هل التوطين في السوق السعودي يرفع تكلفة المعيشة؟

حجة أن توطين الأعمال يسبب ارتفاعًا في الأسعار لا يدعمها الواقع، إذ تتجاوز الأسعار محليًا في كثير من المنتجات دولًا عالية الأجور.

كانت هناك قناعة لفترة طويلة بأن العيش في السعودية يتميز برفاهية حتى للطبقات الأقل دخلًا، رفاهية لا تتوفر للطبقة المتوسطة أو حتى ذات الدخل العالي في الدول الغنية. فإلى جانب توفر العمالة المنزلية، هناك سلع وخدمات منخفضة السعر جدًا قياسًا إلى متوسط الدخل. 

كان لدينا قائمة طويلة بما تستطيع أن تأكله بريال واحد فقط. كما أن بعض الخدمات المتوفرة كثيرًا، مثل غسيل الثياب وكيها، لا تكلف إلا بضعة ريالات. خدمات صيانة السيارات والإصلاحات المنزلية أيضًا تُعد منخفضة التكلفة. ويروج البعض أن ذلك لم يكن ليحدث بدون «نعمة» العمالة الوافدة، التي توفر اليد العاملة منخفضة التكلفة.

وعندما يُطرح موضوع التوطين، وخاصة بالطريقة التي أتبناها، إذ يكون التوطين شاملًا لجميع المهن، تُثار دائمًا إشكالية ارتفاع رواتب المواطنين مقابل العمالة الوافدة، وأنَّ أغلب المهن لا تتحمل ارتفاعًا في الرواتب إلى الحد الذي يُرضي الموظف المواطن. وبالتالي أي محاولة لتوطين تلك المهن يعني ارتفاعًا مهولًا في الأسعار وفقدانًا لميزة العيش الرخيص والرفاهية.

قبل أن نبدأ في تحليل ما سيكون عليه وضع الأسعار بعد التوطين وإن كنا حقًّا سنفقد ميزة رخص المنتجات والخدمات، علينا أن نطرح سؤالاً: هل ما زالت تكلفة المعيشة منخفضة فعلًا، وأسعارنا أقل من غيرنا من الدول ذات الرواتب المرتفعة؟

هل أسعار المنتجات لدينا أقل؟

حينما يأتي الحديث عن الدول ذات الرواتب المرتفعة ومعدل أسعار أعلى من أسعارنا المحلية، فنحن نتحدث عن دول مثل أمريكا وكندا وأستراليا ودول أوربا الغربية واليابان. وثمة ازدواجية في الصورة الذهنية لدى الناس حول أسعار المنتجات. فمن جهة هناك اقتناع بأن العمالة الوافدة تجعل الأسعار منخفضة لدينا قياسًا إلى هذه الدول، وفي الوقت ذاته، ينتشر التذمر من غلاء الأسعار المحلية، ويُروَّج لمتاجر ومواقع تبيع منتجات أقل تكلفة من المتوفر محليًا، حتى بعد إضافة تكلفة الشحن والجمارك وغيرها. والمفارقة هنا أن كثيرًا من المتاجر ذات المنتجات الرخيصة هي من الدول المذكورة التي نراها غالية جدًا.

يتداول الناس مثلًا مواقع لبيع منتجات الصيدليات مثل «صيدلية كوكوون الفرنسية» أو «صيدلية كمست الأسترالية» بأسعار أقل بكثير من نظيرتها محليًا. كما أن شركات الموضة السريعة مثل زارا و«إتش آند إم»، المنتشرة في كل الدول، تبيع بضائعها في الدول الأوربية بأسعار أقل بـ 40% من البضائع نفسها التي تباع لدينا، وهي نسبة ضخمة، خاصة أن المنتجات مستوردة لأوربا وتخضع للجمارك مثلنا.

ومع انتشار التجارة الإلكترونية، يمكنك الآن الدخول لمواقع بائعي التجزئة الأكبر في أمريكا أو كندا أو أستراليا مثل أمازون، ومقارنة أسعار المنتجات وستجدها غالبًا أقل تكلفة. ولكن كل ما ذكرته، وإن كان عمليًا ويسهل لأي شخص التأكد منه، يُعد ملاحظات شخصية، ولا يعتد به لقياس اقتصادي لتكلفة المعيشة. فهل يوجد أداة علمية لقياس ذلك إذن؟

مؤشر «بِق ماك» 

يوجد عدة أدوات لقياس فرق تكلفة المعيشة بين الدول، منها الرقم القياسي لأسعار المستهلك. ويعتمد على سلة منتجات وخدمات تمسح أسعارها المؤسسة المسؤولة عن الإحصاء في الدولة، وتنشرها وتحدثها دوريًا، وبناءً عليها تُقاس معدلات التضخم. ولكن المشكلة في هذه الأداة أنها لا تعكس فرق سلوك الاستهلاك بين الدول، لاختلاف المكونات والنسب الموزونة لسلة كل دولة، إضافة إلى فرق صرف العملة وغيرها. لذا إحدى الأدوات لتجاوز تلك المعوقات مؤشر «بِق ماك» (Big Mac Index): مؤشر سنوي يُستخدم لقياس القوة الشرائية بين العملات المحلية للدول والدولار الأمريكي.

بالنظر إلى مؤشر «بِق ماك» لشهر يوليو من العام الحالي، نجد أن القوة الشرائية في السعودية أعلى بنسبة 13.6% من أمريكا وأعلى بما يقارب 2.2% فقط من أستراليا. صحيح أن هذا يشير إلى أنَّ تكلفة المعيشة محليًا ما زالت أقل من تلك الدول، لكن الفرق ليس كبيرًا إذا ما أخذنا في الحسبان فرق تكلفة اليد العاملة بين العمالة الوافدة لدينا، وبين مواطني تلك الدول الذين يشغلون مهنًا مشابهة في قطاعات التجزئة والخدمات والقطاع اللوجستي الذي يصل لعدة أضعاف. فما تفسير ذلك إذن؟

رواتب عالية لا تعني أسعارًا أعلى

في زيارتي لسيدني، اطلعتُ على قائمة الطلبات لمقهى كنت أرتاده ويقع في أهم شوارعها لأحدَّث معلوماتي عن الأسعار. فوجدت أن كوب القهوة يباع بسعر 11.50 ريالًا تقريبًا، والذي يتراوح سعره بين 15-18 ريالًا في مقاهٍ تماثله في المستوى في المدن الرئيسة لدينا. وإذا أخذنا شركة عالمية مثل ستاربكس، فالكوب يكلف 13.90 ريالًا للقهوة الساخنة و15.20 ريالًا للقهوة الباردة! فكيف تكون أسعار القهوة في أستراليا أقل بنسبة 10% -25% (بعد حسم فرق ضريبة القيمة المضافة) في حين تكلفة العمالة لديهم عالية؟!

يبلغ الحد الأدنى للرواتب في أستراليا 21 دولارًا أستراليًا للساعة، أي ما يعادل 55 ريالًا بسعر صرف اليوم. وذلك يعني أن الموظف الذي يعمل دواماً كاملاً يكون أجره في الشهر بحد أدنى 8,800 ريال شهريًا. أما العمالة في الوظائف التي لا تتطلب مهارة في السعودية، فالحد الأدنى لرواتبها 1500-2000 ريال. وإذا أضفنا التكاليف الأخرى والرسوم لن تتجاوز التكلفة الشهرية 4 آلاف ريال.

بمنطق من يظن تكلفة اليد هي العامل الرئيس في ارتفاع الأسعار، يفترض أن تكون أسعار جميع المنتجات في أستراليا أعلى بكثير مما هي عليه في السعودية، بحكم أن تكلفة اليد العاملة تبلغ الضعف. لكن عوامل كثيرة تؤثر في تحديد مستوى الأسعار لمختلف السلع والخدمات. وتأثير بعض العوامل مثل تحسُّن كفاءة الأعمال والبنية التحتية واللوجستية القوية والبيئة التشريعية المرنة أكبر من من تأثير تكلفة اليد العاملة في أغلب القطاعات.

كفاءة الأعمال هي ما يمكّن «وول مارت»، سلسلة التجزئة والبقالات الشهيرة، من بيع منتجات بسعر أقل من متاجر البقالة محليًا، رغم الفرق الشاسع في تكلفة اليد العاملة. فراتب سائق الشاحنة لدى «وول مارت»، مثلًا، يصل في سنته الأولى إلى 110 آلاف دولار سنويًّا، أي ما يتجاوز 34 ألف ريال شهريًا، والشركة لديها أكثر من 12 ألف سائق شاحنة.

كما لا ننسى أنَّ تكلفة الطاقة (تعرفة الكهرباء) أعلى بـ 60% لديهم، وتكلفة «الديزل» أعلى بـ 700% من التكلفة المحلية. ناهيك بتأثير ضريبة الأرباح على الشركات، أو ضريبة الأملاك أو غيرها من الضرائب التي ترفع تكلفة الأعمال.

بينما في سوقنا المحلي، لم تتمكن الشركات الكبيرة أو المحلات الصغيرة من تحويل الوفرة في اليد العمالة وقلة تكاليفها إلى أسعار تنافسية، مقارنةً بنظيرتها في الأسواق ذات اليد العاملة المكلفة، حتى بوجود مدخلات مدعومة مثل الطاقة والوقود. فأسعار قطاع التجزئة من البقالات والصيدليات والملبوسات وغيرها، وأسعار قطاع الترفيه مثل المطاعم والمقاهي، تتجاوز في كثير من الحالات تلك الدول.

العمالة الرخيصة تسبب ارتفاعًا في الأسعار

لا يمكننا التطرق إلى تفسير جميع العوامل التي تسبب ارتفاع الأسعار محليًا، رغم دعم الوقود والطاقة وانخفاض تكلفة اليد العاملة. ولكن من العوامل المهمة التي لا تُطرَح للنقاش توفُّر اليد العاملة وانخفاض تكلفتها.

قد تبدو الجملة متناقضة، فكيف تتسبب وفرة العمالة ورخص تكلفتها بارتفاع الأسعار؟

ما يحدث، خاصة في قطاع التجزئة، هو التوسُّع الكبير في عدد منافذ البيع، والذي يصبح ممكنًا بفضل وفرة اليد العاملة وقلة تكلفتها أولًا. ومع التوسُّع تنخفض الكفاءة، وتنخفض مبيعات الفرع الواحد بسبب الحرب على الحصص السوقية لكثرة انتشار منافذ البيع. ثم يبدأ ذلك التوسع بإنتاج حالة عكسية من المنافسة السّعرية، فلا يمكن خفض التكاليف الثابتة، التي أصبحت تتوزع على حجم أقل من المبيعات. ولهذا لا تنخفض الأسعار لدينا نتيجةً لـ«اقتصاديات الحجم» (Economies of Scale).

تفتُّت السوق إلى عدد كبير من المتاجر ذات الإيرادات المنخفضة يحصر الاستثمار الرأسمالي في التوسع في منافذ البيع لضمان عدم خسارة حصة سوقية، ويصرف تلك الأموال من الاستثمار في رفع كفاءة العمل وبناء «اقتصاديات الحجم». تلك الكفاءة هي التي مكَّنت «وول مارت» من دفع راتب سائق شاحنة يوازي أجور موظفي بنوك وول ستريت، وتقديم أقل أسعار ممكنة في السوق في الوقت نفسه.

الأسعار بعد التوطين

حجة أن توطين الأعمال يسبب ارتفاعًا في الأسعار لا يدعمها الواقع، إذ تتجاوز الأسعار محليًا في كثير من المنتجات وبعض الخدمات دولًا عالية الأجور. وبعد التوطين الكامل لسوق العمل لن يكون وضع السوق كما هو الآن. Click To Tweet

فمن جانب العرض، لن تجد كثرة المحلات التجارية وتفتُّت الأسواق بين عدد ضخم من المؤسسات، التي لا تتمكن من التطور ولا تحسين كفاءة أعمالها. ومن جانب الطلب، ستختلف طبيعة الاستهلاك وحجم الصرف، وهو ما يسمح بخلق كيانات أكثر كفاءة تتمكن من دفع رواتب مجزية والمنافسة في تقديم أسعار مقبولة.

وهنا يجب الانتباه إلى أنَّ مستوى الأسعار سيمر بمرحلتين مهمتين: الأولى المرحلة الانتقالية لتصحيح سوق العمل، ونعني بها الفترة التي يجري فيها إحلال اليد العاملة الوطنية وترحيل الوافدة. هنا ستشهد السوق تذبذبًا عاليًا في أسعار بعض السلع والخدمات، لأن الإصلاح يأتي إلى سوق ذي هيكلة مبنية منذ عقود على وفرة اليد العاملة. وهو ليس بالأمر السلبي حتمًا، فمعيار السعر هو ما يحدد الحاجة، وبناء عليه تُوجَّه اليد العاملة والاستثمار في ذلك القطاع إلى حين الوصول إلى الاستقرار السعري.

المرحلة الثانية هي «ما بعد التصحيح»، وحينها ستستقر معظم الأسعار. وبحسب المؤشرات التي ذكرتها، أتوقع شخصيًا انخفاض أسعار السلع عمومًا، خاصة المستورد منها، وارتفاعًا في قطاع الخدمات بنسب متفاوتة ، وتحديدًا ما يقدَّم منها بشكل مباشر. 

إدارة المعرفة من العمالة الأجنبية إلى الخليجية

اعتمدت دول الخليج العربية على العمالة الأجنبية ريثما تهيئ العمالة الوطنية لسوق العمل، فلماذا لا يزال الاعتماد اليوم على العمالة الأجنبية؟

12 أكتوبر، 2021

ولا ننسى أننا في هذه المرحلة نتحدث عن سوق عمل يشكل المواطنون منه نسبة قد تصل إلى 90% أو أكثر، والباقي تأشيرات مؤقتة لخبرات وكفاءات تقدم قيمة مضافة للاقتصاد ذات رواتب عالية طبعًا. وفي هذا الواقع الجديد، ومع عدم وجود «فائض» في العمالة وانخفاض معدلات البطالة، سيكون معدل الرواتب العام مرتفعًا عما هو عليه الآن. ومع مساهمة نسبة أكبر من السكان في سوق العمل سترتفع القوة الشرائية للفرد والأسرة، ولن يكون أثر الارتفاع في الأسعار كارثيًا كما يُتصوَّر أو يُروَّج له.

التوطين ليس ضد دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة

الفكرة هنا أنَّ السوق سيضم شركات احترافية، سواء أكانت عملاقة أم متوسطة، تستطيع أن تجذب المواهب، وتستثمر في الأتمتة والتقنية لرفع الكفاءة وعرض المنتجات والخدمات بتكلفة منافسة. وسيضم كذلك محلات صغيرة يعمل بها أصحابها ويعتمدون على تقديم الخدمة المميزة والتجربة الفريدة. وستختفي المحلات والشركات التي تقوم على العمالة والتستر بشكل أو آخر.

ولا ننسى أن خفض عدد المنافذ لن يقتصر على الشركات التي ستخرج من السوق فحسب. بل هناك شركات قائمة حاليًا لديها فائض كبير في عدد المحلات ستخفضها مع الاستمرار في العمل، والواقع أنها ستكون أكثر ربحية في هذه الحالة. وهناك شركات ستغلق منافذها، وتعتمد على خيارات أخرى مثل المتاجر الإلكترونية أو البيع بالجملة أو غيرها.

وهذا لا يعني أنَّ التوطين ضد دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، بل العكس. في الغالب لن يخرج من السوق ريادي الأعمال المتفرغ لعمله، سواء أكان صاحب منشأة صغيرة أو متوسطة. بل سيخرج أصحاب المحلات غير المتفرغين الذين يسلمون إدارة مشاريعهم وشركاتهم لوافدين. ولا نغفل أنَّ مع خروج العدد الكبير من العمالة وإغلاق الأنشطة التقليدية، ستُفتَح مجالات جديدة أمام رياديي الأعمال بهوامش ربحية أعلى وبدون منافسة غير عادلة.

الاقتصادالسعوديةالعمالةالرأي
مقالات حرةمقالات حرة