الأزياء العربية، قطعة محلية يحتفي بها الغرب

تصدرت الأزياء السعودية غلاف مجلة فوق العربية لشهر نوفمبر، في عدد يهتم خصّيصًا بالمصممين السعوديين والأزياء المحلية. لم لا وقد ظهر جليًا...

تصدرت الأزياء السعودية غلاف مجلة فوق العربية لشهر نوفمبر، في عدد يهتم خصّيصًا بالمصممين السعوديين والأزياء المحلية. لم لا وقد ظهر جليًا اهتمام وزارة الثقافة التي أسست هيئة للأزياء كأحد القطاعات المهمة في الوزارة. لكن ألم يكن لأزيائنا العربية حضور أو تأثير سابق؟ 

احتفى «متحف الأزياء والنسيج» (Fashion and Textile Museum) في لندن ربيع 2015 بافتتاح معرض المصممة الراحلة ثيا بورتر، أحد الأسماء المشهورة بالتصاميم المستوحاة من الشرق الأوسط في ستينيات وسبعينات القرن الماضي. وصاحب المعرض إصدار كتاب «ذا بورتر» (The Porter)، المصنّف الوحيد الذي يتناول تصاميمها بالتفصيل.

عدّها الكتاب، إلى جانب أسماء أخرى كأوزي كلارك وزاندرا رودز وماري كوانت، من أهم المصممين البريطانيين المبتكرين في ذلك الوقت.

ولدت بورتر في القدس لمبشرين بريطانيين. وعاشت بين دمشق وبيروت، مما أعطاها معرفة أعمق بالمنسوجات، تتجاوز معرفة بعض المصممين الغربيين السطحية والمنحصرة في النمط والشكل الخارجي للثياب. وخوّلها عملها في مكتبة السفارة البريطانية ببيروت على الاطلاع على ما تتحصل عليه السفارة من هدايا، أو ما كتبه ووصفه الرحالة البريطانيون عن الأزياء العربية.

بورتر واستيحاء التصاميم العربية 

كانت العباية أحد الطُرز المميزة التي ناقشها الكتاب، وهي واحدة من سبع طرز اشتهرت بها بورتر. ويعرّج الكتاب بعجالة لا تتجاوز بضعة أسطر على تأثير ثقافات وأزياء الشرق الأوسط ووسط الجزيرة العربية على تصاميم بورتر المفضلة.

كما يُفرّق هذا الجزء من الكتاب بين العباءة والقفطان والجلابية كشكلٍ من أشكال الملابس الشرق أوسطية التي ألهمت بورتر. ويصف عباءة شبه الجزيرة العربية بالرداء الأسود الضخم الذي يغطي الجسم والمصنوع من قماش مربع كبير بفتحات للرأس واليدين، ويمكن تفصيله كذلك على شكل فستان فضفاض، مفتوح كاملًا من الأمام أحيانًا، ومغلق في أحيان أخرى.

لا يمكن وصف هذا التعريف بالدقيق، إذ يتبدّى خلطًا وتداخلًا لمسميات القطع الملبسية، بين العباءة التقليدية المصنوعة من الصوف الأسود، والثوب الذي يلبس فوق الدراعة، ومن مسمياته «ثوب النشل» أو «المنيخل» الذي ترتديه النساء في وسط وشرق شبه الجزيرة العربية.

يؤكد الكتاب على أن بورتر استوحت تصاميمها من العباءة التقليدية المصنوعة من الصوف الأسود غير المزخرف. ويشير إلى قدرتها على الإبداع في قصات تصاميمها التي ذاع صيتها، وارتداها المشاهير والممثلون الأجانب في سبعينيات القرن الماضي. 

وفي مقابلة له عام 2013، تحدث رئيس التحرير السابق لمجلة فوق الأميركية، أندريه ليون تالي، عن أحد تصاميم بورتر في الستينيات. وقال بأن هذه التصاميم الرائعة والمذهلة لا تمت للواقع بصلة، ولا يمكن للمصممين الحاليين تصميم شيء مشابه، مشيرًا بذلك للثوب المصمم من التل الأسود بحجم وعرض وقصات غير مألوفة وأكمام واسعة منسدلة، تزينه تطريزات فضية براقة منثورة على الثوب، تختال به العارضة.

مقابلة ليون تالي / YouTube

كيف يعقل لتصميم مستلهم من إرثنا الخاص أن يظهر متفرّدًا ومميزًا على العارضات الأجنبيات، ويعدّ تقليديًا ومتجاوزًا حينما نرتديه؟ 

الإرث الثقافي سلعة رأسمالية

لا ينبغي أن نتجاهل الحقائق التاريخية المتعددة القاضية بثنائية تأثر الغرب بفنون الأزياء الشرقية من جهة، والتأثير على الثقافات الأصيلة، سواء بتغيّر أنماط التبادل التجاري أو الاستعمار أو الغزو؛ وإلى وقت غير بعيد: العولمة.

يتناول عالم الاجتماع البريطاني، مايك فيذرستون العولمة بوصفها لا تقتصر على الشركات العابرة للقارات والسلع والمعلومات، بل تمتد للمعرفة عمومًا، والأكاديمية على الخصوص. إذ تتدفق المعرفة من الغرب لأطراف العالم، بينما تأتي المعطيات والبيانات بعكس الاتجاه: من باقي دول العالم إلى الدول الغربية.

وفي هذا السياق، تتعرض هذه المعرفة للتحوير والتغيير بوعي أو بغير وعي. فتُفرز المعطيات حسب الثقافة والمنظور الغربي، وتعاد صياغتها وتعريفها. ولأن اللغة السائدة لتناقل المعارف هي الإنقليزية، يخلق هذا صورة نمطية عنّا بأننا تقليديون. فيستخدم لفظ «تقليدي» لوصف زي الآخر، و«غير مزخرف» -رغم وجود عباءات مزخرفة بالخيوط الذهبية- لأن الآخر بسيط ويجهل جماليات الزخرفة.

وعمومًا ما يُدرس اللباس أو الزي الغربي والكتابة عنه باستخدام كلمة «موضة». بينما يُشار لأي زي خارج العالم الغربي في الدراسات الأنثروبولوجية تحت كلمة «لباس»، فحسب منظورهم الاستشراقي، اللباس جامد لا يتغير ولا يتطور، إلا إذا أعاد المصمم الغربي تقديمه.

بالرغم من ذلك، نجد في السنوات الأخيرة من الباحثين الغربيين من يحاولون معارضة هذه النمط من التفكير، ويدعون إلى تغيير تلك النظرة وطريقة دراسة الآخر. أجل، قد يكون النظام الغربي لاقتصاديات الموضة الغالب، ولكنه ليس الوحيد. فإذا أمعنا النظر، سنجد في مناطق العالم غير الغربي أنظمة للموضة، وليست بالضرورة ظاهرة على السطح، تتبدّل وتتطور متأثرة بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المحلية. 

الملكية الفكرية والاجتثاث الثقافي 

قد يكون توجيه النقد لمصممين كبار ودور أزياء، تعدهم أكاديميات فنون الأزياء والمتاحف مراجع في الموضة، موضع جدل. لكنهم أنفسهم يعيشون كل عام حربًا ضروسًا حول الملكية الفكرية، طرفها الثاني ماركات الموضة السريعة، والتي لُقّبت بهذا اللقب لسرعة التقافها تصاميم من على أظهُر العارضات على الممشى، وتصنيعها وتوزيعها بكميات كبيرة حول العالم.

ودون التطرق لكل الانتهاكات الإنسانية والبيئية والأخلاقية التي تقترفها هذه الشركات الكبيرة، يبقى من المهم الإشارة للاجتثاث الثقافي الذي تمارسه في وضح النهار. ولا يثنيها أو يدفعها إلى الاعتذار للثقافات التي تسرق منها تصاميمها إلا ضغط الشارع المعارض وحملات مواقع التواصل الاجتماعي.

فإذا افترضنا أن الكتاب ينسب للمصمم تعريفات وتصنيفات ناقصة ومجتثّة، وفي كثيرٍ من الأحيان، ظالمة للزي المحلي، لا تعرّفه بالشكل المطلوب وتخلطه مع أزياء أخرى رغم اختلاف تفاصيلها وتنوع خاماتها وألوانها؛ ويتذرّع بأن تراثنا مصدر إلهام لا غير بين يدي عبقرية المصمم التي جعلته يتصدر الأزياء في الستينيات والسبعينيات.

لِم نسمع باحتجاج المصممين على سرقة ماركات الموضة السريعة لتصاميمهم؟ ألم يكونوا مجرد مصدر إلهام لها فحسب؟

فتجد الأزياء المحلية نفسها عالقة على جبهتين، المصممين الكبار من جهة، والشركات الشرهة التي تبتغي الربح، وتسوق لغرض ذلك أزياء مسروقة، من جهة أخرى.

الأزياء العربية حبيسة الأرشيف

توثيق الأزياء العربية ليس ضعيفًا بالضرورة، لكن هذا الإرث الثقافي بقي حبيس المصنفات والموسوعات والكتب في أرشيف الجامعات. فلم يُحتف به بأدوات تناسب العصر. كأن تُعرض في موقع «قوقل للفن والثقافة» (Google Arts and Cultures)، كما تعرض الكثير من متاحف العالم والجهات من اليابان إلى أميركا الجنوبية بعض مقتنياتها وما تحتفظ به في أرشيفها. 

إذ مكنت منصة «قوقل للفن والثقافة» متاحف العالم والجهات الثقافية عرض مقتنياتها وما تحتفظ به في أرشيفها بدقة عالية. لتسرد بواسطة الصور والوثائقيات قصصًا ملهمة عن تاريخها، والحرفية العالية لإنتاجها وتقنيات صناعتها. فتجد تاريخ الكيمونو والطباعة في الهند وصباغة النسيج في غانا وتاريخ دار ديور في فرنسا وقصة البنشو في الأرجنتين. 

من جهة أخرى، تسعى بعض الجهود لتسليط الضوء على هذا الجانب الثقافي والفني. حيث قامت مؤسسة «منسوجات» قبل عدة سنوات بعرض جزءٍ من مجموعتها عبر الشبكة العنكبوتية بصور ذات إخراج عالٍ يصعب إيجاد مثيل له،  مع توصيف دقيق. 

كما صرحت المختصة بالأزياء التراثية السعودية، ليلى البسام، في لقاء لها ببودكاست فنجان عن كتاب حول الأزياء السعودية التراثية، سيصدر لها قريبًا باللغتين العربية والإنقليزية. ولكن هل يُعد هذا التوثيق كافيًا بالضرورة؟ 

لا تزال الأزياء العربية قليلة الحضور بشكل عام، وأزيائنا المحلية ليس لها وجود خارج الضوء الغربيّ. من هنا تكمن الحاجة في أن نعرض هذه المجموعات، ونشاركها العالم بالمسميات والتعاريف الصحيحة. 

وهذا لا يعني منع العالم من اقتباس عناصر من تراثنا، فلا يمكن أن ننكر تأثرنا التاريخي بملبس الثقافات المجاورة، كعنصر الزري التطريزي الذي يزين ثياب المرأة والذي استقيناه من الثقافة الهندية؛ بل أن نكون نحن من يقدمه للعالم ويشارك علومه بأسلوب عصري. فنحن جزء من تراث إنساني، يتقاطع ويتداخل ويلهم ويستلهم.

إعادة تصدير الإرث الفني 

تحتفظ بعض الجهات الخاصة أو المتاحف الشخصية بمجموعات من القطع التراثية التي عمل أصحابها على جمعها، ويفتح بعضها الأبواب للعامة. إذ تمتلك جمعية النهضة على سبيل المثال مجموعة كبيرة، منها مجموعة هذر روس، التي عاشت في السعودية في السبعينيات والثمانينيات، وجمعت قطعًا تراثية ملبسية كثيرة نسائية ورجالية، وحليًّا.

وبالإضافة إلى جمعها لهذه المجموعة، كتبت روس عدة مقالات عن الأزياء السعودية في مجلة أرامكو، ثم ألفت كتاب «فن الزي العربي» (The Art of Arabian Costume).

ولكنها غادرت السعودية أواخر الثمانينيات تقريبًا، مع مجموعة كبيرة من الأزياء ذات الإرث الفني الذي أُهمل. حتى عادت الأميرة هيفاء الفيصل بشرائه والاحتفاظ به في موطنه الأصلي.

كان ذلك في وقت تخلينا فيه عن هذه الأزياء بسبب انبهارنا بما هو جديد بعد الطفرة النفطية. أما اليوم، فبالرغم من بعث بعض الجهود التي ذكرناها بصيص أمل، ما تزال الطريقة التي توثّق بها الأزياء العربية تقليدية، وتكمن حاجتنا في تثبيت أصولها الثقافية للعالم بعصريّة تنطلق من المحليّ إلى العالمي، لا العكس.

الأزياءالتصميمالثقافة المحليةالرأسماليةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية