كنتُ في تهامة حين اندلعت الأحداث في فرنسا بسبب مقتل المراهق نائل على يد رجال حفظ القانون الفرنسي؛ لأنه ارتكب مخالفة مرورية ولم يتوقف حين طُلب منه ذلك. ولا أعلم على وجه اليقين ما الذي كان سيتغير لو أني لم أكن في تهامة في تلك اللحظات، لكني أردت فقط أن أخبركم أني مارست السياحة في هذا الصيف كما يفعل بقية الناس.
ومن الواضح أن شيئًا ما يسير بطريقة غير صحيحة في فرنسا. ولذلك فإن من أوجب ما يجب على الخبراء أمثالي أن يمدوا يد العون ويقدموا المساعدة للحكومة وللشعب الفرنسي لتجاوز هذه المسألة التي قد تعصف بطمأنينة الفرنسيين.
في البداية من البديهيات في مثل هذه المواقف أن تبدأ الحكومة الفرنسية تطبيق الإجراءات التي أثبتت فعاليتها في أكثر من مكان ولا مبرر لأن تعيد اختراع العجلة، فعلى سبيل المثال، وقبل البدء في قصف المتظاهرين بالبراميل المتفجرة، يجب أن يركز الإعلام الفرنسي في وجود مؤامرة كونية ضدهم، ولا بأس من بث بعض لقاءات مع شهود عيان يقولون إنهم رأوا بأنفسهم كائنات فضائية توزع الجبن على المتظاهرين في الشانزليزيه.
ولا شك أن الفرنسيين سيسمعون الكثير من التنظيرات التي تتعاطف مع مثيري الشغب، فهناك من سيقول إنه يستحيل أن يكون هذا العنف نتيجة مقتل مراهق، وإن هذا الفعل ليس سوى القشة التي قصمت ظهر «الديك».
وسيعزون ذلك إلى أنه خاتمة منطقية لسنوات من التهميش والعنصرية ضد فئة يعدّون من أبناء فرنسا حسب قوانين الدولة الفرنسية نفسها التي انتزعت أجدادهم من بلدانهم في شتى أصقاع المعمورة وأتت بهم إلى فرنسا، وربما سيستشهدون بكلامي حين قلت يومًا إن أخطر كائن حي على الإطلاق هو الإنسان الذي لم يعد لديه شيء يخسره أو يدافع عنه. فهؤلاء فرنسيون حين يصنعون إنجازًا ومهاجرون حين يُخفقون. ولم يكونوا يومًا بشرًا عاديين في وطن عادي منذ وطئت أقدام أجدادهم التراب الفرنسي.
المنتخب الفرنسي على سبيل المثال -وهو منتخب أبناء المهاجرين حرفيًّا- منتخب فرنسي قح حين يفوز، وفريق أفسده المهاجرون حين يخسر.

وربما ستسمع فرنسا محاضرات عن حرية التعبير وحقوق الإنسان من بعض دول العالم الثالث التي تحب أن تحشر أنفها في كل مكان في العالم. وبخاصة دول العالم الثالث التي كانت لديها مستعمرات في كل أنحاء العالم مارست فيها الكثير من التشريد والقتل والتهجير وطمس ثقافة وهوية الأوطان التي استعمرتها، واستعبدت شعوب تلك البلدان وجعلت أعزة أهلها أذلة. بل لا أستبعد أن تسمع فرنسا كثيرًا من التنظير عن حقوق الإنسان من دول لديها متاحف لجماجم الذين قاوموا الاستعمار. وستجد أن كثيرًا من هذه الدول تستضيف محركي التظاهرات وتفتح لهم قنواتها الإعلامية وتمارس التحريض المباشر وغير المباشر على إفساد كل ما يمكن إفساده.
وهنا يجب أن أطمئن الفرنسيين بأن الأحاديث عن حقوق الإنسان والحريات أدوية تصلح للاستخدام الخارجي فقط، ولا يمكن تناولها بطريقة أخرى. فكل دول العالم الثالث المتخلفة التي أزعجت العالم بالحديث عن الحقوق والحريات تبتلع كل تلك التنظيرات حين يمسها الأمر بشكل مباشر؛ لأن ذلك حين يحدث فإنهم لا يجدون حرجًا في كل ما نهوا الآخرين عن فعله، فالحرية صنم تعبده تلك البلدان في أوقات السعة وتأكله حين تجوع إلى الأمن.
عليهم أن يتجاهلوا كل هذا وأن يقفزوا إلى النتيجة مباشرة، فالحديث عن الأسباب رجعية لا تليق بالدول المتحضرة. هؤلاء المتظاهرون المخربون مجرمون لأنهم مهاجرون. لا أسباب تدفعهم ليكونوا كذلك سوى انتمائهم العرقي والديني. يجب أن تؤمن الحكومة الفرنسية بهذا دون تحرّج من «كلام الناس» عن العنصرية، فكلام الناس كما نعرف جميعًا «لا بيئدم ولا بيأخّر».
ولعل الأصول العربية والإسلامية لأغلب هؤلاء المخربين تساعد كثيرًا في تصنيفهم كإرهابيين، وهذا من حسن حظ فرنسا، لأن من الصعب أن يُعتمد تصنيف مثل هذا لو أن أغلبية المهاجرين من دول غير مسلمة، ولو فجروا قنابل نووية في قلب باريس.
في مثل هذه الأحداث يجب أن تتعلم فرنسا من تجارب غيرها، فليس هذا وقت التجارب الجديدة، هي أمام خيارين: إما أن تعيش الحكومة وإما أن يعيش الشعب، وقد أثبتت التجارب أن التضحية بالشعب هي الخيار الأمثل والصحي والأكثر فائدة للحياة. فالناس كثيرون ويمكن أن يأتي غيرهم، أما الحكومات فيجب أن تبقى. الحكومة يمكن أن تأتي بشعب من إفريقيا أو آسيا وتبدأ من جديد، أما الشعب فلا يستطيع فعل ذلك.