادة من الرموز غير القابلة للاستبدال لا نهائي. ففي عالم الأدب مثلًا، يتسنى للمؤلفين تسخيرها من أجل بيع نسخ خاصة أو موقعة من كتبهم.

«الرموز المميزة» لا تصلح لكل شيء

راح بي خيالي بعيدًا عن عالم الألعاب والترفيه، وتخيلت أن تصبح الرموز المميزة جزءًا من توجه الحكومات نحو رقمنة كل المعاملات والبيانات. فيصير من الممكن إصدار رموز مميزة لصكوك ملكية المنازل والأراضي وأي أصول أخرى، بحيث تكون الرموز خاصة بسلاسل كتل حكومية. 

إلا أنَّ الحكمي أوضح لي أن هذه الفكرة ليست ممكنة. فطريقة بناء الرموز المميزة البرمجية لا تتيح «تشارك الملكية»، وهو ما يتعارض مثلًا مع العقارات والأراضي التي تعود ملكيتها لأكثر من شخص. وقد نوقشت المشكلة من قبل المطورين ووضعت مقترحات لحلها، لكنها لم تطبق بعد.

كما أشار بأن الرموز المميزة لا تصلح لكل شيء، وأنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه التقنية ستساعد على حل جميع مشاكل الإنترنت من إثبات الملكية وحتى حفظ الحقوق. فالواقع أثبت أنه لا حلًّا واحدًا لجميع المشاكل.

ولذلك يرى الحكمي أن الرموز المميزة حلت مشاكل متعلقة بالمواد الرقمية مثل الصور والكتب، وقد نرى مستقبلًا بعض الاستخدامات الأخرى. ومع ذلك، ينبغي أن نحكم توقعاتنا وألا نتوقع من هذه التقنية معالجة أغلب مشاكل الانترنت أو العالم الحقيقي.

وإن كنت أتفق مع بعض ما طرحه الحكمي، إلا أني أجد نفسي متفائلًا بهذه التقنية ودورها في تنظيم الكثير من مناحي حياتنا الرقمية والحقيقية. 

إذ برأيي تكمن مشكلتنا الدائمة في محدودية توقعاتنا بما سيحدث في المستقبل. فقبل سنة من الآن لم يكن أحد ليتخيل أن تباع الأعمال الرقمية بملايين الدولارات، وأن سعر البتكوين سيتضاعف أكثر من ثمانية مرات منذ أبريل 2020. لذلك أرى أننا شهودٌ على بداية تحول قد يستغرق أعوامًا أو عقودًا نحو المستقبل الرقميّ.

اقتصاد المستقبلالأصول الرقميةالعملات الرقميةالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية