المركزية الأوربية وصناعة الشرق الأوسط
قبل قرنين أطلق على المنطقة لفظ «الشرق الأوسط»، ليبنى بعدها على هذا اللفظ تقسيمات جغرافية ودراسات ومطامع سياسية واقتصادية
بعد نهاية حرب الخليج الأولى، ألقى الرئيس الأميركي جورج بوش الأب خطابًا في جلسة مشتركة للكونقرس محتفيًا بالانتصار في الشرق وبنجاح عملية عاصفة الصحراء، العملية التي تهدف -ظاهريًا على الأقل- لتحرير الكويت من الغزو الصدامي، ولوضع حد لتمادي الرئيس العراقي آنذاك.
لكن الخطاب وشى بوجود أهداف أخرى كذلك، فحسبما يقول بوش الأب، ما زال هناك العديد من التحديات التي لا بد من مجابهتها على الرغم من انتهاء عاصفة الصحراء. وتمثل أحد تلك التحديات في «احتضان نمو اقتصادي بغرض السلم والتقدم»، خصوصًا أن «الخليج الفارسي والشرق الأوسط […] منطقةٌ غنيةٌ بالموارد الطبيعية وثرية بالإمكانات البشرية غير المستغلة».
الشرق الأوسط والمصالح الأميركية
تترادف فكرتا الشرق الأوسط والمصالح الأميركية في العديد من الخطابات السياسية الرسمية، لدرجة أن الربط بينهما بات بالغ البداهة. وحينما ألقى بوش الأب هذا الخطاب عام 1991، كانت أصداء مفرداته ومفاهيمه والعلاقات التي يستحضرها في حديثه مألوفةً لدى الجميع؛ هناك شرقٌ أوسط، و هناك اهتمامٌ أميركي باستغلال إمكانيات هذا الشرق الأوسط في سبيل بناء عالم مزدهرٍ ومليء بالرخاء.
لكن الحقيقة أن هذا الربط بين المفهومين ليس بتلك البداهة، لا يوجد «شرق أوسط» مستقل عن المصالح الاستعمارية. بعبارةٍ أخرى، تبلور مفهوم الشرق الأوسط بحد ذاته في تفاعلٍ مع السياقات الاقتصادية-السياسية، وتأثرٍ من الصور الثقافية القائمة آنذاك عن المنطقة والمشرق بشكلٍ عام.
تركز هذه المقالة على أحد أبعاد هذا التبلور: صعود الدراسات الشرق أوسطية في الجامعات الأميركية. بعبارةٍ أخرى، تبحث هذه المقالة العلاقةَ بين تشكل الشرق الأوسط بصفته موضوعَ دراسةٍ أكاديمي، وعلاقة هذا التشكل بالسياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة في الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب الباردة.
وعطفًا على طول البحث وتشابك مواضيعه، سأقسم المقالة إلى جزأين، أتناول في الجزء الأول من المقالة بعض الإشكالات النظرية حول المفهوم المتخيل للشرق الأوسط وما يترتب عليها، كما أتطرق بشكلٍ سريع إلى السياقات التي نشأت فيها دراسات الشرق الأوسط بشكلٍ عام أوربيًا قُبيل نشوئها في الجامعات الأميركية. أما الجزء الثاني من المقالة فأفصّل فيه بشكلٍ أكبر حول نشوء وتطور الدراسات الشرق أوسطية أكاديميًا، وعلاقة تلك التطورات ببعض الأحداث السياسية.
نشأة الشرق الأوسط
حازت المنطقة أهميةً استراتيجية منذ القدم، سواءً عُدَّت مهبط الوحي لثلاثة أديان سماوية مختلفة أو حلقة وصلٍ في قلب العالم القديم، وكان الصراع فيها ومطامع الاستئثار بها قائمةً منذ أيام الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر. وفيما لا يصح ثبوت ماهيتها عبر التاريخ، من الضروري أن نضع بعين الاعتبار أنها لطالما كانت مسرحًا للأحداث بشكلٍ أو بآخر.
وفي خضم عصر التوسع الإمبريالي، اكتسبت المنطقة أهمية استراتيجية أكبر إثر افتتاح قناة السويس عام 1869. وضمن سياق هذه الأهمية الاستراتيجية، صكَّ الضابط البحري الأميركي ألفريد ثاير ماهان مصطلح “الشرق الأوسط”، وذلك في معرض حديثه عن ضرورة وجود قوات بحرية تؤمّن المصالح البريطانية في المنطقة المحدودة بإيران شرقًا ومصر غربًا وتركيا شمالًا. نشأ مفهوم الشرق الأوسط إذن من البداية بارتباطٍ بالمصالح السياسية.
ولم يكن صكّ التسمية وفعلُ إطلاق المصطلح بطبيعة الحال مجرديْن مما سبقهما من أطرٍ مفاهيمية استعمارية، بل هما جزآن من عملية هيمنة أكبر. ولا معنى لمصطلح «الشرق الأوسط» إلا بوجود نقطةٍ مرجعيةٍ تصبح المنطقة على إثرها شرقًا أوسط إن صح التعبير.
بعبارة أخرى، لا يوجد «شرق» جغرافي إلا بافتراض وجود نقطةٍ تشرعن تسمية اتجاهٍ ما بالشرق. وبما أن مصطلح الشرق الأوسط نشأ في كنف المصالح البريطانية في المنطقة، فمن السهل إدراك العلاقة بين المصطلح والمركزية الأوربية من جانب، والعلاقة بين المصطلح وعمليات الهيمنة من جانبٍ آخر.
مركزية أوربا
المركزية الأوربية متضمنة جوهريًا في مفهوم الشرق الأوسط، ولا شرق أوسط دون أوربا بصفتها نقطة مرجعية. ولا تنحصر مركزية أوربا على البعد الجغرافي (المكان) وحسب، بل تمتد لتشمل البعد التاريخي (الزمان) أيضًا. ففيما يتعلق بالبعد التاريخي، يعني تبنّي مقاربةٍ تحليلية أوربية المركز -بشكلٍ ضمني- قبولَ أوربا معيارًا لفهم الظواهر فيما سواها.
بعبارةٍ أخرى، تصبح التجربة التاريخية الأوربية والمفاهيم المنخرطة في تحليلها أدواتٍ تُقاس بها المجتمعات والظواهر حيثما كانت. ويرافق هذه المقاربة افتراض تاريخٍ خطي تقبع أوربا (أو الغرب بشكلٍ عام) في مطلعه، مما يعني أن بقية المجتمعات «متأخرة»، أو أنها قابعة في مرحلةٍ سابقةٍ للحضارة وأن عليها اللحاق بأوربا.
وتَبِعاتُ افتراض التاريخ الخطي هذا هي ما مكّن بوش الأب في 1991 من الحديث في خطابه عن «احتضان» الشرق الأوسط بغرض جعله مزدهرًا ومتقدمًا، أي بغرض إخضاعه للأدوات «الغربية» وإيصاله للمرحلة التاريخية المتقدمة المزعومة.
خريطة الشرق
تكتسب الإشكالات التاريخية درجة أكبر من التعقيد وقتما تُربَط بنظيرتها الجغرافية. أولًا، حدود الشرق الأوسط بحد ذاتها ليست واضحة المعالم، بل لطالما كانت مرنةً وعرضة للتوسيع أو التضييق أهوائيًا. ففيما أشار ماهان مطلع القرن العشرين إلى شرق أوسط محدود بإيران ومصر وتركيا بشكلٍ عام، ذهب بعض الباحثين في أواخر القرن نفسه إلى توسيع الشرق الأوسط ليغطي المنطقة الممتدة من «المغرب وموريتانيا إلى باكستان وأفغانستان، ومن تركيا [شمالًا] للسودان [جنوبًا]».
ويؤدي اتساع الرقعة بدوره إلى إمكانية بحث العلاقات الجندرية في المغرب واللامساواة الاقتصادية في إيران تحت مظلةٍ واحدةٍ تسمى الدراسات الشرق أوسطية، أي بافتراض درجةٍ من تجانس الظواهر الاجتماعية والعمليات التاريخية والظروف السياسية/الاقتصادية ضمن هذه الرقعة.
هذا الافتراض التجانسي مبنيٌّ هو الآخر على صورةٍ متخيلةٍ مغلوطةٍ للمنطقة وتركيبتها والقوى الفاعلة فيها. وثانيًا، أدى تمازج البعدين التاريخي والجغرافي إلى جعل الشرق الأوسط مبنيًّا على مفاهيم أوسع للشرق المقابل للغرب، بكل ما يحتمله هذا التمايز من اختلافات سياسية وثقافية واجتماعية وغيرها. هذا التمايز هو ما أشار إليه إدوارد سعيد في مقدمة كتابه «الاستشراق» حين قال:
أضف إلى ذلك أن الشرق قد ساعد في تحديد صورة أوروبا (أو الغرب) باعتباره الصورة المضادة، والفكرة والشخصية والخبرة المضادة. ومع ذلك فلا يعتبر أي جانب من جوانب هذا الشرق محض خيال، فالشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافة الأوروبية. والاستشراق يعبر عن هذا الجانب ويمثله ثقافيًّا، بل وفكريًّا، باعتبار الاستشراق أسلوبًا “للخطاب”، أي للتفكير والكلام، تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور، ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية
أتحفظ هنا على تدخل المترجم في النص وإضافته لجزئية «أي للتفكير والكلام» لتوضيح مصطلح الخطاب الذي استخدمه إدوارد (وهو التدخل الذي يختزل فكرة الخطاب ويسلبها تفشيها أصلًا)، لكن بقية العبارات تفي بالغرض وتوصل فكرة أن مصطلح الشرق الأوسط وُلد ضمن هذا النسيج المفاهيمي الاستشراقي.
قوى الاستعمار
على ضوء كل هذا، ليس من المستغرب أن تكون أولى محاولات دراسة المنطقة بشكلٍ منهجي مدفوعةً بالقوى الاستعمارية. هكذا مثلًا يمكن تفسير تشييد نابليون للمجمع العلمي المصري عام 1798 الذي يهدف إلى دراسة المشرقيين بغرض السيطرة عليهم بشكل أفضل.
وهكذا أيضًا يمكن فهم الطموحات البريطانية بالمنطقة حتى مطلع القرن العشرين. ففي عام 1909، نشرت اللجنة التي كان يرأسها اللورد ريي تقريرًا تدعو فيه لتنظيم الدراسات الشرقية بشكلٍ أفضل، لسد الفجوة المعرفية التي وجدت لندن نفسها فيها مقارنة بباريس وبرلين وسانت بطرسبرق.
ولأن علاقات بريطانيا حينها كانت أكبر مع الشرق كما يشير التقرير، استوجب تأهيل متقلدي المناصب الإدارية والاقتصادية هناك بشكلٍ أفضل للحفاظ على المصالح البريطانية. ويؤكد بلفور هذه الملاحظة أيضًا في خطابه بمجلس العموم البريطاني عام 1910 حين قال:
لسنا في مصر من أجل المصريين فقط، وإن كنا هناك من أجلهم، فنحن هناك أيضًا من أجل أوربا كلها
ويشير حوراني كذلك إلى أن تلك الفترة شهدت إبقاء التبادل والتفاعل الثقافيين بحد أدنى لأجل الإبقاء على الاستغلال الاستعماري.
يضعنا كل هذا قبال واقعٍ لا مناص منه: نشأ مصطلح «الشرق الأوسط» ضمن شبكة الخيالات الاستعمارية بالمنطقة، وقد حملت بذور تأسيسه صور أوربا والبنى الثقافية والمعرفية القائمة آنذاك. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن المصطلح مجرد توصيف جيو-سياسي بقدرِ ما كان من الأساس “آخر” وجدت فيه أوربا نفسها وعرّفتها على النقيض منه.
الهيمنة الأميركية والاستعمار
لذا حين تنامت الهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، كانت قد ورثت هذه الصور والخيالات التي صنعتها القوى الاستعمارية وبنت عليها في تعاملها من الظواهر والظروف الاقتصادية-الاجتماعية.
لم تحضر أميركا في المشهد الاستعماري بالمنطقة بشكلٍ حقيقي إلا عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد ذهب المؤرخ الأميركي ماثيو كيلي إلى أن دخول الولايات المتحدة الأميركية في الحرب بحد ذاته ناجمٌ عن إدراكها لأهمية الشرق الأوسط استراتيجيًا واقتصاديًا لها. بعبارةٍ أخرى، تقلدت أميركا مقاليد الهيمنة بعد بريطانيا وفرنسا، بذات الوقت الذي ورثت فيه الصور الثقافية التي شكّلتها القوى الاستعمارية بالمنطقة.
وهذا جليّ مثلًا في الأفلام الهوليوودية قبل الحرب العالمية الثانية التي أظهرت العرب بوصفهم حمقى و«كلابًا» و«قردة». وهذا جلي أيضًا على مستوى الأدب، كرواية الأميركي مارك توين «رحلة الحجاج إلى الأرض المقدسة» المنشورة عام 1911، حيث وصف الشرق أوسطيين بأنهم همجيون سيئو المظهر وكريهو الرائحة.
كانت جميع هذه السياقات وغيرها فاعلةً في تبلور الشرق الأوسط بصفته موضوع دراسةٍ أكاديمي بالجامعات الأميركية، وهو الموضوع الذي سيتطرق إليه الجزء الثاني من هذه المقالة.