عنف الفوضى أم عنف الدولة؟
على تقاطع شارع إتش وفيرمونت في مدينة واشنطن، يكتب أندرو ليبر عن عنف الدولة في لحظة هجوم قوات أمنية مختلفة على المتظاهرين المنادين بتحقيق العدالة لجورج فلويد
بدأت عملية الإخلاء بجدران من الدروع وانتهت بقنابل غاز مسيل للدموع. كنت على تقاطع شارع إتش وفيرمونت في مدينة واشنطن، عاصمة الولايات المتحدة لحظة هجوم قوات أمنية مختلفة على المتظاهرين السلميين المنادين بتحقيق العدالة على إثر مقتل جورج فلويد، المواطن الأميركي الأسود على يد ضابط شرطة والمطالبين بالحد من عنف الدولة وإيجاد حلٍّ للعنصرية الهيكلية.
ورأيت بأم عينيَّ صفوف الشرطة المدنية من المدن المجاورة والشرطة العسكرية للحرس الوطني وضباطًا من الخدمة السرية يقومون بإخلاء شارع إتش متقدمين بدروعهم البلاستيكية مشهرين عصيهم الخشبية.
ولحق هجوم الدروع ذاك المزيد من استعراض القوة والتأكيد على قدرة الدولة استخدام العنف ضد المواطنين لتحقيق مآرب الرئيس ترمب، بما في ذلك زحف فيلق شرطة الخيالة التابع لشرطة الحدائق (وقد يلاحظ القارئ هنا العدد الكبير من أقسام الشرطة في الولايات المتحدة) واستخدام قنابل يدوية صوتية ورذاذ الفلفل والغاز المسيل للدموع.
انفجار شعبي
لا يمكن لأحد إنكار آثار العنف الذي لجأت الدولة إليه لتفكيك المظاهرات والاحتجاجات في أميركا، حيث كان سببًا في التخريب وإلحاق الضرر وانتهاك حقوق المواطنين رغم تبريرات البعض استعراض القوة هذا كحل للمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها أميركا والتي انعكست في الانفجار الشعبي على مر الأسبوعين الماضيين.
وقد يكون تركيز العنف المفرط هذا مصدر أحكام قاسية ككلمة جريدة القبس الكويتية حين كتبت في الرابع من يونيو:
قد حان الوقت لكلّ عربي ومسلم، أن يستوعب الدرس ويشربه ويدرك يقينًا أن التظاهرات والفوضى لا تؤدي إلا للهلاك
هذا العنف نفسه كان سبب اندلاع المظاهرات بعد مصرع جورج فلويد، تحت خناق أحد ضباط الشرطة في مدينة مينيابوليس الذي ضغط بركبته على رقبة فلويد لما يقارب 9 دقائق موديًا باختناقه ووفاته. وقال الضباط إن فلويد اعترض القبض عليه، بينما كشفت مقاطع صورها شهود عيان وكاميرات مراقبة المحلات المجاورة أن فلويد لم يعترض للدرجة التي استحق فيها مثل هذا العنف.
سياسة العنف الممنهج
جاء مقتل فلويد بعد عدد من الجرائم المرتكبة في حق مواطنين أميركيين سود، تلاها تخاذل الشرطة ومؤسسات العدل وتسترها على القضايا، مثل بريونا تايلور التي أودى تدخل قوات الشرطة في مدينة لويفيل بحياتها بعد مهاجمة شقتها خطأً لاعتقادهم حيازتها للمخدرات، أو القضية الواقعة في ولاية جورجيا التي راح ضحيتها أماود أربيري، مواطن أمريكي أسود آخر طارده مواطنان بيض وقتلاه ظنًا منهما أنه لصّ دون ثبوت دليل على ذلك.
منذ سنوات والشرطة تفرط في استخدام العنف ضد المواطنين السود في مدينة مينيابوليس، وهذا ما تعده كثير من الانتقادات عنصرية هيكلية تضر بنظام العدالة الأميركي على جميع الأصعدة. وبينما يستمر خبراء العلوم الاجتماعية في مناقشة دورالعنصرية في استخدام الشرطة للعنف ضد المواطنين الأميركيين، يبدو جليًّا أن قوات الشرطة تركّز أنشطتها في مناطق وجود الأقليات من المواطنين، وهذه التفرقة لا يمكن تبريرها بمعدلات الجرائم داخل المناطق والمجتمعات المختلفة، فقوات الشرطة عمومًا تميل إلى استخدام العنف ضد الأقليات في المجتمع الأميركي.
عسكرة الشرطة الأميركية
وبغض النظر عن تدخلات الدولة العنيفة التي يطبعها التمييز العنصري، تبقى مشكلة سهولة استخدام العنف ضد المواطنين قائمة في مقابل صعوبة محاسبة أفراد الشرطة، فقد رُفعت في الولايات المتحدة انتقادات عديدة حول عسكرة قوات الشرطة الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حين استفادت تلك القوات من برامج حكومية تمويلية تفيد قوات الشرطة في توسيع عملياتها ضد الإرهاب وسمحت لها بشراء معدات عسكرية فائضة عن حاجة الجيوش الأميركية في حروبها في الخارج.
واستخدام قوات الشرطة الأميركية للعنف يفوق قوات الشرطة في الدول المتقدمة اقتصاديًا. ويرجع هذا لانتشار الأسلحة في جميع الولايات، وإلى القوانين العديدة التي تحمي ضباط الشرطة من المحاكمة في حالات استخدام العنف المفرط حتى ذاك المودي للوفاة. ويعزز ذلك نقابات الشرطة في كلّ مدينة، فتضغط هذه الأخيرة بدورها على القادة السياسيين لتوفير الحماية المطلقة من الانتقاد ولزيادة التمويل في ميزانيات المدن والبلديات، وتهدّد بإثارة الرأي العام ضد القادة إذا لم يؤيدوا ضباط النقابة أمام الانتقادات.
الأزمة تشعل الفتيل
وفوق هذا كله، انفجرت المجتمعات الأميركية بعد مقتل فلويد الذي أشعل الرأي العام وسط أسوأ أزمة اقتصادية وصحية في المائة عام الأخيرة من تاريخ الولايات المتحدة، حيث وصلت نسبة البطالة إلى أعلى مستوياتها منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، لتمتلئ المظاهرات بأولئك الذين لا يملكون وظائف تمنعهم من المشاركة أو من ينعمون بوظائف تسمح لهم بالعمل من منازلهم.
ومع تضخم المظاهرات في مينيابوليس وانتشارها في كل الولايات الأميركية، توجهت وسائل الاعلام إلى التركيز على حالات النهب والتخريب من بعض المتظاهرين متناسين أن معظم أعمال التخريب تغطيها شركات التأمين.
عنف الدولة في مواجهة الديمقراطية
استند بعض المسؤولين والكتاب إلى حالات النهب والتخريب هذه لتبرير مواقفهم الداعية لاستخدام أكبر قدر ممكن من عنف الدولة لحل الاشتباكات وتهدئة المتظاهرين. فقال السيناتور الجمهوري توم كوتون في مقال رأي نشرته النيويورك تايمز والذي أثار الكثير من الجدل، أن الفوضى في الشوارع الأميركية بحاجة إلى «استعراض القوة لتفريق منتهكي القانون واحتجازهم وردعهم من ارتكاب المزيد من الانتهاكات» وقصد بذلك الاعتماد على القوات المسلحة لا قوات الحرس الوطني التي تُعتبر تحت سيطرة الحكام المنتخبين للولايات.
بينما أصرّ اللواء المتقاعد ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس على «وجوب تركيز انتباهنا على حفنة الخارجين عن القانون. فالحق في التظاهر مكفول لعشرات آلاف الأشخاص ذوي المبادئ الذين يؤكّدون أهمية الالتزام بقيمنا.»
الدولة تستعرض قوتها
وجاء مقال جيمس ماتيس بعد أن شهد شارع إتش في الأول من يونيو أولى مبادرات الإفراط في استخدام العنف والقوة على يد الشرطة والرئيس ترمب. وكان السببَ الأساسيَّ لإيلاء الإعلام اهتمامه لعنف الدولة بدلًا من عنف المتظاهرين، وقد سمى البعض عملية إخلاءَ شارع إتش «معركة حديقة لافاييت» لمجاورة الشارع للحديقة قبالة البيت الأبيض.
كانت الساعات التي تلت إخلاء الشارع بمثابة كابوس لكل من كان يخشى تدخل القوات العسكرية الفيدرالية لحلّ الاحتجاجات بالقوة ليس في واشنطن فحسب، بل في الولايات جميعها. وأشار بعض المقربين من الرئيس إلى اللجوء لسياسة التمرد المتعلقة بعام سنة 1807 لفرض القوات المسلحة على الولايات، في حين ظهرت مشاهد رهيبة في شوارع العاصمة مثل محاصرة الشرطة لشقة قدمّها صاحبها كملجأ لبعض المتظاهرين، ونزول مروحيتين على المتظاهرين لبثّ الرعب في صدورهم.
كما تعالت تخوّفات من جاهزية الرئيس لاستخدام العنف المباشر لتحقيق أهدافه السياسية وحتى التافهة منها، من قبيل التقاط الصور من أمام كنيسة قريبة من البيت الأبيض.
ولكن في نهاية استعراض القوة هذا الذي أراد الرئيس ترمب منه تأكيد هيبته كقائد عظيم يحكم البلد بالقوة، اتضح أن خير دليل على هيبة الدولة في الولايات المتحدة يرجع في الأساس -على الأقل في الوقت الحالي- إلى احترام مسؤولي الدولة حقوق المواطنين لا العكس.
الشرطة تحت حصانة الدولة
وبعد مرور يوم واحد فقط من الإخلاء، تراجع بعض المسؤولين من وزارة الدفاع عن مشاركتهم في العملية، بعد انتقادات لم يوجهها رموز الديموقراطيين فحسب، بل محافظون أيضًا مثل الواعظ المسيحي بات روبيرتسون وضباط متقاعدين كجيمس ماتيس ومايك مولين. وسرعان ما انسحب كثير من المسؤولين الكبار في حكومة ترمب من مشاركتهم، وعرقل الموضوع حتى الآن محاولات ترمب استخدام القوة العسكرية في المدن الأميركية والعاصمة واشنطن. وفي غضون أسبوع انقلب الرأي العام من مؤيد لمعارض للتدخل العسكري وكان للعملية أيضًا تأثير كبير على صورة الشرطة في الإعلام وعند المواطنين الأميركيين.
فحتى قبل الإخلاء، تلقّت قوات الشرطة انتقادات كثيرة من مختلف المدن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتقد مواطنون سياسات استخدام عنف الدولة ضد المتظاهرين السلميين. هذا العنف الذي تجلى في اعتداء الشرطة في مينيابوليس على مواطنين في بيوتهم بالأسلحة البيضاء، ودهس المتظاهرين في شوارع نيويورك بسياراتها
والدفع بأناس كبار في السن على الأرض في أكثر من مدينة. ليجمّع مغرد على موقع تويتر مئات المقاطع كدليلٍ على استعداد الشرطة لاستخدام العنف ضد مواطنين لم يرتكبوا أي جرم سوى الإساءة لمكانة الشرطة ككيان دولة لا يسمح بانتقاده. وبعد الإخلاء ألقت الشريحة الأكبر من الرأي العام بمسؤولية إثارة العنف في الشوارع الأميركية على الشرطة بدل إلقاءها على المتظاهرين.
الإصلاحات في مهب الريح
وفي رأي كثير من الكتاب والناشطين الناقدين للشرطة، تصرفات قوات الشرطة في الشوارع الأميركية كانت خير دليل على سطحية الإصلاحات التي تم التركيز عليها سابقًا كترشيد استخدام الشرطة للقوة المفرطة، والتي ركزت على تمديد مدة الإشرافات والتمرينات، وأدى ذلك لمزيد من المطالبة بإصلاحات جذرية مثل ترشيد تمويل قوات الشرطة مقابل المزيد من التمويل لبرامج اجتماعية أخرى تعزز السلامة والاستقرار في المجتمع الأميركي دون اللجوء للعنف كالوسيلة الوحيدة لتحقيق تلك الأهداف.
وقد يكون لكل ذلك تأثير سياسي أيضًا، فحسب مقال للعالم السياسي عمر واسو أدّت المظاهرات التي لجأ فيها المتظاهرون للعنف عام 1968 إلى تعزيز شعبية المحافظ ريتشارد نيكسون وجمعه مزيدًا من الأصوات، أما عن المظاهرات التي لجأت فيها الشرطة للعنف فقد كانت سببًا في إثارة تعاطف المتظاهرين مع السياسيين الديمقراطيين
ومع أن الصيف الطويل أمامنا قد يخفي منعطفات كثيرة، يمكن طرح ثلاث سيناريوهات للأشهر القادمة.
السيناريوهات المستقبلية
أكثر الاحتمالات التي يطرحها المتظاهرون تفاؤلًا هي استمرار التركيز الإعلامي على استخدام الشرطة للعنف ومحاولة الرئيس لاستعراض القوة دون اتّخاذ أية إجراءات أخرى لحل التجمعات في العاصمة وغيرها من المدن.
ومن المتوقع أن يضغط مثل هذا السيناريو على حكومات المدن والبلديات لترشيد ميزانيات الشرطة وصلاحياتها بهدف التقليل من انتهاك حقوق المواطنين وخصوصًا الأقليات وكذلك الضغط على الرئيس ترمب في الانتخابات الرئاسية بتهمة عدم احترام حق المواطنين في التظاهر السلمي.
بينما لو نجحت قوات الشرطة في إثارة الغضب والشغب في صفوف المتظاهرين، أو توجّه بعضهم إلى التخريب في حال انعدام دلائل الإصلاحات أو التنازلات من القادة السياسيين، سيشكل هذا ورقة رابحة لمعارضي الإصلاح بمن فيهم الرئيس ترمب، وهم الذين يستخدمون الوضع الحالي لجمع الأصوات في الانتخابات القادمة.
وفي السيناريو الأسوأ، قد يلجأ الرئيس ترمب إلى استخدام القوة العسكرية مباشرةً في العاصمة وتحريض حكّام الولايات، وخصوصًا من هم من نفس الحزب على اللجوء إلى قوات الحرس الوطني لحل التجمعات بالقوة. حتى الآن لا نعلم ما الذي قد يتجرأ ترمب على فعله لو صدّق انعدام القيود على صلاحياته واستخدامه للقوة، قد يؤدي ذلك إلى مواجهة دستورية بين الرئيس والقادة العسكريين من جهة، أو تلاعب الرئيس بالعملية الديمقراطية في الولايات المتحدة من جهة أخرى. وعلى أية حال، يجدر بنا ألا ننسى أن أي حالة من حالات العنف المفضية للفوضى لا يمكن مقارنتها بما قد يسفر عنه عنف الدولة المفرط.