أرض الشجرة الوحيدة: يوميات مدرس في الأرياف
أطلَّ اسمي من لائحة التعيينات ووجدتني معلمًا في أرض «بوتيجوت» الصحراوية النائية عن خرائط قوقل، حيث للأمل أن ينمو وحيدًا رغم صقيع الجفاف.
في حيرة البدء، إما تنعدم الصور الذهنية، أو ترِد في ذات اللحظة، كقطيع خرفان يهب على باب الحظيرة أثناء خروجه للرعي، القطيع الذي يتراجع متيحًا الطريق للشاة القائدة. أنت تبحث لأفكارك إذن عن قائدة، أنت تبحث عن البداية.
تتخذ البداية هنا -في هذا الحكي الشخصي- خطين متوازيين، الخط الأول طفل في المدرسة، والثاني مدرس في المدرسة. يتشكل الخطان في بيئة، وإن اختلفت ظروفها الطبيعية تبقى واحدة، بيئة البادية.
يلقي هذا التوازي بظله على ما سأكتب. تتداخل الحكايات وتصير هجينة، وتتخلى الأحداث عن رغبتها في الحفاظ على الترتيب التاريخي. فأنا حين كتبت أول أسطري، حذفتها لأنها بدت ضعيفة أمام تلك اللحظة التي دق فيها بابي طفل بعد نهاية الحصة، وسلّمني ورقة مطوية عدة مرات كأنما تخفي سرًا عميقًا، سلمني إياها وقال: «أحرقها، ثم غادر».
فتحت الورقة، وكنت أعرف من أرسلها، تلميذة بالسنة الماضية، أرغمت على ترك الدراسة، وحُشر بها في مطب الزواج. ما تزال طفلة، ما تزال أهلًا للقفز في ساحة المدرسة واللعب دون اكتراث منها، إلا أنها صارت مصدر اشتهاء للآدميين المتربصين هنا بكل فتاة نضجت أم لم تنضج بعد.
أرى وجهي في وجه كل متعلم، ربما أقص قصتي من خلال قصصهم، بل ربما لا تصير قصتي إلا قطعة صغيرة من رصيف قصصهم. صرت أعيد تقييم مخاوفي وهواجسي وأحلامي، بل تقييم كل شيء على ضوء مخاوف وهواجس وأحلام تلاميذي.
رحلة الذهاب/الخوف
عندما أطل اسمي من لائحة التعيينات بعد إنهاء التدريب المهني، كنت أركب حافلة صغيرة في طريقي إلى بيت العائلة، حيث ولدتُ ودرست، فكانت تلك محطة ميلاد الخطين المتوازيين لعلاقتي بالمدرسة، فإلى جانب اسمي يوجد اسم منطقة عملي.
الاسم غريب! أرض تنتمي إلى إقليم من بلدي لم يسبق أن وطأت قدماي أرضه. بحثت عن منطقة التعيين في خرائط قوقل، وبدا أن أعين الطوبوغرافيين هي الأخرى لم تقع على المكان.
لا شيء غير البياض على الخريطة، لا نبات أخضر ولا إشارات إلى بيوت السكان بالمنطقة، لا طرق معبدة، لا شيء! سوى مساحة واسعة من البياض فقط.
تلتقط العين المجردة مئات الكيلومترات من طريق تقطع بقعة تمتد بامتداد النظر، كلما قطعت شوطًا منها تمددت وبدت بلا نهاية.
الخلاء هذا الذي نستكشفه، خلاء لا يؤنس وحشته سوى الحشرات وريح الشرقي وهدير محرك الحافلة الصغيرة، وهي تخترق طرقات غير معبدة ومتداخلة. لا يمكن لغير ابن البلد هنا أن يستمر، لا يمكننا نحن الغرباء حتى أن نعود أدراجنا دون توجيهات مرشد.
تتضاعف الهواجس كلما اخترقنا سلسلة الجبال شبه الصحراوية، تتضاعف فتجعل من التجربة الجديدة مغامرة جميلة بقدر ما هي مخيفة؛ مغامرة طورت صورة استباقية عنها عبر قصص السابقين إلى هذه البقعة الأرضية ومثيلاتها. هناك حيث تستعد مسبقًا لقضاء أيام طويلة دون تسوق، وحيث احتمالات توفّرك على مصدر للمياه قرب المنزل ضئيلة، وحيث هو مؤكد انعدام الكهرباء.
الرحلة: رجال في الحافلة
انطلقنا من بلدة «تالسينت»، بلغتها بالأمس قادمًا من مدينة وجدة. انطلقنا في سيارتين من الحجم الكبير، واحدة لأمتعتنا وواحدة لنا، بدأ مشوار المئة كيلومتر في عمق الأرض دون طريق معبَّد.
يخنقنا الغبار فتحضر ذهني رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، أطلب من السائق التوقف كلما تمتلأ السيارة غبارًا، فنخرج للفضاء الشاسع ونستريح. نفقد بذلك فرصة بلوغ قرية «القصيرة» باكرًا، حيث سنوقع محاضر التحاقنا بالعمل، وتتوزع علينا مهام التدريس بالقرى المجاورة.
توقفنا أكثر من مرة لالتقاط صور للمكان، حاولنا الاتصال بعائلاتنا لطمأنتهم، لكن انقطاع الشبكة حال دون ذلك.
ما الذي ينتظرنا هناك؟ إلى أي مكان سيكون منفاي؟ كيف سيتحقق استمراري هناك؟ وأي السبل ستنقذني من الهلاك بعضة عقرب أو أفعى؟ في المحفظة توجد علبة الأدوية، لكنها لا تتضمن مصلًا ضد السم، كما لا تتضمن مصلًا ضد الهواجس والمخاوف، ولا تتضمن مسكنًا للصور المخيفة التي تشكلت على أنقاض حكايات بعض الأصدقاء من كبار السن.
أتذكر أحدهم وهو يقص لي كيف قضى خمسة عشر يومًا محاصرًا بأمطار عاصفية، دون أن يتوفر بيته على قطعة خبز، يستيقظ صباحًا وقد لف بطنه بقطعة قماش لمنع نفسه من الصراخ جوعًا.
يخرج إلى تلاميذه، ويطلبُ منهم إخراج وجبة غذائهم، التي تتكون من خبز «حافٍ»، يمر عليهم صفًا صفًا قاضمًا قضمة من رغيف كل تلميذ، يسكت بها بطنه وينتظر انفراجة طول اليوم، دون أن تحل تلك الانفراجة. خمسة عشر يومًا هكذا قضاها. تذكرته وحاولت دفع مخاوفي. ذاك الزمن انقضى، وصارت الحياة أسهل بكثير، ولم يعد هناك من يموت جوعًا في هذا الزمن.
التوقف في القصيرة
وصلنا «القصيرة» متأخرين، بتنا ليلتنا هناك في مأوى التلاميذ قبل التحاقهم به. في الصباح وقعنا المحاضر، استلمنا مهماتنا، وفي الخارج وقفنا في صفين متقابلين، المدرسون من جهة، وممثلو القرى من الجهة الأخرى، ينادي كل واحد منهم عاليًا باسم قريته فيتوجه إليه المدرس أو المدرسون المعيَّنون للعمل هناك.
من حسن حظنا أننا عُيّنا ثلاثتنا في المدرسة نفسها، ومن سوء حظ رفاق كثيرين ذهابهم وحدهم إلى منفاهم.
كانوا يسيرون خارج المدرسة/المركز وملامح حسرة ويأس تعلو جباههم، لو أتيحت لهم الفرصة لبكوا. لو أتيح لبعض الأصدقاء ممن افترقوا أن يعانقوا بعضهم ويبكوا، لفعلوا ذلك. لكن الأرض القاحلة من حولنا تمدنا بما تتصف به، صلابة تربتها وتوغل صخورها الكثيرة في عمق الأرض، وقلة أو انعدام مياهها، مثلما على دموعهم أن تجف وتنعدم الآن.
ركبنا نحن الثلاثة سيارة أخرى أحضرها ممثل القرية التي سنتوجه إليها، حملنا إلى السيارة أمتعتنا، وجلسنا داخلها مكومين مثلما هي الأمتعة. يومان هنا كانا كافيين لتتشقَّق شفاهنا وأيادينا وتجف بشرتنا بسبب رياح الشرقي. المناخ جاف هنا، الشمس رغم المدة الطويلة التي تقضيها معنا، غير دافئة، يرافقها نسيم بارد يدفعك للانكماش في معطفك.
كل هذا يحدث في الشهر التاسع من السنة الميلادية، فكيف لنا التكيف مع الشهور التي يعصف فيها البرد وتتساقط فيها الثلوج.
سيتأجج هذا الاغتراب حين نصيد أول عقرب من تحت أفرشتنا، والثاني من سقف البيت، والثالث والرابع. وسنألف وجودها عندما نضيع عددها، وسنكون أكثر راحة مع وصول موجات البرد القارس الأولى لتدفع بالحشرات إلى جحورها، وتكبر بذرة البرد القارس في أضلعنا، ولا حطب في هذه الأرض للتدفئة.
الصباح في أرض الشجرة
تصعد الشمس الباردة هناك بخطى متثاقلة، منزاحة إلى الأعلى كأنما يدفعها سيزيفوس، أو كأنما كانت تنتظر صعودنا إلى مرتفع قريب كي نرفعها بالحبل. عندما أفتح الباب صباحًا، أنتظر لحظات قليلة ثم تظهر البقع السوداء صغيرة منتشرة على المساحة الشاسعة المحيطة بالمدرسة، البقع السوداء أطفال يجرون أقدامهم صوب المدرسة.
أعود إلى البيت، أشعل موقد الغاز لتدفئة الماء المتجمد، أعد شايًا، أرتب فطورًا ثم أنادي زملائي. نتناول إفطارنا، ثم ألبس وزرتي وأخرج، ككل صباح أستقبل البقع السوداء وهي تتحول إلى أطفال قادمين من كل اتجاه.
هكذا تتكرر الصباحات كما لو كنا آلات مضبوطة على زمن محدد وأفعال محددة. صباحات أحمل فيها عدتي وأفتح باب القسم، بينما ينفتح أمامي ستار المسرح لعرض دروسي. ويختلط علي الأمر، غير مدركٍ أي العروض يستحق أن يُرفع عنها الستار، دروسي أم سحناتهم؟ المشهد الذي يألفونه أعمق وأحق بأن يعرض ويبثَّ، لا فوق خشبة القسم فقط، بل على خشبات المجالس والبرلمانات.
نوافذ متكسرة الأطلال
داخل القسم، وبعد بداية العرض، نبدأ معًا في محاربة السهو، تعتمد كل عدتي على الانتصار في هذه الحرب: الحرب ضد السهو.
هذه الفضاءات الشاسعة التي تتيح لك نوافذ القسم المتكسرة الإطلال عليها، منها تنفذ بعينيك خارجًا، فتسرح عيناك في اللانهائي. ولا يستيقظ التلاميذ إلا على تنبيهاتي، ولا أستيقظ إلا على صوت السؤال، وأحيانًا توقظني النسمات الباردة التي تزور القاعة.
هنا تفكر دائمًا في هؤلاء التلاميذ، كيف كنت مثلهم تقطع الأميال وصولًا إلى المدرسة، كيف أنك بضربة حظ وإصرار من والدك وعناد منك، كسرت حاجز الهدر المدرسي. كيف لهؤلاء التلاميذ أن يكسروا عزلتهم التي تمتد بامتداد الأرض القاحلة حولهم؟ عزلة تزكيها اللغة والفقر، عزلة تنمو وتكبر، بينما يصبح العالم بفضل التقنية أصغر.
تكبر الهوة وتقسو على أطفال يرون في المقرر الدراسي قصصًا خيالية، أجزاء كبيرة منه أشبه بما يمثله لنا الخيال العلمي. هم لا يفكرون باللغة التي أفكر بها، ولا باللغات التي ندرسها، فيحتاج كل ما أعرضه عليهم تفكيكًا ووقتًا وتكرارًا وشرحًا كي يستوعبوه.
أما الكلام، فكلما حاولوا بناء جملة ما، تصاب بخلل تركيبي، يعيق مهمة التواصل، ويدفعون بما يودون إيضاحه إلى دائرة الغموض واللامعنى. اللغة هنا عائق كبير، ومقررٌ لا يراعي خصوصياتهم اللغوية والبيئية يضيف إلى عزلتهم جدارًا آخر.
المساء في أرض الشجرة
عند المساء أجتمع مع زملائي حول كأس شاي، نتبادل الكلام. في البداية طال بنا الحديث. الآن صرنا لا نلتقي ولا نتحدث إلا أثناء وجبات الطعام، ألفنا بعضنا وانتهينا من سرد قصصنا الخاصة، استسلمنا بيأس لما تحمله المساءات الموحشة هنا من فراغ.
المساءات الغارقة في الجليد، لم أجد من سلاح لمواجهة الوحدة والعزلة اللتين تلفانني غير الأدب والسينما. صرت أقرأ كثيرًا وأشاهد ما استطعت تنزيله من أفلام على جهازي، ومن حظنا أيضًا وصول أعمدة الكهرباء إلى مدرستنا المعزولة.
الصباحات للتلاميذ والمساءات لنا، لأنفسنا، حيث أول خطوة فيها إضافة ملابس أخرى إلى هيكلنا الجسدي، اتقاء لبرودة المساء.
المساءات لأم كلثوم؛ لموسيقا الراي، ولموسيقا الأطلس الحزينة النصيب الكبير، الأصوات الصادرة عن آلة «الوترة الأطلسية» شبيهة جدًا بالأحزان المرسومة على أوجهنا وأوجه كل ساكني هذه الأرض الميتة.
الفن مرآة حقيقية، الموسيقا الأطلسية أساسًا تجسيد حقيقي للألم، للصراخ، للموت بنوعيه الطبيعي والمعنوي. الموت الذي ينتظر أطفالنا عند الوادي بعد سقوط الأمطار، الموت الذي يقطن بيوت ذيل العقرب السامة، الموت الذي يصحبه فصل الشتاء، ليسحب روح الأطفال بسبب نزلات البرد وبُعد المستشفيات وغياب وسائل ناجعة للتدفئة.
في سنتي الأولى هنا، وفي صفوف الساكنة القريبة من المدرسة، مات طفلان بسبب برودة الطقس، وهو ما كان صادمًا وجارحًا لنا، قد لا يموت الناس جوعًا كما في الماضي، ولكن أسباب الموت كثيرة حتمًا.
في المساءات الأولى كنا نعد شايًا لنتدفأ به، نتحلق ثلاثتنا حول طاولةٍ وسط البيت، نمارس هواية الأجداد في الحكي، هوايةٌ ماتت فينا منذ زمن، ليحييها غياب جودة شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى الوقت الكثير الذي أصبحنا نملكه هنا.
الوقت ثروتنا، حيث نقرأ ونكتب، ونحضر دروس الغد، ثم نتلاشى كل في جهة نبحث عن شبكة الاتصال، لربط الصلة بالعالم، وفتح نافذة على الأصدقاء والأهل، نشاركهم من خلالها ظلمة ليلنا؛ ثم نستريح.
الآمال في أرض الشجرة الوحيدة
تنطوي ملامح الأطفال هنا على تناقض رهيب، فهي تحمل من الحياة أزهارها، كما تحمل من الموت زرقة الجثث، حيث يرسم البرد خدودهم الوردية وشفاههم الزرقاء.
يقطع الأطفال ما يصل إلى عشرين كيلومترا يوميًا ذهابًا وإيابًا، دون أن تلمس فيهم العياء. فهم يصرون على الحضور إلى المدرسة، يصرون على نيل قسط قصير من الراحة بين الحصص، يستغلونه هو الآخر في إثبات رغبتهم في الحياة، رغبتهم القوية في القفز عاليًا وإحضار قرص الشمس، لإنقاذ ما تبقى من أمل في أعينهم، واستبدال الدرب التاريخي الذي تمضي فيه أرضهم التي تأبى التغيير.
أترى الآن كيف استحال ما كنت أحاول جعله مساحة لسرد تاريخ يتعلق بنفسي إلى تأريخ لجزء من حياة الأطفال. كانت نفسي هي المرآة حيث يمضي هذا التاريخ، المساءات التي من المفترض أن تكون لي، أعدت كتابتها على ضوء ما يعيشه أطفالي هنا. وما أهابه، يتحول إلى حشرة ضئيلة أمام ابتسامة صباحية على وجه تلميذ أو تلميذة يصر على أن يقول بشكل مضمر: سنستمر رغم كل شيء.
«بوتيجوت» القرية المرمية وسط بحر قاحل، لا طحالب فيه ولا سمك. «بوتيجوت» أو أرض الشجرة، بعلوها عن سطح البحر بما يزيد عن 1600 متر، بطقسها البارد ومنازلها الصخرية المندسة في الأرض ومسجدها الصغير الذي يحاول التمدد أمام الجبال المحيطة بالقرية والحجرات الصخرية لمدرستها، والحُجرة الإسمنتية الوحيدة المصبوغة بالأحمر.
بشيوخها المقاومين لسنوات طوال كل خطر محدق بهم يهدد بزوالهم من أرضهم، بعجائزها من النساء، اللواتي يستيقظن باكرًا ليكتبن حكاية اليوم الجديد. «بوتيجوت» بأطفالها الصغار وملامحهم الأطلسية والعذابات التي يقاسونها. هنا في هذه الأرض التي يأبى ساكنوها إلا أن يعيشوا بالفعل ما قاله درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، وهكذا يرفضون مغادرتها نهائيًا.
الأرض القاحلة والشجرة
عندما وصلت هنا، وبحثنا طويلًا عن سبب تسمية القرية، عرفنا أن الاسم راجع لشجرة ما. مشينا بحثًا عن الشجرة، كانت شجرة وحيدة وواحدة على امتداد كل المساحة المحيطة بنا، لا أحد من أهل القرية يتذكر ميلادها، قديمة قدم القرية.
تأملت الشجرة وأظنني فهمت سبب تشبث السكان بأرضهم التي بدت لي لا تستحق البقاء بها آنذاك، ثم تأملت الأرض القاحلة التي لا يعمرها غير نبات الشيح والحلفاء، وتساءلت كيف لهذه الأرض أن تنبت الأشجار والورود وغيرها من النباتات؟ كيف لنا نحن أن نغرس في تلاميذنا بذرة شجرة مثمرة فتنمو رغم الجفاف المحدق بها؟