هل النشر بعد وفاة المؤلف خيانة

ما الدَّاعي إلى نشر كتابٍ لم يُتح للمؤلف أن ينشرَه قيد حياته ولم يراجعه مراجعةً نهائيةً تؤهله لأن يندرج ضمن مشروعه الذي أراده متكاملًا؟ 

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو / Getty Images
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو / Getty Images

هل النشر بعد وفاة المؤلف خيانة

محمد آيت حنا

مجدَّدًا الحدثُ نفسُه، ودائمًا السؤال عينه. أما الحدث، فهو «العثور» على مخطوط لمؤلف بعد وفاته، وأما السؤال فهو هل يحقُّ لنا أن ننشر لمولفٍ عملًا لم ينشره قيد حياته؟

يتكرَّر الجدل في فرنسا، خلال السنوات القليلة الماضية، مع «العثور» على مخطوطات لمؤلّفَيْن عُرفا بإثارة الجدل طيلة حياتهما، وما زالا يثيرانه حتى بعد وفاتهما. الأول هو الروائي لوي فردينان سيلين، المغضوب عليه داخل دوائر النَّقد الفرنسي الرسمي، وإن كان يحظى بتقدير فئةٍ عريضة من القراء (وأنا واحدٌ منهم)، لدرجة أنَّ كثيرًا منهم يعتبره أعظم روائي في القرن العشرين. والثاني هو الفيلسوف ميشيل فوكو، صاحب البصمة الأبرز في الفلسفة الأوربية خلال القرن نفسه.

لا شك أنَّ الحالتين مختلفتان، فميشيل فوكو صاحبُ مشروعٍ فلسفي متكامل، سعى عبره إلى فحص مفهوم الحقيقة، عبر نقد التصورات الغربية للهوامش التي كانت حتى تلك اللحظة مغيَّبة من حقل التفكير الفلسفي (على غرار الجنس والجنون والسجن…). وقد طُرحت مسألة نشره بعد وفاته بسنواتٍ قليلة؛ إذ لم يُكتب له أن ينشر الجزء الرابع من نقده لمفهوم الجنسانية الغربية. ثمَّ ما لبثت دار «قاليمار» أن نشرت الجزءَ المذكور بعنوان «اعترافات البدَن»، وسط جدلٍ كبيرٍ بين جمهور الفلسفة: ما الدَّاعي إلى نشر كتابٍ لم يُتح للمؤلف أن ينشرَه قيد حياته ولم يراجعه مراجعةً نهائيةً تؤهله لأن يندرج ضمن مشروعه الذي أراده متكاملًا؟ 

هل كان الكتابُ قطعةً ناقصةً لا بدَّ لها من أن تنشر ليكتمل مشروع المؤلف؟ لا شيءَ يدعم هذا الطرح الذي انطلقت منه منشورات «قاليمار» في تبريرها لمدِّ حياةِ مؤلفٍ ينتمي صراحةً إلى التيَّار البنيويّ، ويؤمن بالتالي بموت المؤلف، خاصة وأنَّ الكتاب لم يحز لدى الدَّارسين الحظوة التي حازتها الأجزاء الثلاثة السابقة، ولا حتى عمَّق الإشكالات التي طرحتها الأعمال السابقة. 

إنَّ عملًا لم ينشره مؤلفٌ في حياته لا بد أن يشكِّل نغمةً نشازًا، أو على الأقل مختلفةً، قياسًا إلى الأعمال التي نشرها في حياته، خاصة وأنَّ «وجهًا جديدًا» يطلُّ دائمًا في الحكاية، وجهًا تعهد إليه الدار بالإشراف على النشر. Click To Tweet

بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة الفضفاضة من تنقيحٍ وتشذيبٍ وشطبٍ وتغيير وإعادة بناء. واليوم تطلُّ علينا منشورات «سُوي» بكتابٍ جديد لميشيل فوكو، كتابٍ أعيد بناؤه انطلاقًا من مخطوطاتٍ تركها الفيلسوف الفرنسي وجُمِّعت تحت سؤال جذابٍ: «ما الفلسفة؟» كيف يجيب فوكو السؤال الأصعب؟

نُشر كتاب فوكو في خضم جدلٍ آخر مماثلٍ، كان بطله هذه المرة سيلين، واتَّخذ أبعادًا أعظم وأخطر تتعلَّق بحقوق المؤلف. لقد خلَّف سيلين جملة من المخطوطات التي كان خبرها يُتداول بين المهتمين، كأسطورةٍ يؤمنون بها، دون أن يكون لديهم دليلٌ ماديٌّ على وجودها. ثمَّ تشاءُ الظروف أن يظهر في الحكاية شخصٌ احتفظَ بحقيبةٍ لسيلين تضمُّ أعمالًا غير منشورةٍ، ويظهر أنَّها «كاملة» و«جاهزة للنَّشر»، فتبدأ معركةٌ قضائية بين الناشر وذوي الحقوق.

قد لا يكون هذا الجانب هو الأهم في مسألة نشر سيلين أو فوكو، فهو قطعًا ليس في قيمةِ سؤال الحقيقة ومطابقةِ المنشورِ لما خلَّفه المؤلِّف وضمان عدم العبث به من طرف الدَّار أو المشرف على النَّشر، وسؤال تعدّي ذاتية المؤلف إلى ذاتياتٍ أخرى تقرِّرُ بدلًا منه، وهي معضلة كان كونديرا قد عبَّر عنها فيما يخصُّ إقدام ماكس برود على نشر أعمال كافكا ضد إرادته بعبارة: «ما أسهل عصيانَ الأموات»!

لكن الجانب الذي طرقناه لا يخلو من أهمية؛ إذ يوقفنا على بُعدٍ مهمٍّ يتجلَّى في عملية «إحياء الموتى» وما تتطلّبُه من أضواء. فالرَّاجح أنَّ الأمر لا يتعلَّق أساسًا بكتاب «الخطاب الفلسفي» أو رواية «حرب» بقدر ما يتعلَّق بميشيل فوكو ولوي فردينان سيلين؛ إذ إنَّ النقاش العام كلُّه سار في اتِّجاه «تبئير الاسمين» وتسويق الكتب «المكتشفة» كان يحتاج إلى جعلها كتبَ أحياء لا أموات، أي بخلق جدلٍ يجد فيه الموتى أنفسهم في مقارعة الأحياء. حتّى إنَّ كثيرًا من الكتابات الصحفية لم تتحرَّج في استعمال عبارات «عودة» أو «إعادة إحياء». 

يكشف هذا الجانب إذن عن حاجة سوق النشر الدائمة إلى خلق نوعٍ من الفُرجة ونسجِ ضربٍ من الحكاية لا يحيا الجدل من دونهما، وفي غياب الجدل لا صوتَ للموتى. ولنا أن نذكر هنا الجدل الذي ألفى فيه محمود درويش نفسه، بعد وفاته، حين أقدم ناشره على نشر ديوانٍ «أخير» يصرِّح فيه الميت بأنَّه «لا يريد لهذه القصيدة أن تنتهي»!


  1. شهد التاسع من سبتمبر الجاري حفلة ختام الدورة الثالثة من مبادرة الجوائز الثقافية الوطنية التي تنظمها وزارة الثقافة السعودية، وقد فاز أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري بشخصية العام الثقافية، وفازت مها الفالح بجائزة الترجمة، ومحمد يعقوب بجائزة الأدب، و«دار أدب» بجائزة النشر.

  2. أعلنت المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) في الرابع عشر من سبتمبر الجاري قائمة التسعة لأفضل الأعمال المشاركة في جائزة «كتارا» للرواية العربية في نسختها التاسعة: من مصر أشرف العشماوي عن رواية «الجمعية السرية للمواطنين»، ورشا عدلي عن «أنت تشرق أنت تضيء»، ومحمد موافي عن «آيات عاشق»، ومن لبنان غيداء طالب عن «قلب الغريبة»، وهدى عيد عن «حبيبتي مريم»، ومن الكويت تسنيم الحبيب عن «السقوط من جنة الأسماء»، ومن فلسطين خليل نصيف عن «دومينو»، ومن سلطنة عمان محمد اليحيائي عن «الحرب»، ومن سوريا لميس الزين عن «الفناء الخلفي».

  3. صدرت حديثًا عن منشورات تكوين سلسلة الكتابة عن الكتابة، وتضمنت «مهنة الكتابة: ما تمنيت معرفته في بداياتي» مختارات من راضي النماصي وترجمته. و«استكشافًا لفن الرواية» للكاتب الصيني يان ليانكه بترجمة منال الندابي، و«مسرات القراءة ومخاض الكتابة» لعبدالجبار الرفاعي.

  4. توفي الإثنين السابع عشر من سبتمبر الجاري في القاهرة «شيخ المترجمين» شوقي جلال، واحد من أبرز المترجمين والمفكرين المصريين ورواد الترجمة في العالم العربي. ترجم الراحل وألَّف نحو ثمانين كتابًا في مجالات المعرفة المتنوعة.


من أحمد طابعجي:

  1. المتمردون، علي حسين

    قراءة هذا الكتاب تجعلك تمسك بالقلم تدوِّن أسماء الكتب التي أحبَّها وعاش معها المكتبي علي حسين؛ فالكتاب إبحار في أمواج ذاكرته القرائية وغوص في أحداثٍ وشخصيات أنتجت لنا آدابًا وفنونًا.

  2. معايشة النمرة، جبرا إبراهيم جبرا

    سيرة ثقافية ماتعة تشبه شعور كاتبها تجاه فعل القراءة ولذة الكتابة؛ فهو يرى أن القراءة نافذة لطاقات الحياة تفتح الطريق للكتابة كفعل شاق ونقد لإبداع مستمر وترجمة لثقافات متتابعة.

  3. مصير صرصار، توفيق الحكيم

    في قالب مسرحي ساخر يُقدم توفيق الحكيم رؤية فلسفية في معاني الإصرار والأمل المتمثلة في حياة صرصار يحاول الخروج من «البانيو» أمام ناظري الإنسان الذي يترك كل انشغالاته ليتأمل هذه المقاومة، في مشاهد مسرحية بين عالمي الحشرات والبشر.

  4. الروائي الساذج والحساس، أورهان باموق

    هذه نقطة التقاء الكاتب بالقارئ من خلال النص الروائي. ينبثق هذا العمل الأدبي الذي ينتقل من السذاجة في قراءة الرواية دون الإحساس بجوانبها الفنية والتخييلية إلى التفاعل بواقعية الرواية وشخصياتها، ليعيشها القارئ وكأنه جزء منها، حتى يُعيد فهمه لكيفية القراءة.  

الكتبالنشر
نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.