«كُنْ مثل جوردان»، بتلك العبارة انتهت أحداث فلم «آير» (Air) أو «قفزة إلى العظمة»، ولكن بعد نهاية الفلم مباشرة وجدتني أتساءل، ما معنى تلك العبارة، ما معنى أن أكون مثل جوردان ولماذا؟
بحثًا عن إجابة هذا التساؤل عاودت مشاهدة الفلم أكثر من مرة حتى وجدت ما اعتقدت أنه الإجابة، على الأقل من وجهة نظري، وكانت جملة من الحوار الذي وجهه ساني فاكارو للاعب كرة السلة الصاعد آنذاك مايكل جوردان لإقناعه بالتوقيع مع شركة «نايكي» ورفض عروض الرعاية الأخرى المُقدمة له من أكبر شركات الأحذية الرياضية في العالم في ذلك الوقت، «كـونفيرس» و«أديداس»، وذلك عندما قال له «قصتك ستجعلنا نطير».
والطيران هنا ليس بمعناه الحرفي، بل بما يشير إليه معنويًا، هو شيء أقرب إلى إطلاق الإنسان العِنان لآماله وطموحاته والتحليق بها وصولًا إلى السماء، بالضبط كما فعل جوردان أحد أهم الأساطير الرياضية في العالم على مر العصور.
تحدى قانون الجاذبية
لم يتحد جوردان قوانين الجاذبية الأرضية بقفزاته الشهيرة في أثناء لعبه كرة السلة فقط، بل تحدى أيضًا عددًا من الأعراف الاجتماعية والرياضية المُجحفة التي سادت تلك الفترة، بل إنه استطاع تغييرها من خلال واحدة من أشهر الصفقات الرياضية في القرن العشرين، صفقته مع شركة «نايكي» عام 1984 التي تدور حول تفاصيلها أحداث فلم «آير» (Air) الذي ألّفه أليكس كونفيري، وأدى بطولته مات ديمون، حيث قدّم شخصية ساني فاكارو كشاف مواهب قسم كرة السلة بشركة «نايكي»، الرجل الثاقب الرؤية النافذ البصيرة الذي أصر على التوقيع مع جوردان بكامل ميزانية القسم، وإن استدعى ذلك الاكتفاء به وعدم التوقيع مع لاعبين آخرين. وفيولا ديفيس التي جسدت دولوريس والدة جوردان التي كان لها الفضل الأكبر في إتمام الصفقة، وأخرج الفلم بن أفليك في تجربته الإخراجية الخامسة، كما قدم أيضًا شخصية فيليب نايت مؤسس شركة «نايكي» ورئيسها في تلك الفترة.
المبادئ العشرة لشركة «نايكي»
يبدو للوهلة الأولى أن فلم «آير» (Air) هو دراما رياضية تحفيزية ملهمة مأخوذ من قصة حقيقية لرياضي استثنائي حقق إنجازات استثنائية في عالم لعبة كرة السلة، ولكن اعتقادي أنه ليس كذلك فحسب، فلا يستمد الفلم قيمته من مجرد سرده تفاصيل تلك القصة المعروفة بقدر ما يستمدها من المعاني والقيم التي يبرزها ويؤكدها ضمنيًا على مدار أحداثه، والتي يتمثل بعضها في المبادئ العشرة التي أُسّست عليها شركة «نايكي»، واختار أفليك أن يعرضها مكتوبة على الشاشة واحدًا تلو الآخر، وفقًا لتطور القصة وتصاعد أحداثها.
وكان أهم تلك القيم ضرورة إيمان الإنسان بذاته وثقته بنفسه وقدراته، القيمة التي كانت مفتاح تفرد جوردان واختلافه، فلولا ذلك الإيمان لما أصبح قادرًا على تخطي إقصائه من فريق كرة السلة بمدرسته الثانوية بحجة أن تكوينه الجسدي غير ملائم وأن طوله غير كافٍ. لو توقف جوردان عند هذه الكلمات واستسلم لها لما أصبح أسطورة اللعبة فيما بعد، ولكن لأنه يعرف نفسه جيدًا ويؤمن بقدراته إيمانًا قويًا ثابر وظل يطارد حلمه حتى أصبح أهم لاعب في فريق جامعته «نورث كارولينا» تحت قيادة المدرب دين سميث الذي اعتمد عليه بشكل أساسي في الفريق، بل إنه كان يبني عليه خطط المباريات.
على صعيدٍ آخر، لو لم يتحل ساني فاكارو بالصفة نفسها ولو لم يكن بداخله الإيمان نفسه بقدراته لما استطاع إتمام الصفقة التي خاطر عليها بوظيفته ومستقبله المهني، بل إنه راهن بها على استمرار قسم كرة السلة بشركة «نايكي» الذي كان سيُغلق إلى الأبد إن أخفق في إقناع جوردان بالتوقيع مع «نايكي» وتفضيلها على الشركتين العظميين في هذا المجال في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي بدا للجميع مستحيلًا.
الصفقة كانت أكبر مخاطرة!
تحيط المخاطرة بكامل تفاصيل قصة الصفقة الرياضية التاريخية، فاقتراح ساني فاكارو التوقيع مع جوردان بكامل ميزانية قسم كرة السلة بـ«نايكي» كان مخاطرة خالصة ولو بدت قائمة على دراسة جيدة لإحصائيات اللاعب وبياناته ومتابعة دؤوبة لتطور مستوى أدائه.
ثم قبول فيل نايت رئيس نايكي اقتراح فاكارو، بل إن قبوله شرط دلوريس والدة جوردان لإتمام الصفقة كان أكبر مخاطرة، إذ اشترطت حصول ابنها على عائد من مبيعات الحذاء الذي يحمل اسمه في سابقة في عالم عقود رعاية الرياضيين، بخاصة أصحاب البشرة السمراء الذين كانوا يتعرضون لمختلف أنواع التعصب والعنصرية والتهميش في تلك الفترة، الشرط الذي كان في حد ذاته مخاطرة منها بمستقبل ابنها الذي كان في بداية مشواره الرياضي، حتى إنه كان لا يزال يُوصف من الجميع باللاعب المبتدئ، فلو رفضت «نايكي» شرطها لكان عليها العودة بالمفاوضات إلى المربع صفر والبدء من جديد مع شركتي «أديداس» و«كونفيرس»، ولو حدث ذلك لاستغلّتا فرصة إخفاق تفاوضها مع «نايكي» لفرض شروطهما أو تقليل ميزانية التعاقد.
كما أن عدم تحلي الشركتين المنافستين بقدرِ ولو يسير من روح المخاطرة كان من أكبر العوامل التي أسهمت في إتمام الصفقة، إذ فضلت الشركتان البقاء في المنطقة الآمنة والاحتفاظ بنجومهما الذائعي الصيت آنذاك على المخاطرة بإنتاج حذاء يحمل اسم لاعب مبتدئ، فكان ذلك الخيار الآمن هو السبب الرئيس في تكبدهما خسائر فادحة ذهبت أرباحًا هائلة لمصلحة «نايكي»، وما زالت تجنيها حتى الآن.
أخيرًا، يعد «آير» (Air) عودة موفقة لأفليك مخرجًا، إذ استطاع إخراج فلمً ممتع يستحق المشاهدة بعدد من الخيارات الفنية التي جاءت في مصلحة الحكاية ولو كانت صادمة، ومنها اختياره ألّا يرينا مايكل جوردان، نعم، القصة قصة جوردان ولكننا لا نراه بشكل صريح طوال أحداث الفلم، وهو الخيار الفني الذي يعكس فلسفة أفليك في إخراجه، إذ قرر تنقية الفلم من أي حواش زائدة قد تؤثر في تلقي المشاهد القصة الأساسية وتفاعله مع أحداثها، فلو جُسّدت شخصية جوردان لانصبّ اهتمام المشاهد كليًّا على تقويم مدى كفاءة وقدرة الممثل الذي يجسّد تلك الأسطورة الحية التي شاهدها وارتبط بها الملايين حول العالم، وهو ما أعتقد أنه كان سيؤثر سلبًا في الفلم واستقبال المشاهدين له.