حتى نكون صادقين، الكسل خرافة
نقيض الكسل ليس الجهد الكبير، إنما الانتظام والاستدامة في تأدية العمل. «فمعظمنا يقضي أيامه في الشعور بالتعب والإرهاق وخيبة الأمل،
نقيض الكسل ليس الجهد الكبير، إنما الانتظام والاستدامة في تأدية العمل. «فمعظمنا يقضي أيامه في الشعور بالتعب والإرهاق وخيبة الأمل، ونوبّخ أنفسنا بأننا لم ننجح. وبصرف النظر عن مقدار ما أنجزناه أو مدى صعوبة عملنا، فكل ذلك لا يكفي للشعور بالرضا أو السلام.»
و نظل نعيش في هذه الدوامة حتى «نستبعد فكرة الراحة، وتحت تأثير الإرهاق والأمراض الناشئة جرّاء التوتر وأسابيع الحرمان من النوم، نظل مقتنعين بأن ثمة شيء يجعل منّا “كُسالى”، وأن الكسل دائمًا أمر سيئ. هذه النظرة للعالم تدمر حياتنا.»
هذا ما تقوله ديفون برايس في كتابها «الكسل محض وهم» (Laziness Doesn’t Exist)، إذ ترى أنَّ ما نفعله في حياتنا من انشغال زائد عن الحد وغير مبرر، يزرع فينا إحساسًا عاليًا من تأنيب الضمير، ويقودنا إلى نتائج سلبية كالمرض والتوتر وفقدنا تقدير الذات والانكباب على جلدها.
لماذا الكسل ليس سوى كذبة؟
إن راجع معظمنا ما يقوم به بشكلٍ يومي سيجد أن يومه لا يتضمن في حالات كثيرة مساحات واسعة من الكسل. بل إن مسألة التكاسل زُرعَت داخلنا مع تشجيع منقطع النظير على تحلينا بقيم المثابرة والاجتهاد وصرفنا أضعافًا مضاعفة من الجهود التي يقوم بها أقراننا حتى نحصل على نتائج استثنائية.
لكن في الواقع إن حدث وقصَّرنا نسبيًّا في العمل، فيمكن لنا دومًا تعويض التقصير في وقت لاحق وفي أمور والتزامات أخرى.
إنَّ كذبة الكسل نظامٌ إيماني عميق الجذور يقود الكثير منا إلى الاعتقاد بعدم القيمة إلا باكتسابها من خلال مقياس الإنتاجية وحدها، فيصبح العمل مركز الحياة وكل من لا يُنجز لا قيمة له. فيدخل المرء المعترك الأخلاقي بأن بحثه عن الراحة أمر غير مقبول لنفسه ولمن حوله. فالكسل يعني نقص الإنتاج، ونقص الإنتاج يعني نقصًا في القيمة.
تشير ديفون برايس إلى أن:
الأبحاث حول الإنتاجية والإنهاك والصحة العقلية تدلُّ على أن متوسط يوم العمل في الحقيقة طويل جدًا، وأن الالتزامات الأخرى التي نعتقد غالبًا أنها طبيعية، مثل عبء الدورة الكاملة في الكلية أو الالتزام بالنشاط الأسبوعي، في الواقع ليست مستدامة لأغلب الناس. وما ندعوه كسلًا غالبًا ما يكون في الواقع غريزة قوية للحفاظ على الذات. عندما نشعر بعدم التحفيز أو «الكسل»، فذلك لأن أجسادنا وعقولنا تصرخ من أجل بعض السلام والهدوء. عندما نتعلم الاستماع إلى تلك المشاعر حينها يمكننا البدء في التشافي.
إيجاد التوازن بين الإجهاد والتكاسل
أتفهّم شخصيًا هذه الحجة، وأتعاطف معها بشكلٍ كبير، إلا أنني أجد نفسي أمام حيرة كبيرة. فأنا إن كُنت أُصنّف نفسي ضمن فئة الناس الكسولين نسبيًا، إلا أن فترات من الكسل في حياتي صاحبها مقدار لا بأس به من الإنتاج الكتابي والعملي.
لكن في وقتٍ آخر بمجرد ما تركت نفسي للكسل عشت سُباتًا كبيرًا عمليًا وإنتاجيًّا. في مقابل سنوات طويلة في ريادة الأعمال عملت في بعض أيامها في المكتب حتى منتصف الليل لأصل نهاية المطاف دون نتائج مبهرة.
فالكسل أو العمل المرهق لا يضمنان بأي حال من الأحوال نتائجًا إيجابية في نهاية المطاف. إلَّا أنَّي أرى العيب القاتل في الكسل شدة التصاقه بالإدمان ما إن ننزلق إليه، حدًّا يفقد فيه الفرد مع الوقت تطلعه للمستقبل وتحقيق أهدافه أو تحمل أي أنواع متقدمة من المسؤولية.
واقعيًّا فإيجاد نقطة التوازن بين «العمل الزائد عن الحد» وبين «التكاسل» ليس سهلًا، وأقصد بعدم سهولته جانب التعامل مع مشاعرنا التي توبخنا عند أي تقصير أو تعطينا نوعًا من التكريم عند أي إنجاز حتى إن كان في حقيقته ليس سوى وهم إنجاز!
ولذلك دومًا وما زلت أراهن على تطبيق فكرة الانتظام في العمل قدر المستطاع من باب «القليل الدائم خير من الكثير المنقطع» وليس حبًا وتقديرًا لكلمة النظام بمعناها المجرد.
المفهوم الحقيقي للكسل والجهد الكبير
لنأخذ عالم الكتابة والرياضة مثلًا. فمن شبه المستحيل على الإنسان أن يشهد نتائج مبهرة فيهما إن كلّف نفسه جهدًا كبيرًا في أيام قليلة. فطبيعة الإنجاز فيهما تتطلب صبرًا وتكريس ساعات قليلة يومية على فترات طويلة ومنتظمة. لا شيء أكثر من ذلك، ولا طريق مختصر آخر.
وإن فكّرت بشكلٍ جدي، ستكتشف أن عملك أيًا يكن مجاله فغالبًا لا يخرج عن هذا الحال. فكل المشاريع سُميت مشاريع لسبب: إنجازاتٌ صغيرة منتظمة طويلة الأمد، وتحتاج إلى خطوات بطيئة مستدامة.
وربما هذا ما يستحق أن نطلق عليه لقب «الجهد الكبير». جهدٌ لا يستدعي حرق الذات من أجل النجاح فيه، ولا يمكن بطبيعة الحال إنجازه بالتكاسل. فالإنسان، كما يقول بيل قيتس، «يستهين بما يمكن إنجازه خلال عشر سنوات، ويبالغ في تقدير ما يمكن أن ينجزه خلال سنة.»
أما الكسل، كما تراه ديفون برايس، ليس شرًّا في ذاته.
فالكسل الذي تعلمنا أن نخشاه جميعًا غير موجود. لا توجد قوة فاسدة أخلاقيًا بداخلنا تدفعنا إلى أن نكون غير منتجين بدون سبب. ليس من الشر أن تكون لديك قيود وأن تحتاج إلى فترات راحة. الشعور بالتعب أو عدم التحفيز لا يمثل تهديدًا لقيمة أنفسنا. في الواقع، إن المشاعر التي نُغلّفها على أنها كسل بعضٌ من أهم الغرائز البشرية، وجزء رئيس من بقائنا على قيد الحياة وازدهارنا على المدى الطويل.
وتعلّق ديفون برايس أيضًا، «عندما تنفد الطاقة أو المحفّز لدى البعض، فثمة سبب وجيه لذلك. فالأشخاص المتعبون والمنهكون لا يعانون من إحساسٍ داخليّ بالكسل المخزي، بل يكافحون من أجل البقاء في ظل ثقافة متطلبة للغاية وتحت رحمة مدمن عمل آخر يوبخ الناس على احتياجاتهم الأساسية [المتمثلة في الإحساس بالراحة].»
عصا خرافة الكسل وجزرة زيادة الإنتاجية
من سوء الحظ، فإن تأرجحنا بين التكاسل ومحاولات الإنجاز لا ينتهي، فهما قطبا الحياة العملية. ففي الوقت الذي تتراكم فيه المهام، تتسنى فرصٌ على الدوام يستطيع الإنسان أن يصرف فيها عمره متجنبًا مسؤولياته. Click To Tweet
فمثلًا ثمة الكثير من المهام المطلوبة (الآن وفورًا) من مديري، وفي المقابل ثمة أيضًا عشرة مسلسلات على قائمة الانتظار.
إلا أن عشرات المقالات والأطروحات وآليات استثمار الصباح الباكر كي ننجز أكبر قدر من الأهداف والمهام تملأ الإنترنت وتزداد في تكاثرها، بينما العالم يجادل اللحظة فكرة أنَّ ما يُقارب نصف الوظائف التي يشغلها الإنسان اليوم سيؤديها رجال آليون في مستوى من التطور لم يسبق للبشرية تخيّله.
بل إن المعادلة الأغرب تتمثّل في أن فكرة الإنتاجية (كمفهوم) توسعت وزُرعت في الاقتصاد الحديث تزامنًا مع سهولة الحياة.
لنعترف إذن بأن الكسل خرافة
نعلم اليوم أنَّ محاولتنا المستميتة والصادقة للتقدم في حياتنا من خلال ما ننجزه أو ننتجه في عملنا يمثل هدفًا سامٍ. لكننا، في الوقت ذاته، لا نجد في فكرة التركيز لفترات محدودة في أمور محددة مهمة بالنسبة إلينا فكرة مثيرة. فنحن أدمنّا البحث عن إحساس الإنجاز والإنتاجية كل يوم، دون أن نزيح عن طريقنا ما يستنزف وقتنا ويضيعه.
ساعات عمل أقل بمجهود معتدل على فترات طويلة لربما يكون الحل السحري. فالالتزام الذي يُحركنا ببطء ومواظبة يصل بنا في النهاية إلى الهدف المنشود مهما كان بعيدًا. أما الجري سرعان ما ينهكنا فنتوقف منقطعي الأنفاس ونتذكر خائبين كم هو طويلٌ الطريق أمامنا.