كيف تصنع روتينًا فعالًا يناسبك
ينفر البشر من القيود بكلّ أشكالها، حتى لو جاءت بوجه لطيف ومسميات متنوعة. ولدى البعض، الروتين أحد صور تلك القيود...
ينفر البشر من القيود بكلّ أشكالها، حتى لو جاءت بوجه لطيف ومسميات متنوعة. ولدى البعض، الروتين أحد صور تلك القيود. أتفق مع هذا في حال كانت حياتك مصممة بالمليمتر وتفتقر إلى المرونة، لكن الروتين لا يعني ذلك بالضرورة.
ما الذي يعنيه «الروتين»؟
أردتُ التخلص من كلمة «روتين» لحساسيتي تجاهها، فبدأت التفكير في الأمر كمجموعة من الطقوس والعادات التي تشكّل يومي. الروتين هو الوقت المحدد الذي أستيقظ فيه صباحًا وساعةَ أبدأ العمل، وهو الأنشطة اليومية الثابتة التي لا تحتاج مني إلى جهد في اتخاذ القرار.
وتأخذ قائمتي الأساسية في البدء هذا الشكل: الاستيقاظ في السابعة والنصف وتنظيف أسناني، ثم شرب القهوة وتشغيل جهاز الحاسوب في الثامنة والنصف. لا يعني بناء الروتين إلزامَ نفسي بعشرات الخطوات اليومية التي إذا أفرطت في تحديدها ومراقبتها يقينًا سترهقني في غضون أيام.
فالهدف من تحديد الأنشطة تقليل التوتّر وتحقيق السلام الداخلي وبناء إطار واضح للحياة. وهكذا كلما كانت عناصر الروتين ومهامه قابلة للاستدامة والتطبيق، حافظت على نفسي من الغرق.
خلال السنوات الماضية عرفت السرّ وراء إخفاقي في بناء روتين ناجح: إغفال احتياجاتي كأولوية ومحاولاتي الالتزام بقوالب جاهزة يقترحها الآخرون. ماذا لو لم يكن الاستيقاظ في الخامسة مناسبًا لي؟ ماذا لو كانت وقفات الاستراحة خلال يوم العمل أكثر فعالية من العمل المتواصل؟
ساعدتني أسئلة كهذه في بناء قائمة من الاحتياجات المحددة، فأنا أريد في نهاية اليوم إتمام العمل على مشروع صغير، تناول وجبة مشبعة، وترتيب مساحتي. وعلى هذا الأساس ضبطت روتيني اليومي والتزمت به. يشبه الأمر رسم خارطة كنز خاصة بي، لا يفهم أسرارها ورموزها سواي.
يوم اعتمدت على منبهي الداخليّ
بدأ احتياجي إلى بناء روتيني الخاص عندما توقفت والدتي عن إيقاظي للمدرسة صباحًا. إدارة يومي من بدايته لنهايته أصبحت من مسؤوليتي. لم يعد هناك جدول للحصص المدرسية، ولا واجبات مفروضة تسأل عنها المدرسة كل يوم لتُتابعَ معي. وعندما التحقتُ بالجامعة، سرعان ما بدأت أيّ ثغرة في إدارة وقتي بالظهور، في هالات الإعياء تحت عينيّ، وفي إخفاقات أكاديمية مخجلة.
ظهر ذلك جليًّا عندما رسبت في مادة دراسية للمرة الأولى في حياتي؛ الطالبة المتفوقة فقدت «مرتبة الشرف» جرّاء السهر وتفويت المحاضرات والتأخر في تسليم المهام، وكل هذا نتيجة الفوضى.
استيقظ منبّهي الداخلي وبدأت- تدريجيًّا- تعلّم إدارة وقتي وبناء العادات الداعمة لنجاحي على المستوى الشخصي والأكاديمي. ضبطت مواعيد نومي وعدت لممارسة رياضة المشي لتخفيف ضغوط الحياة الجديدة، وتعرفت على نظم غذائية ممتعة. ومن هناك، بدأت تنمية هوايتي الأحبّ إليّ: الكتابة.
كنت أدع الانضباط يتلاشى في العطلات الصيفية وأنغمس بمتعة في التعلّم الحرّ والبحث عن هوايات جديدة.
تخرجت من الجامعة وعدت للفوضى مؤقتًا إثر فشلي في إيجاد وظيفة ثابتة. لكنّ فكرة العمل المستقل وتحويل مهاراتي في الكتابة والتدريس والترجمة إلى عمل يدرّ دخلًا تطلّبا إعادة بناء الروتين. وهكذا أصبحت مهمّتي مع كل منعطف جديد في الحياة إيجاد مرساتي وتثبيت قدمي، بينما يدفعني الفضول وحبّ التجربة والاكتشاف.
كيف طوّرت روتينًا ممتعًا وحافظت عليه؟
لم يكن الأمر بالصعوبة التي تخيلتها، أو على الأقل بالصعوبة التي وصلتني من عشرات المقالات التي تصف روتين الحياة اليومي وتثبيته بالساعة والدقيقة. جاءت البداية مع تحديد أهدافي الكبيرة أو طويلة المدى، ثم تفكيكها إلى مهام وأنشطة أصغر وربطها بالأوقات المفضلة في يومي.
أريد العودة هنا للتذكير بعملي المستقل. إذ بعد تخرجي، وعلى مدار ست سنوات تقريبًا، لم أعمل في وظيفة بدوام كامل، وكنت أقضي جلّ وقتي في البيت. هذه الحياة الممتدة أكثر ما أشتاق إليه كلما عملت في وظيفة جديدة.
تعلمت تدوين كل شيء، بدءًا من المشاعر والأفكار والعثرات ومحاولات العيش بطريقة أفضل، ووصولًا إلى البحث عن طرق جديدة للتعامل مع نقاط ضعفي إنْ لم أستطع تغييرها. Click To Tweet
بدأت العمل بمبدأ جميل جدًا اسمه «التركيز على إدارة الطاقة، لا الوقت». ومن خلال هذا المبدأ تعرفت على ساعات النشاط الأعلى لديّ، ومتى يبدأ نشاطي الفعلي، وفيها ضمّنت المهام الأصعب ذات التركيز العالي.
في فترات من الحياة، كانت ساعاتي الأمثل بين الثانية عشرة ظهرًا والسابعة مساءً. ومؤخرًا، أصبحت ساعات الصباح الأولى وقتي الذهبي.
ساعدتني فكرة جيدة أخرى استعرتها من طفولتي: ربط أجزاء محددة من اليوم بعادات وأنشطة معينة، وترك بقيّته ليتحرك بمرونة، لاستقبال المستجدات بسرور، وبقلق أقل.
وضعتُ اللبنات الأساسية لروتيني اليومي في مكانها، ومنها حددتُ السرعة والإيقاع لتنفيذ هذه الأنشطة، وهنا بدأت المتعة. دائمًا ما أذكّر نفسي: لا يوجد تقييم أو محددات خارجية للنجاح، أنا هنا مع نفسي أقيّمها وأعتني بها، أشبه بتناول وجبة لذيذة على مهل. إذا ملأت فمي بالطعام دفعة واحدة، سأفقد المتعة ويقينًا سأؤذي نفسي.
طوبة واحدة كلّ يوم
إذا كنت سأقدم نصيحة واحدة لمن يسألني عن بناء الروتين سأقول: ابدأ على مهل وجرّب كلّ شيء ولا تلتزم به حتى تحبّه، فهذا ما فعلته أنا. تعلمت كتابة يومياتي بالجلوس عدة دقائق في الصباح والمساء والحديث مع مذكرتي، وعندما يدوم الصمت بيننا أتوقف، كي لا يقتلنا الضجر.
بدأت بالتمرين الأحبّ إليّ، وهو المشي لعدة دقائق، وتطور لاحقًا إلى رياضات متنوعة تحرّك الدم في جسدي وتعينني على ساعات الجلوس الطويلة. ومرّرت الفكرة ذاتها على كلّ الأنشطة والعادات التي تَبَنيتها، وعندما نجحت فيها كلها، كافأت نفسي.
هذه إحدى أدوات التحفيز الرائعة التي احتجت إليها واحتجت إلى تغذيتها في داخلي، قبل توقّعها من الآخرين. والوقت الأمثل- برأيي- يأتي بعد إنجاز المهام فورًا. نهاية اليوم وقت مناسب للاحتفال بالمنجزات الصغيرة، وأراها فكرة صائبة في وقتٍ اختلطت فيه ساعات العمل ومساحته مع حياتي الشخصية.
كنت أتوقف عن العمل في ساعة معينة للخروج مع الأصدقاء والعائلة، أو مشاهدة برامجي المفضلة وإعداد وجبة شهية. أتوقف في ساعة معينة وأذكّر نفسي: يمكنني العودة هنا في الغد والبدء من جديد. هذه اللحظات كانت وقودي اليومي ومنطقة العبور الآمنة بين الصخب والهدوء.
أيام اختلال الروتين
خلال السنوات القليلة الماضية، تحولت إلى العمل الإبداعي كوظيفة أساسية، ومع هذا التحول احتجت لوضع المزيد من الجهد في تنظيم روتيني اليومي. أيّ اختلال بسيط في هذا النظام يظهر سريعًا على المنتج الذي أقدمه. لكنني لا أملك القدرة على تثبيت كل الظروف حولي، وهكذا، في أحيان كثيرة، تقع الفوضى ويختل توازني رغمًا عنّي.
إنَّ توقّع لحظات الاختلال يجعل علاجها أسهل من مقاومتها، والسرّ؟ في مساحات المرونة والتجريب التي تركتها في جدولي. أذهب في عطلة طويلة وممتعة وأعود بتثاقل للعمل، وأترك هذه الأيام تعبر بسلام حتى أستعيد توازني من جديد. عيني على الهدف البعيد، أو المنتج النهائي، فعدة ساعات في اليوم لضبط نومي لن تؤثر، وعدّة أيام خلال ثلاثة أشهر لن تؤثر.
أربط بين هذه الفترات وبين تمرين عضلاتي تدريجيًا بعد انقطاع، أرتب روتيني من الصفر بعادات وأنشطة بسيطة يبهجني إنجازها. ولو فشلت في الانضباط، أعود للتمرين من جديد.
ما أقوله لنفسي في أيام اختلال التوازن: «ركزي يا هيفاء على أساسياتك.» وهذه الأساسيات في صورتها الأولية: النوم الجيد وتسليم المهام العاجلة وتناول الطعام في وقته والاهتمام بالنظافة الشخصية. وإذا انتهى اليوم وقد أتممت هذه القائمة، أشعر بالراحة والثبات حتى تعبر العاصفة.
إعادة التقييم والتطلّع إلى القادم
لا يعني بناء الروتين وترتيب الحياة كتابةَ هذه القواعد أو نقشها في الحجر، فقوتهما تكمن في مرونتهما وقدرتهما على التجديد، وفي تبنّي ما يناسب كل مرحلة من مراحل حياتي. ما بدا سهل المنال العام الماضي قد يتغير في ليلة وضحاها.
بعد عدة أشهر، أو في وقت ما في المستقبل القريب، ستتقلص ساعات مكوثي في المنزل وتعود عجلة الأيام إلى حركتها الطبيعية. سأعود للركض في مضمار اعتدته سابقًا، لكن ذلك لا يعني الهلع. متى ما حدث ذلك، سأفتح ذراعيَّ للتغيير، وبحماسٍ أرسم خارطة كنز جديدة.