أشد ما يرعبني بصفتي قارئة، على رغم حرصي المستمر على مشاركة قراءاتي والحديث عنها ومحاولة تقريب الكتب إلى القراء، هو الأسئلة التي تتزايد مع اقتراب مواعيد معارض الكتب: هل توصينا بكتب؟ ما الكتب التي أثَّرت في حياتك؟ هل لديك قائمة بأفضل قراءاتك؟ وغيرها من الأسئلة المربكة التي نتوق إلى الإجابة عنها؛ لأنها تلمس ما نحبه ونود أن نشرك فيه من يشغله الشغف نفسه. لكن التوصيات، مهما حرصنا أن تكون صادقة، تتنازعها إكراهات عدة، فكيف يمكنني أن أقدِّم توصية لا أندم عليها لاحقًا؟
لا أستطيع أن أنكر دور التوصيات في حياتي. أتذكَّر في صغري، في اللحظة التي بدأت أعي فيها القراءة بوصفها فعلًا معرفيًّا يدفعنا نحو المضي قدمًا وعدم الاكتفاء بمنطقة راحة نركن فيها إلى نمط قراءة واحد، أني واجهت مشكلة «المرشد»، أي الشخص الذي يستطيع توجيهي نحو الكتب التي علي اقتناؤها ثم قراءتها.
لم أجد هذا المرشد في بيتنا لانشغالات والدي البعيدة عن المكتبات على رغم كونه قارئًا نهمًا، ولكنني وجدته -وأنا ابنة العاشرة- في شخص مكتبيّ صادفت حانوته الصغير في المدينة القديمة. كان الغرض من دخول المكتبة بمعية والدتي اقتناء أدوات مدرسية، لكن هذا الرجل الخمسيني ذا الأصابع الست لم يفته اهتمامي بالكتب وأغلفتها ومدى سعادتي بتفحصها وقلقي وأنا أحسب الدريهمات القليلة التي أحملها بحرص في كفّي، وبحرص بالغ قدَّم إليَّ التوصيات القرائية الأولى التي ما زلت أشكره عليها كلما تذكَّرته هو وإصبعه السادسة.
تجربتي المبكرة مع مرشدي منحتني المفاتيح الأولى للأبواب لأفتحها بنفسي، ومن ثَم بدأت أشكّل بصبر وثقة طرائقي الخاصة في بلوغ الكتب وإدراك مدى قابليتي فهمها واستيعابها تبعًا لتطوري ونموي المعرفي، أو ما يمكنني تسميته تجوُّزًا بالذائقة.
تتصف الذائقة بذاتيتها التي تشكِّل نمطًا للاختيارات يناسب وعي القارئ وتطوره؛ فهي مرتبطة بإدراك الفرد وتعامله مع الكتب، وتتسع هذه الذائقة أو تضيق بمدى انفتاحه على دوائر تشبهه وأخرى تختلف عنه. ومتى قدمنا توصيات فنحن نواجه خيارين لا مفر منهما: تقبّل ذائقة الآخر لهذه التوصيات أو رفضها، وهذا يتطلَّب منا جهدًا استثنائيًّا لفهم ذائقة السائل واختيار ما يناسبه. قد يوجَّه السؤال إلى قارئ لا يأبه لاحتياجات السائل ويقدِّم توصيات دون اكتراث بردود الفعل.
وقد نتأثر بالوعي الجمعي السائد المتأثر بدوره بالدعاية المضللة والكتب الأكثر مبيعًا أو بشهرة الكتّاب القادمين من «يوتيوب» وغيره من الوسائط التي «دغدغت» العواطف والعقول. أتذكَّر أنه تكرر على سمعي، في معرض الكتاب الدولي بالرباط في دورته السابقة، اسم كاتب يُطلب بإلحاح لدى كل الدور دون استثناء، ورأيت الإحباط وخيبة الأمل في عيون البائعين وهم يجيبون عن السؤال بالنفي. اكتشفت حينها أن عالم القراء ليس واحدًا بل هو عوالم متوازية وكل عالم له اختياراته ورغباته وانشغالاته؛ فهذا الاسم الذي أجهله كان مشهورًا عند غيري من القراء.
اختلاف هذه العوالم يدفعني إلى التفكير مليًّا في فكرة التوصيات ودوافع منحها وعواقب ذلك. قد يقع القارئ في مأزق؛ فهذه التوصيات قد تكون واجهة تعكس مدى خبرته وجودة قراءاته وبشكل ما تعكس أيضًا مكانته بين القراء؛ وهذا ما يدفع بعض القراء إلى تقديمها دون أن يُطلب منهم ذلك، والأدهى أن ينصحوا بكتب لم يقرؤوها.
فقد:
أصبح تقديم التوصية عرفًا يشكِّل ذاتية القارئ ويساعد على انتشار اسمه عبر مواقع التواصل؛ وهذا يؤدي أحيانًا إلى إغفال جودة التوصية، أو عدم التنبُّه على تنكِّر الدعاية في زي التوصية الشخصية، أو نشر قوائم توصيات هدفها الخوارزميات لا القراء. Click To Tweetعلى شاكلة قوائم «كتب عليك أن تقرأها بسرعة قبل أن تموت» أو «كتب تُقرأ قبل الثلاثين» التي لا تساعد القارئ على اختيار ما يناسبه بقدر ما تذكِّره بالموت وضيق الوقت، وتشعره بأن أصحاب هذه القوائم لا يهتمون باحتضاره وضغوطات حياته.
مدركةً لمدى صعوبة المأزق الذي يقع فيه القارئ، حاولت أن أضع لنفسي خريطة طريق تجمع بين شغفي وحبِّي لكتبٍ بعينها وأهميتها وجودتها لغيري من القراء؛ فليس كل ما نقرؤه صالحًا بالضرورة للمشاركة. قد نجد في بعض المكتبات رفوفًا سريّة لقراءات نخفيها عن الأعين؛ لأنها لا تناسب الذائقة العامة أو نعتقد بأنها قراءات ساذجة نحبها لاعتبارات شخصية. لا أدري أتملكون رفًا مماثلًا؟ لكن مكتبتي تخفي بعض الرفوف المشابهة.
لقد منحتني خريطة الطريق هذه قواعد أتبناها قبل أي توصية: أن أعي جيدًا التطورات في عالم القراءة، وأن أراعي المقام الذي طُلب مني فيه تقديم التوصية، وأن آخذ في الحسبان ميول السائل (أو الجمهور) الذي سيطلع على التوصية والأجناس التي يريدها ومدى انفتاحه على الأجناس الأخرى، وأن أتعرَّف إلى تاريخه في القراءة بسؤاله عن قراءاته السابقة إن استطعت، أو أخمِّن ذلك.
كلُّ هذه الاعتبارات مهمّة؛ فنحن لا نستطيع مثلًا أن نوصي بكتب فلسفية قارئًا لم يتعرف إلى أساسيات الفلسفة، أو أن نوصي بقراءة «الحرب والسلام» قارئًا لا يستطيع تجاوز مئتي صفحة؛ فجوهر التوصيات، في نظري، أن تشجع على القراءة لا أن تنفِّر منها. وفي الوقت نفسه أن تحث الآخر على المضي قدمًا في تطوير مهاراته وإحساسه بالمغامرة. قد تبدو المهمة مستحيلة، لكن مع الوقت تتطوّر لدينا ملكة الاحتكاك المستمر مع القراء من كل الفئات. وهذا لا يعني أننا لا نخطئ، بل على العكس تمامًا نرتكب أخطاء كثيرة وتعود علينا التوصيات بلغط وانتقادات ويرجع إلينا بعض القراء غاضبين ومنفعلين، لكننا في النهاية لا نبحث عن قراء يشبهوننا، بل قراء يبادلوننا التوصيات بقراءاتهم المختلفة.
لن أتطرف متبنيةً رأي فرجينيا وولف التي جزمت بأن «النصيحة الوحيدة التي يمكن أن يسديها شخص لآخر هي: إياك أن تأخذ بنصيحة أحد!»، ولن أنكر دور قوائم الكتب الحكيمة المدروسة بعناية وأهميتها. لكن مع شيوع بعض الممارسات التي تسعى إلى الربح لا الفائدة ينبغي أن نكون حذرين يقظين لأي محاولة استغلال، وأن نثق بالقارئ الذي ما فتئ يبهرنا بقراءاته وجودة توصياته.
ولعلنا نتعثر بالصدفة على توصيات رائعة غير مباشرة من قراء لا يسعون إلى الظهور عبر حساباتهم التي لا تزيد على مئات المتابعين، أو نصادفها في كتب يتحدث أصحابها عن كتب أخرى أسست معرفتهم وأغنت حياتهم، وقد نجدها في وسائط أخرى كالأفلام والحوارات. فكتاب «سنة التفكير السحري» لجون ديديون -وهو ضمن قائمة الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتي- صادفته في حوار أجراه مقدم البرنامج الشيق «المكتبة الكبيرة» مع الممثلة والقارئة المميزة فاني أردون.
فتذكَّر إذن وأنت مقبل على معارض الكتب حاملًا في يدك قائمة توصيات أنه لا يوجد شيء سحري في القائمة، ومهما بدت مثالية فلعلك تخضعها للبحث والتقصي قبل أن تعتمدها، لا سيما في مرحلة يغلب عليها نشاط الدعاية والتسويق وغلاء الأسعار؛ فتلك القائمة الآن لها ذرائع اقتصادية، إضافةً إلى غاياتها المعرفيَّة!