هوس الأطفال: «بابا، أبي أصير مشهور»
مع انفتاح بيوتنا على وسائل التواصل الاجتماعي امتدَّ هوس الشهرة إلى أطفالنا، فأصبحت غايتهم التي يسعون إلى تحقيقها رغمًا عنَّا أو بمساعدتنا.
انتشر اللهاث وراء الشهرة في العالم العربي بشكل ملحوظ، لا سيما مع ظاهرة صعود الكثير من المراهقين سلّم الشهرة. إذ أصبح شائعًا تناقل المراهقين صورهم ومقاطع فيديو لمواقفهم وطرائقهم في الملبس والحديث وأسلوب الحياة. وأصبحت عبارة «أبي أصير مشهور» الأكثر تردُّدًا في الأوساط الشبابية وبين الأطفال.
فقد فتح انتشار مواقع التواصل الاجتماعي الفيروسي الباب على مصراعيه لكل من يرغب في التجربة. وأصبحت الشهرة غاية الأطفال والمراهقين في العالم العربي.
ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟
لطالما تراوحت الأجوبة المتوقعة لهذا السؤال عند الأطفال بين طبيب أو مهندس أو طيار أو معلم، واليوم أضيفَ لها «مشهور». فالشهرة تعني الأضواء والمال والهدايا المجانية والسفر والفرص التي لا تخطر على مخيلة أحد.
لكن يغيب عنهم وعن المشجعين من الآباء سلبياتها. ولا يخفى على عاقل الآثار النفسية والاجتماعية الكثيرة بدءًا من انعدام الخصوصية إلى الأفكار المستهلكة إلى الأقنعة التي يُجبَر المشهور على ارتدائها ونزعها خلال اليوم لنيل رضا متابعيه.
تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الثقة بالنفس
كم مرة تمنيت لو كان أنفك کأنف مشهور ما؟ أو سيارتك كسيارة مشهور آخر أو أي من تلك المقارنات التي أصبحت روتينًا يوميًا تبرمجنا عليه. شخصيًّا، ينعكس عليّ الأثر السلبي الأعمق لتلك المقارنات فور انتهائي من تصفح سناب شات أو انستقرام.
حتى في محيط العمل يرتفع الحس التنافسي للغاية کلما تصفحتُ برنامج لينكد إن. فتعتريني مشاعر سلبية حيال نفسي وحياتي ويقل مستوى الرضا عن مهنتي، مما ينعكس على تصرفاتي وأسلوب حياتي.
وتناولت دراسة تجريبية لنيكول أنيتا ديون في عام 2016 تأثير إنستقرام على الثقة بالنفس والقناعة بالحياة. وتنطلق الدراسة من نظرية المقارنة الاجتماعية، وتهدف إلى قياس تأثير متابعة المشاهير في انستقرام على رضا المتابع عن ذاته والقناعة بما يملكه من أدوات لعيش حياة جيدة.
واستخدمت الباحثة الاستبانة كأداة للمسح الاجتماعي على مجموعتين تجريبيتين. كل مجموعة مكونة من إحدى وخمسين امرأة تتراوح أعمارهن بين ثماني عشرة إلى خمس وعشرين سنة. تتابع المجموعة الأولى المشاهير، أما المجموعة الثانية لا تتابع. ومن أهم المعايير التي تطلَّب توفرها في المشاركات تصفُّح الانستقرام على الأقل مرة واحدة يوميًا.
واقع إنستقرام غير الواقعي
أظهرت النتيجة أن المجموعة التي تتابع المشاهير لديها قناعة أقل في خياراتها وحياتها الشخصية، وتنتابها مشاعر سلبية تجاه الذات بعد مقارنتها بالمشاهير. أما المجموعة التي لا تتابع أظهرت اقتناعٍ أكثر بأسلوب حياتها وخياراتها الشخصية، وعن تمتعها بمشاعر إيجابية تجاه الذات.
ماذا عن المراهقين والأطفال؟
بالتأكيد الأثر كارثي. ونواجه هذا الأثر يوميًا في بيوتنا، ومن أصعب التحديات التي يواجهها المربون مؤخرًا.
التحكم بالرغبة الاستهلاكية المجنونة لدى المراهقين والأطفال أمر صعب. والمقارنة بينهم وبين أقرانهم من المشاهير أكثر صعوبة وتترك آثارًا نفسية سيئة، منها الثقة المنخفضة بالنفس، والتطلُّع الدائم لما هو غير موجود. Click To Tweet
من خلال ملاحظاتنا اليومية، بوسعنا تلمس أثر متابعة المشاهير على أطفالنا. فهناك الطلبات غير الاعتيادية كأن يطلب طفل في السادسة من عمره كاميرا احترافية لتصوير مقاطع يوتيوب، أو تطلب طفلة في العاشرة شراء حذاء من ماركة معينة.
وأيضًا حين نشاهدهم يصورون مقاطع مختلفة طوال اليوم يرددون فيها العبارات المشهورة المتداولة. أو حتى من خلال الأحاديث العابرة اليومية التي نتفاجأ معها عن معلومات أطفالنا حول عدد المشتركين لدى المشهور الفلاني وعدد «اللايكات» التي تلقاها، وعن الهدايا وفرص السفر وغيرها من تفاصيل يفترض أن الأطفال آخر من يلتفت لها.
في كتاب «التحرر من الذات وإعادة اكتشافها» يتعرض جون لويس مونستاس إلى ظاهرة الشهرة بين المراهقين في العالم الغربي. ويتناولها من الناحيتين النفسية والاجتماعية قائلًا: «أثبتت دراسة أجريت على الأطفال بين سن الثامنة والثانية عشر أن غاية أملهم في الحياة أن يصبحوا مشهورين ويعرفهم أكبر عدد ممكن من الناس.»
تقارن الدراسة المذكورة بين شباب من مواليد عام 1967 حتى 2007 وأثبتت وجود مرحلة فاصلة عام 1997، أي وقت ظهور الإنترنت وانتشاره. فقبل هذا التاريخ كانت لقيم المشاركة والانتماء للجماعة الأولوية لدى الشباب، في حين يحلم شباب ما بعد 1997 بالشهرة والثراء.
وأصبحت الصورة التي يشكلونها عن أنفسهم معتمدة على مدى شهرة مقاطع الفيديو التي يحمّلونها على شبكة يوتيوب، وعلى عدد إشارات الإعجاب التي يحصلون عليها في الفيسبوك. وهكذا أصبح الكل يبحث عن الخمس عشرة دقيقة من الشهرة التي تنبأ بها آندي وارهول عام 1968.
تمظهرات هوس الشهرة
تبقى سلبيات الشهرة وإيجابياتها ظاهرة قابلة للطرح والأخذ والرد، خصوصًا في الوقت الحالي مع تطور أدوات الشهرة وسهولتها. ورغم كونها ظاهرة شديدة الشيوع لدينا، لا وجود اليوم لأي دراسات عربية تصنف نوع التأثير وتثبته سواء على المشهور نفسه أو المتلقي.
وأثناء عملي على رسالة الماجستير في 2018، «ظاهرة البحث عن الشهرة عند المراهقين السعوديين»، لم أجد أي دراسات علمية عربية تُعنى بظاهرة الشهرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لدى المراهقين من الجوانب النفسية والاجتماعية والسلوكية. فاضطررت للرجوع للعديد من الدراسات الغربية لفك بعض شفرات هذا العالم.
لكن عمومًا يمكننا لمس مرحلة التغيير الكبيرة التي تمر بها المجتمعات العربية على صعيد القيم والأخلاق والأولويات. صحيح التغيير أمرٌ طبيعي، فعلى مرِّ السنوات تتغير الأجيال وتتغير معها الاهتمامات. لكن الملاحظ مؤخرًا التغيير السريع في البنية النفسية والسلوكية حيث لم يقتصر هذا التغيير على المراهقين وحدهم، بل تجاوز لأهاليهم.
ولدينا في الساحة السعودية العديد من نماذج الوالدين ممن دفعوا بأطفالهم إلى الشهرة. فأصبح الطفل أو المراهق يعيش حياته اليومية تحت الكاميرات. يأكل ويشرب أمامها ويمارس حياته بجُلّ تفاصيلها وفقًا لرغبات الجمهور وتطلعاتهم.
وشخصيًّا أرى في التغيير الكبير في سلوك الوالدين فيما يخص حماية الأطفال وإبعادهم عن المناسبات الاجتماعية خوفًا من الحسد ظاهرة مثيرة للفضول والسؤال. إذ ها هم يسعون اليوم إلى إبراز أطفالهم وإظهارهم في كل محفل يخدم شهرتهم من غير توقع للآثار النفسية والاجتماعية والسلوكية المترتبة عليها.
كيف نحمي أطفالنا؟
باعتقادي الكرة حتى اليوم لا تزال في ملعبنا، لكننا سنفقدها سريعًا إن لم نتحرك لتوجيه أطفالنا وفهم تطلعاتهم. فننزل تارة لرغباتهم وتارة نوجههم، ونهيئهم كل يوم لما يشاهدونه ويستهلكونه ونساعدهم على تصفية المعروض واختيار الجيد. شخصيًا أرى في تطبيق هذه الحلول التحدي الأكثر صعوبة وتعقيدًا على الوالدين.
لكن ما باليد حيلة. فظاهرة المشاهير لن تختفي ما دامت مواقع التواصل الاجتماعي مستمرة في تطوير أدواتها وطرق بثها. لذا دعنا لا نتوقع من العالم التوقُّف حتى نحمي أطفالنا، بل يجب أن نبدأ من اليوم بحمايتهم نفسيًا وذهنيًّا عن طريق تهيئتهم وتجهيزهم، وتهيئة أنفسنا وحمايتها قبل أطفالنا!
هذه المقالة جزء من رسالة ماجستير مقدمة لجامعة بادوفا بعنوان «ظاهرة البحث عن الشهرة عند المراهقين السعوديين: توظيف البث المباشر على انستقرام أنموذجًا»