البدائل النباتية: عن حبة اللوز التي لا تدرّ الحليب

قبل حوالي عشر سنوات حين شرعت في استهلاك الحليب النباتي بدل الحليب الحيواني، سألني جدي عن أول علبة حليب اشتريتها، فجاوبته باقتنائي حليب لوز، فسألني: «يعني بيذان؟»

قبل حوالي عشر سنوات حين شرعت في استهلاك الحليب النباتي بدل الحليب الحيواني، سألني جدي عن أول علبة حليب اشتريتها، فجاوبته باقتنائي حليب لوز، فسألني: «يعني بيذان؟»

لم أتوقع بأن معضلة تسمية هذا الصنف من المشروبات جزءٌ من معركة قانونية قائمة، يتنازع أطرافها في محاكم الاتحاد الأوربي وأروقة صناع القرار الأميركي والأسترالي، حول أحقية وسم الشركات المنتجة للبدائل النباتية للألبان ذات المصادر الحيوانية منتجاتها باسم حليب أو روب أو حتى جبن. وأن هذه المعضلة ستتسبب في تسمية علب حليب اللوز التي أشتريها اليوم بـ«شراب اللوز» أو «اللوز» فقط.

مزارعو الألبان وتقنين السمن النباتي

بدأ هذا النزاع في القرن الماضي، حين نجح مزارعو الألبان بأستراليا في دفع الحكومة لتقنين بيع السمن النباتي في السوق المحلي، من خلال إلزام البائعين بنسب معينة في السوق وفرض ضرائب مرتفعة. بالإضافة إلى حصر إنتاج المنتجات النباتية في مصانع مستقلة عن غيرها من منتجات الألبان الحيوانية، وصبغها بصبغات اصطناعية لتثبيت الاختلاف عن السمن الحيواني على المستوى البصري كذلك.

جاء ذلك في سلسلة قوانين مررتها عدة ولايات أسترالية بين عامي 1915 و1938، في محاولة لقلب سوق الألبان الحيوانية والبديلة المحلي، بعد الخسائر التي تكبدتها مصانع الزبدة الحيوانية بسبب انتشار اعتقادٍ بالفوائد الصحية للسمن النباتي وأسعاره المنخفضة مقارنة بالسمن الحيواني. 

ووجد هذا المنحى الحكومي في تقنين بيع وإنتاج السمن النباتي صداه في دول أخرى أيضًا، مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا وجنوب إفريقيا. وشجعت حكومات أخرى على تسويق هذا المنتج. وشهدت تجارته ارتفاعًا في المبيعات، خصوصًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. في حين ارتفعت أسعار السمن الحيواني، ما حدا بالحكومات المقننة له إرخاء قيودها خلال هذه الأزمة.

رُفعت هذه القيود كليًا في أستراليا في سبعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي ظهرت فيه بحوث علمية تحذر من أضرار الكوليسترول في السمن النباتي. 

صراع الحليب بين تضليل المستهلك ومعايير التصنيف

وفي نهايات القرن وتحديدًا عام 1997، اتخذت هذه المحاولات شكلًا آخر. حيث قامت مجموعة من منتجي الألبان في الولايات المتحدة بتقديم شكوى رسمية لهيئة الغذاء والدواء ضد الشركات المصنعة للبدائل النباتية للألبان، بحجة أن استخدام هذه التسميات الخالية من مشتقات الألبان الحيوانية يعد تضليلًا للمستهلك، وهي الحجة ذاتها التي استند عليها مصنعو الألبان الحيوانية منذ بداية هذا الصراع.

لكن هذه الشكاوى المتكررة لم تلق بالًا من أصحاب القرار المعنيين، حتى يوليو من عام 2018. حين أعلن الطبيب سكوت قوتليب، رئيس هيئة الغذاء والدواء الأميركية السابق، عزم إدارة ترمب الوقوف بجانب منتجي الألبان الحيوانية، ومنع منتجات البدائل النباتية من استخدام أي وصف متعارف عليه لوصف منتجات مشتقات الألبان الحيوانية عليها، من خلال إصدار وثيقة إرشادية تنظم عملية التسمية تلك.

وفي إشارة لمعايير الهيئة حول هذه المسألة، صرح قوتليب: «عليّ أن أعترف، حبة اللوز لا تدر الحليب». حيث تُقرّ تلك المعايير الموضوعة -التي لم يكن معمولًا بها من قبل- بأن الحليب منتج يستخرج من حيوانات مدرة للحليب. 

فخر الألبان

جاء هذا الوصف مقاربًا للتعريف المدرج في قانون «فخر الألبان» الذي قدمته النائبة في مجلس الشيوخ الأميركي تامي بالدوين.

حيث نص القانون -الذي لم ينجح في أيٍ من مداولاته حتى اليوم- في مادته الرابعة على رفض تعريف أي صنف طعام بـ«منتج ألبان إلا […] إذا تم الحصول عليه من خلال حَلْب حيوان ثديي واحد ذي حوافر أو أكثر». كما أشار نص القانون -الذي استند على معايير هيئة الغذاء والدواء- إلى المحتوى الغذائي الذي يختلف عن بدائله النباتية. 

في مقابل هذا الحشد التشريعي الذي حظي به مصنعو الحليب الحيواني ومشتقاته، احتجت رابطة الأطعمة النباتية في جلسة استماع لها أمام هيئة الغذاء والدواء الأميركية في يوليو 2018 على تطبيق هذه المعايير. حيث دافعت ممثلة الرابطة شانن كامبانا عن استخدام مصطلحات مثل حليب الصويا أو الحليب النباتي، معللة بأنها أنسب المصطلحات وأكثرها شيوعًا.

كما تطالب الرابطة بوجود معايير غير إلزامية لاستخدام «قائمة مصطلحات عالمية» لتسمية هذه المنتجات، و«تدعي [كذلك] بأن الشركات التي تبيع البدائل النباتية لا تحاول الاستبدال أو الظهور بمظهر منتجات الألبان، بل تسعى لاستخدام لغة واضحة وصادقة وغير مضللة» يفهمها مستهلكو بدائل المشروبات والمأكولات الحيوانية. 

الصراع في أوربا 

وفي قضية مشابهة، حكمت محكمة العدل في الاتحاد الأوربي عام 2017 بمنع شركة مصنعة للتوفو (منتج نباتي مصنوع من حبوب الصويا) من تسمية منتجاتها بأسماء كالزبدة (زبدة التوفو) والجبن (جبنة نباتية). وعلى هذا الحكم، تعلق المحامية كيتي فيكري بأن «مبيعات هذه المنتجات ازدادت في السنوات الأخيرة، ويوجد توافق عام حول فهم المستهلكين الواضح لما يشترونه»

وتوافق هذا الحكم مع تعليمات أصدرها الاتحاد الأوربي بهذا الشأن عام 2013، والتي نصت على إتاحة استخدام هذه المسميات في التسويق والإعلان لمنتجات مشتقة من حليب حيواني فقط. لكن هذه التعليمات استثنت منتجات كحليب جوز الهند وزبدة الفول السوداني وحليب اللوز والبوظة.

المطبخ الشرقي وبدائل الحليب النباتية 

قد يكون قِدم استخدام هذه الأنواع من البدائل النباتية السبب في استثنائها. حيث يسجل معجم ميريام ويبستر الأميركي أول استخدام لمصطلح «حليب جوز الهند» في العام 1689، في إشارة إلى «ماء جوز الهند».

فيما يقدر أول استخدام لمصطلح حليب اللوز في القرن الرابع عشر، دون تحديد المناسبة أو المصدر الذي ذكر به، وقد ذكر هذا الاستخدام في كتب طبخ عديدة ظهرت في أوربا ما بين القرون الوسطى وعصر النهضة التي أدرجت حليب اللوز في كثير من وصفاتها، تماشيًا مع عصرٍ استُخدم فيه حليب اللوز بديلًا للحليب الحيواني، أثناء فترة الصوم الأكبر. حيث كان صنفًا يستهلكه المترفون من رجال الدين والطبقة العليا في أوربا العصور الوسطى.

تقول المؤرخة ميليتا فيس آدمسن بأن تعلق أوربا في آواخر القرون الوسطى بهذا المنتج الذي قارب حد الإدمان، ارتبط بسحر ثقافات الشرق. حيث أن ذكر أيٍ من هذه المكونات «اللوز وحليبه مع السكر والورد (ماء الورد)» في أية وصفة، تكسبها تلقائيًا وسمًا عربيًا أو يونانيًا. وبالفعل، ذُكرت هذه المكونات في عددٍ من وصفات كتاب «الطبيخ»، وهو كتاب طبخ عباسي ألفه محمد بن الحسن البغدادي في القرن الثالث عشر.

السمن النباتي اليوم 

في عام 1992، شهد السوق الأسترالي زيادة ملحوظة في مبيعات السمن الحيواني، في مقابل انخفاض ملحوظ في مبيعات السمن النباتي. كما وجدت نسب مبيعات متقاربة في أسواق عالمية أخرى فيما يخص هذين المنتجين.

وانعكس هذا التطور على شركة «يونيليفر» (Unilever)، إحدى أكبر مصنعي السمن النباتي في العالم، حين باعت جميع حقوق تصنيع هذه المنتجات في عام 2017. إذ جاء تغير سلوك المستهلكين تجاه هذين الصنفين كردِ فعل للبحوث العلمية التي أظهرت مضار استهلاك السمن النباتي.

وخلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، نشطت حركة الترجمة في العالم العربي، لاستحداث مصطلحات لتسمية وسائل التكنولوجيا الحديثة. وطرح اللغويون خلالها خيارات لمسميات كانت تعرف بمعانٍ أخرى، مثل كلمة هاتف التي وضعت كترجمة لكلمة (telephone)، ليحل هذا المعنى المستحدث الجديد محل المعاني الرئيسية المعروفة.

وتعرف هذه الظاهرة اللغوية بالتوسع الدلالي، حيث يتسع مدلول الكلمة ليشمل معانٍ أخرى. فإن كان البشر منذ قرونٍ مضت قد قرروا ممارسة هذه الظاهرة اللغوية بكل بساطة فلم نمنع عنها اليوم؟

وبغض النظر عن قدم اصطلاح أوصاف منتجات الألبان الحيوانية على بدائلها النباتية، فإن هذه المسميات المعارة مثالٌ واضحٌ على أن اللغة قد أدت غرضها في هذا السياق: حيث تصف لنا الشيء (الشراب المستخلص من مكسرات اللوز كبديل للحليب الحيواني مثلًا) بإيجاز واضح لا لبس فيه (حليب اللوز).

وعن هذا النهج الأصولي في اللغة الرافض لهذا الاصطلاح يقول اللغوي جون مكورتور بأن متبعي هذا النهج «لا يستوعبون أن اللغة التي نتحدثها اليوم نشأت من أنواع التغييرات نفسها التي يرونها اليوم أخطاءً» 

الاستهلاكيةالتسويقالمنتجاتالنباتيةالمستقبل
مقالات حرةمقالات حرة