يتجاوز المهاجم آخر مدافع، فأقفز من مكاني وقد ارتسمت على وجهي علامات سعادة بلهاء، وأصرخ مخاطبًا المهاجم بعبارات الرجاء كلها، متوسلًا إليه أن يضع الكرة بين الخشبات الثلاث، أو أقفز من مكاني مستاءً وقد تجلى الغضب على قسمات وجهي البريء، وأصرخ شاتمًا المدافع، واضعًا كل آمالي في حارس المرمى، متوسلًا إليه أن ينقذ ما أفسده المدافعون.
وأنت مثلي تمارس هذه الأفعال البلهاء، قد تفعلها وحدك، أو بمشاركة آخرين، فيجلس جانبك صديق يصرخ في اتجاه معاكس لصرخاتك، وكلاكما يرى أن الحياة والوجود والآمال والأحلام على المحك.
نفعل ذلك مؤمنين أننا ندافع عن «حقنا» في الانتصار، وأن ولاءنا يحتّم علينا أن نكون مخلصين في الدفاع عن ألوان «فريقنا» الذي لو خاض بنا البحر لخضناه.
والحقيقة أيها الزملاء في عالم الولاء العبيط، إن كرة القدم، والفن بأشكاله وصوره كلها هي وسائل «ترفيه»، وحين يخسر الفريق الذي تخصه «بالعهد والعشق والانتماء، وتمضي خلفه صباح مساء» -كما تقول إحدى الأهازيج- فإنك لم تكن سببًا في الخسارة، ولم تكن تحتاج إلى عمل أي شيء أو بذل أي جهد حتى تتفاداها، وحين ينتصر فإنك خارج معادلة ذلك الانتصار، أنت أيها المنتمي لست أكثر من صفر كبير في معادلة الانتصارات والهزائم. وللإمعان في «استبلاهك» فإن المستفيدين من كل هذا يغذّون فيك فكرةً حمقاء، وهي أنك الركن الأهم واللاعب رقم واحد، وأنت تصدق مختارًا أنك شيء له قيمة في تلك المعادلة.
وقد رُوي عن سند غير ثقة: أن أعرابيًا رأى رجلًا ببغداد يغني على مسطبة فقال: يلوي شدقيه وينفخ منخريه ويصرخ كأن به نازلة وما به من شيء؟! والله لا يفعل هذا رجل عاقل.
ولا أعلم ماذا سيقول ذلك الأعرابي إن رآني أرقص فرحًا، وأركل كل ما حولي ابتهاجًا لأن رجلًا من الفرنجة على بعد آلاف الكيلومترات ركل شيئًا خلف رجل آخر!

وماذا لو سمع خفاقات قلبي وأنا أدعو بالنصر المبين لأصحاب القمصان الصفراء على أصحاب القمصان الزرقاء، وهم يركضون خلف بعضهم يطاردون شيئًا يمكن الحصول عليه بسهولة من مكان آخر دون هذا العناء!
وأرجو ألا يساء فهمي -مع أنه لا مشكلة لدي في ذلك- فأنا من الذين يرون أن الترفيه بأشكاله وصوره كلها ضرورة بشرية، والبحث عن المتعة والجمال من الأمور التي تساعد الإنسان في رحلة الكفاح من أجل البقاء.
لكن فكرة إخراج الترفيه من دائرة الترفيه والمتعة إلى دائرة «أنا كالقيامة ذات يوم آت» بعد كل فوز أو خسارة، تبدو لي فكرة ممعِنة في الحمق.
وكرة القدم على سبيل المثال ممتعة إن لعبتها أو استمتعت بمشاهدة مباريتها، ومن الطبيعي أن تشعر بالانحياز -بعد فترة من المتابعة- إلى فريق بعينه، وتتمنى أن يفوز. والمتعة والترفيه الحقيقيان يكونان أثناء المباراة فقط، أما ما يحدث بعدها، من الصراخ والبرامج والاستديوهات فذلك عبط زائد عن الحاجة لا لزوم له. أما إن زاد ولاؤك العبيط وأصبح يؤثر على حياتك ومشاعرك وعلاقاتك فهذا أمر تجاوز العبط إلى المرض المُهلك.
لو نظرت إلى نفسك من أعلى وأنت تتحدث عن القوائم المالية لناديك، وعن استثماراته وخوفك عليه من تبديد الأموال في صفقة فاشلة، أو أن تبرر ولاءك بأن كرة القدم أصبحت صناعة وغيرها من تلك العبارات، فمن المؤكد -إن كان لك عقل يعمل حتى بالحدود الدنيا لطاقته- أنك ستشعر بأنك «أبله». لأن الأمر ببساطة لا يعنيك، فلست طرفًا مستفيدًا من هذه الصناعة، ولست في أفضل أحوالك أكثر من الحطب والوقود الذي تدور به صناعة اللعبة. لأنك الجزء الذي يدفع فقط في منظومة صناعة الترفيه هذه، والجزء الذي يخصك هو «المتعة» وأنت تحرقها في تبديد مشاعرك وهدر انفعالاتك.
أما إن كنت ممن يتفرغ للدفاع عن حقوق ناديك المسلوبة، ومجابهة الأعداء سارقًا هذا الوقت كله من نفسك وأهلك وحياتك، ودون أن تجد مقابلًا ماليًا مثل الذي يجده «محترفو الولاء العبيط» في الإعلام، فأنت حِمل زائد على الأرض، تستهلك من الأكسجين ما يستحقه كائن آخر أكثر فائدة للكوكب منك. ولعل أكثر مشاهد الكوميديا السوداء وضوحًا في حفلة العبط هذه هو منظرك وأنت مستلق في صالة منزلك -إن وجد- وأنت تقول: اشترينا لاعبًا بمئة مليون دولار، وبعنا آخر بثمانين، في الوقت الذي تعجز فيه عن تسديد فاتورة هاتفك الذي تطلق منه هذه التصريحات.
وفكرة الولاء العبيط لا ترتبط بكرة القدم وغيرها من الألعاب فقط، فهي أيضًا موجودة في الفن والمغنيين والممثلين وحتى المشروبات والمأكولات وأنواع الهاتف.
وكل هذه الأشياء غاية وجودها في حياتك هو الترفيه، فأنت تستمتع بأغنية، لكن المطرب ليس أحد أفراد عائلتك، تستمتع بأغنيته إن أعجبتك، وتشتمه وتشتم أغنيته ومن ألفها ومن لحنها إن لم تعجبك، الأمر بهذه البساطة. وإذا كنت تحب القهوة فاشربها «وعساهي أتلى ما تذوق»، لكن لا تشغل الخلق وتقدم نفسك على أنك زعيم الحزب النازي المدافع عن عرق الكافيين. وتظن أن الله ما خلق الماء إلا لأنه أحد مكونات قهوتك.