بعد عام من العمل عن بعد، أعود إلى نظام العمل التقليدي

ما إن أُعلن عن انتهاء العمل بالإجراءات الاحترازية، الأحد الفائت، حتى سارعت بعض الشركات إلى إبلاغ موظفيها بأنَّ نظامي الورديات والعمل عن بعد...

ما إن أُعلن عن انتهاء العمل بالإجراءات الاحترازية، الأحد الفائت، حتى سارعت بعض الشركات إلى إبلاغ موظفيها بأنَّ نظامي الورديات والعمل عن بعد المتبعين في بعض  الأقسام انتهيا أيضًا.

سيعود كلّ الموظفين إلى مكاتبهم وإلى العمل من أولى ساعات الصباح حتى ما بعد الظهر، إلا المستثنين عطفًا على ظروفهم الصحية أو الشخصية التي سبق أن رسمت الشركة حدودها.

وكما هو متوقع، استقبل الموظفون هذا الخبر ببالغ السعادة ورحابة الصدر. أخيرًا سيعودون لروتين الحياة المكتبية الرائع، ويقضون أكثر من نصف يومهم ما بين التنقل من وإلى مقر العمل، وإلى إنجاز الأعمال بكامل طاقتهم الإنتاجية. بل ابتهجوا لكونهم سيتمكنون أخيرًا من حضور كل تلك الاجتماعات التي افتقدوها أثناء فترات العمل عن بعد، والإنصات بشغف بينما يعيد رئيسهم الحديث عن نفس المواضيع مرارًا وتكرارًا.

يقتل العمل عن بعد كل حوافز الإنتاجية، كما يقطع أواصر الاتصال بين الزملاء من حيث تقليله احتكاك بعضهم ببعض، أو تقليل  فرص اجتماعات العصف الذهني شبه اليومية. إضافة إلى ذلك، يُعوّد العمل عن بعد الموظف على التسيب والتقاعس، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى موت دوافع الإبداع التي تغذيها بيئة العمل والروتين المكتبيان. ولذا، فإنّ العودة للدوام المكتبي عودةٌ للحياة الطوبائية.

إنتاجية ما بعد الجائحة

إذا واصلت القراءة حتى هذه الجملة، فهذا يعني احتمالًا من اثنين: إما أنك أحد رواد الأعمال المبتهجين لعثورهم على ما يدعم خرافاتهم حول الوظيفة والإنتاجية وغيرها، أو أنك ممن استوعب هرائية السطور السابقة من واقع التجربة الشخصية، وأردت معرفة ما إذا كانت بقية السطور مليئة بترهات مماثلة.

ما حدث فعلًا بعد استقبال الخبر أنَّ الموظفين أبدوا ضيقهم من عودة ساعات العمل الطويلة، ومن انتهاء رغد العيش بالمرونة التي كانوا يعيشونها، وهذا المتوقع أساسًا. فبعد تجاوز الشهور العصيبة الأولى من ترتيبات العمل الجديدة، تمكنت العديد من الشركات أو أقسام الشركات من بلوغ الإنتاجية ذاتها التي كانت عليها قبل جائحة كورونا، أو حتى تسجيل أرقامٍ أعلى كما تشير بعض الدراسات.

وهكذا لم يعد ثمة مفرّ من التساؤل عن معنى ساعات العمل الطويلة وروتين الدوام التقليدي في ظلّ التقدم التكنولوجي الذي نعيشه اليوم.

 

لكن، ما العلاقة بين الإنتاجية والحضور الجسدي لمقرّ العمل؟

كي لا أُفهم بشكلٍ خاطئ، سأركز على الأعمال التي لا يحتاج الموظف فيها بشكلٍ رئيس إلى أكثر من حاسوب واتصالٍ شبكي، أي تلك التي لا يتطلب إنجازها أي معدات أو أدوات خاصة.

وسأحاول وضع الأوهام المذكورة أعلاه موضع الشك، متسائلًا بشكلٍ رئيس عما إذا كان العمل بشكله التقليدي يوفر فعلًا بيئة إنتاجية، أم يتمحور حول إخضاع الموظفين للمراقبة. 

ساعات الدوام النظري والدوام الفعلي

تمتد آثار الوظيفة إلى ما وراء ساعات العمل المقررة. مثلًا، يبدأ عملي نظريًا تمام السابعة صباحًا وينتهي في الثالثة عصرًا. لكن فعليًّا يبدأ دوامي قبل السابعة بساعة ونصف على الأقل، وينتهي بعد الثالثة بساعتين.

ليس لأني أحتاج المزيد من الساعات لإنجاز مهامي، ولا لأنني ممن يحاولون الحصول على تقييم أفضل، من خلال استعباد أنفسهم للوظيفة. بل لأنني أحتاج وقتًا للاستيقاظ والاستحمام وتوصيل ابني للحضانة في الصباح، إضافةً إلى الوقت الضائع في الطريق.

أما بعد نهاية الدوام، فحتى لو نجوت من تأخير الحوادث اليومية وما يتفرع منها، أحتاج وقتًا بعد ساعات العمل الرسمية لكي أسترد أنفاسي وأستجمع طاقة كافية تمنحني القوة على إنجاز المهام الأخرى.

وكما حال كُثرٍ غيري، أمارس وظيفةً لم أكن لأمارسها لولا احتياجي إلى مصدر دخل، ضمن ما هو متاح في سوق العمل المحلي. وإضافة إلى ذلك، ما أنجزه من مهام داخل العمل ليست إلا جزءًا بسيطًا من التشابك المعقّد ضمن شركة ضخمة، وعليه أنجز مهامي دون إدراكٍ فعلي لما يترتب عليها ما إن تُدمج ضمن الصورة الكبرى التي يركّبها عليّة الإدارة الهرميّة.

دائمًا ما أؤدي العمل الذي كُلِّفت به دون متابعة لما يترتب عليه. لذا يمكن إعادة صياغة ما أقوم به على هذا النحو: بيع ساعات محددة من يومي لقاء مقابلٍ مادي لا أدرك مدى ارتباطه بالأرباح التي تجنيها الشركة من ورائي. ووقتما تنتهي تلك الساعات، أعود إلى عيش حياةٍ منفصلة نظريًّا عن الوظيفة وما يرتبط بها.

اغتراب الذات في بيئة العمل

يأخذنا هذا الاستطراد إلى الدخول في الانسلاخ بين ذاتي الوظيفية وذاتي خارج ساعات العمل. فكل ما أقوم به أثناء العمل يهدف إلى توفير شروط عيش الحياة خارجه. ولو كنت سأصف هذا الانسلاخ بمصطلحات ماركسية لقلتُ إنه جزء من الاغتراب الاجتماعي الناشئ عن نمط الإنتاج الرأسمالي: ينسلخ العامل عما ينتجه وعن عملية الإنتاج وعن جوهر بشريته، ولا يستشعر الفرد إنسانيته إلا في الأوقات التي لا يكون فيها منخرطًا ضمن هذه العجلة.

ولا يقتصر الاغتراب على هذا البُعد وحسب. ففي التصور الماركسي، يلعب كلٌّ من التسليع والسلع دورًا رئيسًا في إعادة صياغة طبيعة العلاقات الاجتماعية، إذْ تصبح كما لو أنها علاقات بين أشياء، بدلًا من أن تكون علاقاتٍ بين ذوات.

الخروج من دوامة الاغتراب هذه يستوجب إعادة البُعد البشري للعلاقات، فيتحول العمل بحدّ ذاته من عمليةٍ خارجة عن ذوات الأفراد إلى امتدادٍ لرغباتهم وحاجاتهم. أي يصبح العمل نطاقًا يحقق فيه الأفراد ذواتهم.

وسط كل هذا، يبدو الحديث عن ارتباط الإنتاجية بالحوافز والطموحات الفردية ضربًا من العبث، إذ كيف يمكن تحفيز الفرد لإنتاج ما لا يجد فيه ذاته؟ بطبيعة الحال، ثمة من سيتخذ من المسار الوظيفي هويةً ووسيلةً لتحقيق طموحاته وذاته، لكن شريحةً كبيرة أخرى لا تجد فيه ذلك.

بل في بيئات معينة من العمل، قد يندفع الأفراد إلى إيجاد أمثل الطرق التي يمكن من خلالها تقليل إنتاجيتهم دون الإضرار بالدخل الذي يحصلون عليه. فِلم «أوفيس سبيس» (Office Space) برأيي أحد أفضل الأفلام التي تتناول هذه الفكرة. 

كيف تؤدي بيئة العمل إلى كره الحياة الوظيفية؟

قد تبدو المشاهد الأولى من الفِلم المُنتج عام 1997 مألوفة للعديد منا: زحامٌ مروري خانق يؤخرنا عن العمل، محاولة الدخول خلسة إلى المكتب، ثم الجلوس على الكرسي في مكتبٍ صغير ذي جدران منخفضة تمكّن الرائح والغادي من رؤية كل ما نفعله. بعدها بلحظات، نجد البطل بيتر يُطلُّ من فوق الجدار على زميله مِلتون، راجيًا إياه أن يخفض قليلًا من صوت الراديو.

يُقابَل بيتر بالرفض، ويستمر الإزعاج المحيط به. ونجده خلال المشاهد اللاحقة يقضي ساعات العمل متسكعًا بين الأحاديث الجانبية والخروج لشرب القهوة في أحد المطاعم المجاورة، من باب تزجية وقت الدوام دون عملٍ بالضرورة. وندرك منذ بداية الفلم أن بيتر يكره كل ما يتعلق بحياته الوظيفية.

بناءً على طلب صديقته، يخضع بيتر لجلسةٍ علاجية عند منوم مغناطيسي. وأثناء الجلسة يقول بيتر إنه مذ بدأ العمل صار كل يوم يعيشه أسوأ من سابقه. يدّعي المعالج قدرته على تغيير تفكير بيتر تجاه الحياة بشكلٍ عام، ويحاول تنويمه حتى تتلاشى همومه  ومخاوفه وقلقه. وفي اللحظة التي يختم فيها الدكتور سوانسن العد التنازلي، يجد بيتر نفسه منتشيًا ومقبلًا على الحياة بروحٍ جديدة.

لكنَّ هذه الروح لم تثمر عن أي إنتاجية في العمل إطلاقًا. فما حدث أن بيتر صار أكثر وقاحةً، ويصنع ما يشاء دون اعتبارٍ لأي من القيود الحقيقية أو الافتراضية. بات يحضر للدوام وقتما يشاء وبأي هيئة أراد، و يتجاهل رئيسه غير عابئ بكسر كل القواعد. 

حانت اللحظة الأهم وقتَ جلس بيتر أمام المستشارين سلايدل وبورتر. جيء بالرجلين من أجل جعل العمل أكثر سلاسة وفعالية. ما يعني فعليًا مقابلتهم مختلف الموظفين من أجل تحديد أيّهم ضروري وأيّهم يمكن فصله بلا عواقب على سير المهام. دخل بيتر عليهما وصب لنفسه كأسًا من الماء وجلس بلامبالاة. وحين طلبا منه وصف يوم روتيني في عمله، جاء الجواب صادمًا لهما: كان إيجابيًا.

ربع ساعة عمل أسبوعيًّا

بدأ بيتر إجابته بتصريحه بالقدوم إلى عمله كل يوم متأخرًا 15 دقيقة، واستخدامه الباب الجانبي كي لا يراه رئيسه. وحالما يجلس على كرسيه يسرح لمدة ساعة كل صباح محدقًا في مكتبه، ولمدة ساعة أخرى بعد الغداء. ما يهمه أثناء سرحانه أن يبدو كما لو أنه يعمل. ويضيف أنه لو حسب مجموع دقائق عمله الفعلية لما تجاوزت ربع ساعة أسبوعيًا.

يعزو بيتر تسيبه إلى غياب الحوافز من أي نوعٍ كانت. ولا يصف بيتر نفسه بالكسل إطلاقًا، بل يقول إن الأمر لا يعدو كونه محض لامبالاة. فلو أنه عمل جاهدًا وتمكن من زيادة إنتاجية الشركة ككل مثلًا، فلن ينعكس ذلك حتى على مرتبه الشهري.

وإضافة لذلك، يشتكي بيتر من وقوف ثمانية رؤساء مختلفين على رأسه، وأنَّ أي خطأ منه يعني أن ثمانية أشخاص سيزعجونه حول الموضوع. وبالتالي يستنتج بيتر أن دافعه الوحيد للعمل هو ألا يتم إزعاجه وحسب.

الاستعراض الوجيز لبداية الفلم ضروريٌّ لإدراك معنى هذه العبارة الأخيرة، لإدراك معنى أن يكون الفرد مدفوعًا للإنتاج من باب الخوف أو الخشية من حدوث أمرٍ مكروه. عودة الموظفين لمقر عملهم رغم إمكانية إتمام المهام عن بُعد، دون انخفاض في معدلات إنتاجيتهم، ليست إلا إعادة تكريس لفكرة أن الإنتاجية مرهونةٌ بزرع الخوف والشعور بالمراقبة عند الموظفين.

انصياعٌ عن بعد

في موقع «RemoteDesk»، وهو برنامجٌ يوفر حلول مراقبة العمل عن بُعد، أوّل ما تتراءى لزوّاره لائحةُ أهداف البرامج السبعة المدرجة على الصفحة الرئيسة. من تلك الأهداف ثلاثة: زيادة الإنتاجية، استعادة وقت الموظفين الضائع، مراقبتهم.

وما إن يتصفح زائر الموقع الصفحة الرئيسة قليلًا، حتى يجد وصفَ البرنامج لنفسه على أنه أكثر حلول الذكاء الاصطناعي تقدمًا، فيما يتعلق بإدارة القوى العاملة عن بعد ومراقبة الموظفين. إذا لم تكن مفردة «المراقبة» كفيلةً بإثارة اهتمامك، فلعل الوصف المذكور الآخر كفيلٌ بذلك: يضمن البرنامج انصياع العاملين عن بعد. 

يستطيع البرنامج ضبط وجود أجهزةٍ ممنوعة على المكتب المنزلي، كما يضبط وجود أطعمة وأشربة أو أي تعبيرات وجهٍ مثيرة للشك. ويستخدم البرنامج الكاميرا المدمجة في الحاسوب ليحرص على عدم وجود العديد من الأشخاص في الغرفة، أو عدم انشغال الموظف بما هو خارج مهام عمله.

ما الذي يبرر برامج كهذه؟ ما الذي يجعل اختراق الخصوصيات أمرًا مقبولًا حتى ضمن هذا النطاق الضيق؟ ستشير كل الأجوبة بشكلٍ أو بآخر إلى التصورات الشائعة حول ضرورة مراقبة الموظفين، وإلا لن ينجزوا مهامهم، وكذلك إلى التصورات حول بنية الشركات والسلطات المتضمنة فيها.

الأخ الأكبر يراقبك

يصعب فك التشابك بين فكرة زيادة الإنتاجية وفكرتيْ المراقبة وزرع الخوف في ذوات الموظفين. يمكن في الحقيقة رؤية الانتقال إلى تصميم المكاتب المفتوحة «العصري» أساسًا من باب تسهيله هذه المراقبة، وزيادة الإنتاجية المزعومة.

فمن جانبٍ، تتهاوى ذرائع تسهيل التواصل بين الموظفين، وتكثيف جرعات الاتصال والعمل المشترك بينهم، حين نضع بعين الاعتبار الكم الهائل من الإزعاج والملهيات في التصميم المفتوح. ولم يعد مستغربًا أن يعمل الموظفون معتمرين سماعات الأذن ليحولوا بين مهامهم والمشتتات من حولهم. لذا يصعب تصديق أن الإنتاجية تزيد من خلال العمل المشترك، والتعاون، وغيرها من الكلمات الرنانة.

ومن جانبٍ آخر، من خلال تصميم المكاتب المفتوحة المفتقرة لأي نوعٍ من الخصوصية، يصعب تخيل الموظف قادرًا على القيام بأي شيء دون أن يجازف بأن أحدًا ما (قد) يراه. يذكرنا هذا الميل للشفافية بالمنازل الزجاجية في رواية نحن أو عين سورون في سيد الخواتم أو الشاشات في 1984، أو حتى بتصميم السجن البانوبتيكوني.

في كل تلك الأمثلة، يتعرّض الفرد دومًا لاحتمالية وقوعه نصب نظرة تحديقية. ولأنه لا يعرف إذا كان أحدٌ ينظر إليه بالفعل أم لا، فهو يتصرف دائمًا كما لو أن أحدًا يراقبه. هكذا يحرص المراقبون على أن الموظف سيتخلق دومًا بأفضل الأخلاق.

تتمحور تصاميم المكاتب المفتوحة، إذن، حول زرع شعور الخوف هذا من أجل ضمان التزام الموظف بأداء مهامه ظاهريًّا على الأقل. ولا يقتصر هذا على المكاتب الشخصية فحسب، بل يمتد التصميم المفتوح إلى غرف الاجتماعات وكل الأماكن الأخرى التي يتواجد فيها الموظفون، إذ تُجعل أبوابها أو جدرانها زجاجية لكي يتمكّن المارة من اختلاس النظر وقتما كانوا بالقرب. 

ألم يحن الوقت لنظام عملٍ جديد؟

في محاولةٍ لتأجيج مشاعر زملائه لاختلاس الأموال من الشركة التي طُردوا منها، يقول بيتر: «لم يُخلق البشر لأجل الجلوس في مكاتب صغيرة والتحديق في شاشات الحاسوب طوال اليوم.»

ربما فاته أن يضيف بأننا لم نخلق أيضًا لأجل قضاء أكثر من نصف يومنا بين ممارسة ما لا نطيقه والأعباء الناجمة عن التنقل وساعات العمل الطويلة. Click To Tweet

في ظل التطور التقني الذي نعيشه اليوم وإمكانية جعل آلية العمل وساعاته أكثر مرونة، فليس عبثًا افتراض أننا ما زلنا نعيش وفق تصورات متخلّفة لمعنى الوظيفة والحياة الوظيفية، وأنَّ الوقت حان، منذ زمن، لإعادة تصورها جميعًا بما يسهم في تحقيق ذواتنا.

الإنتاجيةالجائحةالعمل عن بعدالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية