مجتمع المخاطرة العالمي

يشرح أولريش بيك مفهوم المخاطرة أنه توقع الاحتمالات المستقبلية بشكل واعِ، كمخاطر البطالة والتدخين والطاقة النووية والتغير المناخي والإرهاب.

كتبت جوليا ويك في صحيفة لوس أنجلوس تايمز عن تجربتها مع الإصابة بفيروس كورونا، حيث تظن أنها أُصيبت به لمدة أسبوع كامل قبل إحساسها بفقدان التذوق والشعور بالمرض. كتبت ويك عن استعادتها -بلا انقطاع- للأيام التي سبقت الفحص حين لم تكن تعلم بإصابتها، وكيف أن محاولاتها لمساعدة الآخرين ربما كانت تؤدي إلى إيذائهم: ماذا لو كانت قد تركت الفيروس أيضًا حين تركت أغراض البقالة في منزل والدة أحد الأصدقاء؟ وعندما تطوعت لتعبئة وجبات الطعام لكبار السن، هل كانت تحمل مرضًا يؤدي إلى وفاتهم؟

تعلق ساره هولدر في مقال لها على ما كتبته ويك:

يجب أن يكون ما كتبته ويك وصيةً لكل من يتساءل عن كيفية التصرف في هذه الأزمة أثناء مساعدة الناس: تصرَّف طوال الوقت كما لو أنك مصاب بالفيروس فعلًا.

تشير قصة جوليا ويك وتعليق سارة هولدر إلى سمة لعالمنا اليوم، ربما ساهمت جائحة فيروس كورونا في تكشفها أكثر. وتتمثل هذه السمة في أننا لم نعد نعيش في عالم يتطلب منا التمييز بين خيارات آمنة وخيارات خطرة، بل يطلب منا الموازنة بين مخاطر مختلفة. وفي حالة ويك، تفاوت الخيار بين أن يتراجع الناس عن مساعدة بعضهم وبين خطر نقل الفيروس، هذا هو مجتمع المخاطرة الذي نعيشه اليوم.

كريستوفر كولومبوس على شواطيء سان سلفادور

المخاطرة وارتباطها بالحداثة والرأسمالية

يبدو أن مفهوم المخاطرة بدأ بالانتشار مع حركة المكتشفين الأوربيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، خصوصًا مع البحارة منهم، فقد كانوا يصفون المياه التي يبحرون فيها لأول مرة بالمخاطر. ولذلك من المرجح، كما يشير أنثوني قيدنز ، أن كلمة «risk» جاءت إلى الإنقليزية من لغات هؤلاء البحارة الإسبان أو البرتغاليون. يقول كريستوفر كولومبوس، وهو رحالة إيطالي حقق مكتشفاته عبر الأسطول الإسباني:

لن تعبر المحيط ما لم تتحلَّ بالشجاعة لتترك الشاطئ يغيب عن ناظريك

ومع دوران عجلة الرأسمالية حيث يصبح حساب احتمالات الربح والخسارة في المستقبل أمرًا أساسيًّا في نمو الاقتصاد، بدأ مفهوم المخاطرة يتبلور بصفته عنصرًا أساسيًّا في تقدم المجتمعات الحديثة لاحتلال المستقبل، أي التخطيط له ودراسة كل الاحتمالات القادمة بما فيها المخاطر المهددة للزمن القادم، ونشأ معه مفهوم التأمين الذي هو في صلبه توزيع لهذه المخاطر وإدارتها.

 حيث يشير مفهوم المخاطرة في السياق الحديث إلى المخاطرة التي تقّدر الاحتمالات المستقبلية بشكل واعِ. ويشير إلى أحداث يمكن توقعها، كما يقول أولريش بيك، كمخاطر التدخين والمرور والبطالة والطاقة النووية والتغير المناخي والإرهاب. 

إنه التنبؤ بالكارثة وليس الكارثة ذاتها، أي أنه تهديد ينتظرنا ولذلك فهو -وهذه نقطة هامة- يتحكم بأفعالنا الحالية. يمكننا التفكير، على سبيل المثال، في العدد الكبير من الإجراءات التي اُتخِذت في كل مكان في العالم تفاديًا للأعمال الإرهابية، وبالتأكيد الاجراءات الاستباقية التي بادرت إليها كثير من دول العالم  لمواجهة جائحة فيروس كورونا.

المخاطر المصطنعة وخروج العالم عن السيطرة

بَلْور أولريش بيك (1944-2015)، وهو عالم اجتماع ألماني، مفهوم مجتمع المخاطرة (1986) لوصف المجتمع الحديث، ثم مجتمع المخاطرة العالمي (1999) لوصف عالمنا اليوم. ويصف بيك المجتمع الحديث منذ القرن التاسع عشر بمجتمع المخاطرة، لكون هذا المجتمع مضطر إلى الرد على المغامرات الناتجة عن كسب أو غزو أسواق تجارية جديدة والناتجة أيضًا عن تطوير تقنيات جديدة، أي على المخاطر التي اصطنعناها نتيجة سعينا للنمو والتوسع سواءً في التجارة أو العلم أو مناحي الحياة الأخرى.

وهذا ما يضع فرقًا آخر لهذه المجتمعات الحديثة باعتبار أن المخاطر التي تهددها فعلًا مخاطرُ مصنعة خرجت عن سيطرة البشرية وتوقعاتها، وليست تهديدات بكوارث طبيعية، حيث أصبح خروج الأخيرة عن السيطرة أقل بكثير. ومشكلة هذه المخاطر المصطنعة كالارتفاع الحراري والأوبئة والتسريبات الإشعاعية النووية أن لدينا تجربة تاريخية ضئيلة معها.

فريق طبي يفحص سكان جزر مارشال لدراسة آثار الإشعاعات الذرية التي أحدثتها الولايات المتحدة في أكبر اختبار نووي في قلعة برافو

وكما تشير هذه المخاطر إلى مخاطر جماعية تواجهها المجتمعات الحديثة، تشمل أيضًا مخاطر فردية في مجالات تُتَجَاوَز فيها القوانين والتقاليد الضاربة في العمق التاريخي إلى مسارات لمّ توفر بعد قواعد واضحة. فمثلًا يرتبط كثير من الناس في مناطق مختلفة من العالم في مؤسسة زواج تغيرت كثيرًا، وبأشكال من التعرف والارتباط حديثة وهشة تاريخيًّا، فهم يجهلون ما هم مقدمين عليه إلى حد ما وإلى أين سينتهي بهم. 

ولأن بعض المخاطر فردية، ولأن الخبراء يختلفون في تقدير حجم بعض المخاطر الجماعية، وطرق التعامل معها، والموازنة بينها وبين الفرص الكامنة خلفها، سيعود للأفراد اتخاذ القرارات حول الموازنة بين اختيارات مختلفة بأنفسهم، حيث إن مخاطر بعض التطورات العلمية وغير العلمية غير قابلة للقياس. 

سيعود لهم، على سبيل المثال، تقدير الحاجة إلى تناول الأغذية المعدلة وراثيًا في مقابل حجم الخطر، فتقنية الوراثة حديثة العهد ولا يمكن الجزم بعدم وجود عواقب سيئة على المدى البعيد. ومن ناحية أخرى، فإن بدائلها ليست خيارًا آمنًا أو ممكنًا، فلا الزراعة التقليدية تفي بحاجة العالم من الطعام اليوم، ولا الزراعة المكثفة التي تمارَس الآن يمكن التغاضي عن تدميرها للبيئة باستخدامها للمبيدات والأسمدة الكيميائية. 

بدائل ومخاطر مختلفة 

تشير حكاية الأغذية المعدلة وراثيًا إلى أمر هام هو ما يهمنا اليوم: نعيش في عالم لم تعد فيه الطبيعة على حالها، ولا نواجه الاختيار بين بدائل آمنة وخطرة، بل بين بدائل تنطوي على مخاطر مختلفة ، والأشد إشكالية هو «أنها بدائل مختلفة تنصب مخاطرها على أبعاد مختلفة نوعيًا، وتكاد تكون غير قابلة للقياس معياريًا» كما يوضح أولريش بيك. 

وقد واجهت دول مختلفة في سياق الرد على جائحة فيروس كورونا هذا الاختيار الصعب بين الإغلاق وتوقف حركة الاقتصاد، وفتح الأسواق مع مخاطر التفشي. وليس هناك أمامنا سوى عملية إدارة المخاطر، سواءً على المستوى الجماعي أو المستوى الفردي.

وفي خضم العولمة وضخامة حجم حركة البضائع والأفراد وتطور التقنيات والعلم، فإن المخاطر، أيًا كان حجمها، في مختلف المجالات تقبع في كل مكان. عالم كهذا لا يبقى على حاله، بل يصنع حالُه الراهن ومستقبلُه قرارات تجاه هذه البدائل، أي حسابات- كثيرًا ما تكون شائكة- للفوائد والمخاطر.

في عالم قوامه اللايقين في كثير من مناحي الحياة، تصبح فاعلية الشخص مرتبطة بالجرأة على الموازنة والإقدام بين خيارات تحمل كل منها مخاطرها. ويشير أولريش بيك إلى جملة تقال في ألمانيا بشيء من التلاعب: “أنا أجرؤ، إذن أنا موجود”، هذا هو عالمنا وليس أمامنا إلا القبول به كما هو.

الحداثةالرأسماليةالمجتمعكوروناالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية