المقاطعة الشعبية في فخ المعتركات السياسية

من مقاطعة ستاربكس إلى مقاطعة التبغ الجديد ومقاطعة المنتجات الدنماركية، مالذي تعكسه المقاطعات الشعبية؟ وكيف ننظر لها في سياق سياسي؟

قد يذكر البعض الغضب الشعبي الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي بعد أن نشرت إحدى الصحف الدنماركية رسومًا مسيئة للرسول عام 2005، وما تبعتها من حملة تضامن اقتصادية كان نتيجتها مقاطعة المنتجات الدنماركية. 

وفي ظل التصعيد الذي تركز في منطقة الخليج العربية، سحبت السعودية سفيرها في الدنمارك. كما أعرب وزير الخارجية السعودي آنذاك، الأمير سعود الفيصل، أن مقاطعة الدنمارك «تمت على المستوى الشعبي» داعيًا إياها لـ«تصحيح الوضع».

وكان للحملة أثرٌ قويٌ على الصعيدين الديني والشعبي. إذ شدد أئمة الجوامع على ضرورة المقاطعة، وانتشرت على الإنترنت قوائم بالمنتجات الدنماركية لتسهل على السعوديين مقاطعتها.

وفي العالم العربي، خرجت مظاهرات عدة، وصل بعضها إلى حد إضرام النار في مبنى السفارة الدنماركية في دمشق. وأدى هذا الحراك الشعبي لاعتذار الصحيفة الدنماركية عن الرسوم لجميع المسلمين في العالم. وحتى بعد هذا الاعتذار، استمر عدد كبير من السعوديين في مقاطعة المنتجات الدنماركية لسنوات بعد حادثة الرسوم.

تطل المقاطعة مجددًا اليوم، ولكنها لم تتوقف على الجانب الديني، بل شملت البعد الوطني أيضًا. حيث انطلقت حملة مقاطعة «شعبية» سعودية في نهاية شهر أكتوبر للمنتجات التركية. ولم يمر على المقاطعة أيام حتى أعادت مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية نشر رسوم مسيئة للرسول إبان محاكمة المتهمين في الاعتداء على مبنى المجلة عام 2015، مما أسفر عن حملة مقاطعة جديدة، هذه المرة للمنتجات الفرنسية في عددٍ من الدول العربية والإسلامية.

صعود الخطاب اليميني وتهديد الإسلام السياسي 

خلال العقود الماضية، تبنت فرنسا قوانين عدة تهدف لإدماج الأقليات في المجتمع لضمان المساواة بين جميع أفراده. فمنعت الرموز العرقية أو الدينية بدافع أن الدولة معنية بالفرد نفسه لا مع علاقته بجماعته العرقية أو الدينية، وأنها بهذه القوانين تستطيع تحقيق المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع.

كما أن القانون الذي وضعته فرنسا عام 1978، والذي يحظر جمع أية بيانات على أساس العرق أو الدين، عقّد عملية  تقصّي أحوال هذه الأقليات وفاقم في تهميشهم أكثر من دمجهم. حتى صارت فرنسا متهمة بعمى الألوان، فيما يخص سياساتها وتدابيرها الداخلية.

وفي مطلع العام الماضي، رد ماكرون على حركة السترات الصفراء التي طالبت بإصلاحات اقتصادية. وذكر حينها أن الإسلام السياسي يمثل تهديدًا، ويسعى للانعزال عن الجمهورية الفرنسية. كما تناول في خطابه موضوعي الهجرة والمسلمين في فرنسا، وهي مواضيع عادة ما تهيمن على خطاب ومواقف اليمين، لذلك وجد البعض في تناوله إياها محاولة لاستمالتهم قبيل انتخابات البرلمان الأوربي في مايو 2019.

وفي مطلع هذا العام أيضًا، جدد ماكرون رفضه للإسلام السياسي، والذي اتهم تركيا برعايته من خلال الأئمة الذين ترسلهم لفرنسا، قائلًا حينها «لا يمكن للقوانين التركية أن تتواجد على الأراضي الفرنسية».

وقد تكون الانتخابات الفرنسية المقبلة إحدى الأسباب التي جعلت ماكرون يتطرق لموضوع الأقليات في البلاد. فمجددًا، يواجه الرئيس الحالي، مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني المعروفة بانتقاداتها الحادة ضد المسلمين في فرنسا. 

«الإسلام يعيش أزمة»

وتجدر الإشارة إلى أن الانتخابات الماضية التي جرت عام 2017 كانت كذلك بين لوبان وماكرون. وفي ظل غياب مرشح من اليسار الذي عادة ما يصوت المسلمون الفرنسيون له، اختار العديد منهم ماكرون خوفًا من وصول لوبان إلى سدة الحكم. حيث طُلِبَ من الفرنسيين حينها الخروج للتصويت من أجل «حماية فرنسا من تهديد اليمين المتطرف».

وقد يستخدم اليمين نفس الشعار خلال الحملة الانتخابية المقبلة لدفع الفرنسيين إلى التصويت وحماية الجمهورية من خطر «التطرف الإسلامي»

وجاءت أزمة الرسومات الجديدة بعد تصريحات ماكرون في مطلع شهر أكتوبر على أن «الإسلام يعيش أزمة في كل مكان في العالم»، وأن «مجتمعًا موازيًا» من المسلمين المتطرفين الانفصاليين يعيشون في الضواحي، ويرفضون قيم الجمهورية الفرنسية.

وامتدادًا لأحداث مشابهة وقعت في السنوات الماضية، تلت هذه التصريحات سلسلة من أحداث عنف في مدن فرنسية مختلفة، أججها صعود الخطاب اليميني في عدد من الدول الأوربية. وردت «شارلي إيبدو» على أحداث العنف بعرض الرسوم المسيئة على مبانٍ حكومية في فرنسا.

يتواصل ماكرون حاليًا مع قيادات الجالية المسلمة في فرنسا لتشكيل مجلس وطني للأئمة، يُعنى بالشؤون الإسلامية في البلاد. ومن المهام المسندة لهذا المجلس، إصدار وسحب اعتمادات رجال الدين والأئمة في حال مخالفتهم لـ«ميثاق قيم الجمهورية» الذي يشدد على «أن الإسلام في فرنسا دينٌ وليس حركة سياسية»، ممهلًا القيادات الإسلامية أسبوعين لكتابة الميثاق.

المقاطعة تدخل معترك السياسة

انطلقت مقاطعة المنتجات الفرنسية من دول إسلامية عدة على المستوى الشعبي، ولكن دخول الرئيس التركي أردوغان على خط المقاطعة ودعمه لها أعطاها طابعًا سياسيًا رسميًا بخلاف الدول الأخرى.

كما أخذت المقاطعة جانبًا شخصيًا أيضًا، حين شكّك أردوغان بـ«القوى العقلية» للرئيس الفرنسي. ردّت بعدها مجلة «شارلي إيبدو» برسمٍ كاريكاتوريٍّ ساخرٍ، صوّرت فيه الرئيس التركي أردوغان بملابسه الداخلية وهو يرفع ثوب امرأة محجبة. لتصدر تركيا بيانًا موضحة اتخاذ إجراءات قانونية ودبلوماسية ضد مسؤولي المجلة.

وهنا وقعت المقاطعة بوحل النزاعات السياسية وزادت من وتيرة التصعيد. فتركيا هي الدولة الوحيدة التي قاطعت رسميًا المنتجات الفرنسية، مما عرّض العدد الكبير من الشركات الفرنسية التي تصنع منتجاتها في تركيا وتوظف العديد من الأتراك لفقدان وظائفهم ومزيدٍ من تدهور الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد منذ سنوات.

من جانب آخر، واجهت السعودية ردود فعل لأفراد هاجموا القنصلية الفرنسية في جدة. حيث اعتدى مواطن سعودي على حارس الأمن أواخر شهر أكتوبر، تبعه هجوم آخر تبنّاه تنظيم داعش، واستهدف مقبرة لغير المسلمين أثناء مراسم إحياء ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى. 

المقاطعة التركية و«نشر الوعي»

لاحت بوادر مقاطعة تركيا عندما حذرت جهات حكومية من الوضع الأمني هناك، وتعرض العديد من المواطنين السعوديين إلى عمليات احتيال ونصب. ومنذ ذلك الوقت ارتفعت الأصوات المطالبة بالمقاطعة، مستعرضة الخطر التركي -لا على حياة السعوديين فحسب- وإنما ما يمثله الدور التركي المتزايد من خطر على المنطقة، خصوصًا في بعض الدول العربية والخليجية. 

وفي أكتوبر، انطلقت المقاطعة بتغريدة «اللاءات الثلاث» التي حثت المواطنين على عدم الاستثمار أو الاستيراد أو السياحة في تركيا. وبذلك تغير مفهوم المقاطعة هذا العام، وصار أكثر تأثرًا بالتوجهات السياسية الداخلية من باب المواطنة والتصدي لأعداء السعودية.

وما يميز مقاطعة المنتجات التركية اليوم أنها ليست مقاطعة اقتصادية فقط، فهي لا تقتصر على التحقق من مكان التصنيع أو فحص رقم الباركود ليتأكد الفرد أن المنتج ليس تركيًا، بل هي مقاطعة ثقافية تشمل الدلالات والرموز التركية سواء كانت بهارات عثمانية أو قهوة تركية، حتى ولو كان المنتج محليًا.

يبدو أن المقاطعة الثقافية أتت بالموازاة مع جهود السعودية لتوضيح الدور العثماني في البلاد. وذلك بعد أن عدلت المناهج التعليمية العام الماضي لتعكس هذا الجانب التاريخي للطلاب، مدعمة إياه بحقائق لم تتطرق لها المناهج من قبل.

كما أن المقاطعة السعودية للمنتجات التركية «غير رسمية»، إذ لا تؤثر على العلاقات بين البلدين مثلما تأثرت العلاقة بين تركيا وفرنسا.

تاريخ المقاطعة الشعبية

تبنى السعوديون حملات مقاطعات عدة على مدى السنوات، وعادة ما تأثرت بمجريات الأحداث في العالم الإسلامي والعربي. فمثلًا قاطع، السعوديون وغيرهم من دول العالم العربي المنتجات الأميركية بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، حيث تراجعت صادرات الولايات المتحدة الأميركية إلى السعودية بنسبة 40% في مطلع عام 2002.

فأصبحت المقاطعة حينها وسيلة لعدد من الشركات في توفير بدائل للمنتجات الأميركية، وظهرت في محلات بيع المواد الغذائية منتجات مثل مكة كولا، لتوفر للمستهلك العربي والمسلم بديلاً للكوكا كولا.

بعدها بأعوام، قاطعت دول عربية متجر ستاربكس، بعد أن استلم هوارد شولتز (الرئيس التنفيذي للشركة حينها) جائزة من منظمة يهودية بإسرائيل. وشكّك البعض في أن الشركة تقدم الدعم لإسرائيل، وانتشر حينها شعار «إذا قاطعت فإنك لن تموت، وإذا لم تقاطع فإن غيرك سيموت». مما دفع شولتز إلى الاجتماع بعدد من المراسلين العرب لنفي الشائعات التي أثرت سلبًا على شركته في العالم العربي.

ومثلما استمرت مقاطعة المنتجات الدنماركية حتى بعد اعتذار الصحيفة، استمرت مقاطعة ستاربكس بعد تصريحات شولتز. ويوضح هذا أن المقاطعة عادة ما تتخذ طابع العادة على المستوى الفردي، حتى بعد انتهاء الحملات المروجة لها، وقد يكون لهذه المقاطعة أيضًا يدٌ في إنعاش الشركات المحلية المصنعة للقهوة. 

في العام الماضي أيضًا، تعرض التبغ الجديد إلى حملة نقد واسعة من السعوديين على تويتر. ورأى البعض أنه «مغشوش»، فبادرو إلى مقاطعة منتجات جبل علي. وفي حين شددت الإمارات أن منتجاتها تطابق المعايير الخليجية والدولية، أخذت الجهات السعودية المختصة عينات لفحصها لتفادي تنامي النقد الواسع.

ومع أن الإمارات دولة حليفة، لم يمنع هذا استمرار الحملة والنقاش على مواقع التواصل الإجتماعي والمقالات اليومية عن رداءة السلع وأهمية تشديد الإجراءات على ما تستورده السعودية من جبل علي. 

تركيا وتسييس المقاطعة

كان للتصعيد التركي أثرٌ في تسييس المقاطعة ونقلها من الساحة الشعبية إلى المعترك السياسي. إذ نادت بعض الأصوات والجهات الحاضنة لبعض التيارات الإسلامية التي لا تتفق مع توجهات السعودية بالمقاطعة، واستبدلت المنتجات الفرنسية بالتركية، مما وضع المقاطعتين في تقاطع بين ما هو وطني وديني.

ويبدو أن حملات المقاطعة الأخيرة التي خرجت من السعودية، لا تتفاعل بالضرورة مع المقاطعات «العابرة للحدود»، مما يبين اختلاف نظرة أطياف المجتمع للأمور، والتي يمليها الجانب السياسي السعودي، لا  الإقليمي أو الإسلامي كما جرت العادة سابقًا.

يتناغم هذا التوجه مع سياسات السعودية التي تصدّت للحركات والأفكار العابرة للحدود، مثل العروبة أو فكرة «الأمة الإسلامية» التي أعادت الثورات العربية إنتاجها، والتي شكّلت عبئًا على الأمن الوطني لدول المنطقة، جوبه بتعزيز مفاهيم الانتماء الوطني في البلاد. 

ولذلك، حدّت السعودية من سطوة الخطاب الديني في السنوات الماضية. واتجهت نحو تفعيل دورها كقوة ناعمة في الغرب، من خلال تكثيف جهودها لدحض العنف وتعزيز مفهوم التعايش والأخوة. وهذا التوجه مغاير للتوجه التركي، مثلًا، والذي يأخذ على عاتقه الدفاع عن المقدسات الإسلامية وتصعيد الخلاف في سبيل تحقيق ذلك.

هاجم ماكرون الإسلام السياسي في كلمته التي ألقاها مطلع أكتوبر، مما يتفق مع توجه السعودية التي حذرت في الأيام الأخيرة عبر المفتي العام للسعودية وهيئة كبار العلماء ووزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد على أن «الإخوان المسلمين» حركة إرهابية. وهنا تجد السعودية نفسها في نفس المعسكر الفرنسي أمام عدو واحد.

ولكن هذا التوجه الجديد لا يعني أن السعودية تخلت عن دورها التقليدي، فيرى بعض كتاب الرأي أنها يجب أن تبقى «محافظة على خيارها الإسلامي وفضائها العربي وهويتها الوطنية»، في حين رأى آخرون أن توجه السعودية وفرنسا واحد، ويحتم عليهما التضامن سويًا لسد الطريق أمام التيارات المعاكسة والمتمثلة في «الإسلام السياسي». 

ماذا يحدث حين تتقاطع المقاطعات؟

إن تزايد المقاطعات وتضارب توجهاتها دليلٌ على تعدد القوى السياسية في المنطقة وقدرتها على تأجيج الاضطرابات. كما أن قيام الحملتين في وقت واحد، أوضح جليًا الخناق السياسي العام التي اصطدمت فيه المصالح، وكثرت فيه المزايدات؛ فأدى إلى تسييس بعض القضايا وتهميش أخرى. 

كما أن مناخ الاستقطابات فاقم الخلافات والتحزبات، وأوقع المقاطعات الشعبية الأخيرة في معترك الأزمات السياسية. لتجد نفسها مشوشة وفاقدة للزخم الذي حظيت به لسنوات عدة. 

الإسلامالمجتمع المدنيتركيافرنساالثقافةالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية