هناك مرض نفسي سببه اجتماعات زوم، وأصبت به
مرَّ عليّ ساعتان أمام الشاشة، أحدق في ستة وجوه مرهقة، منها وجهي. الوقت كان متأخرًا، الحادية عشر ليلًا متجاوزةً موعد نومي الاعتيادي...
مرَّت عليّ ساعتان أمام الشاشة، أحدق في ستة وجوه مرهقة، منها وجهي. الوقت كان متأخرًا، الحادية عشر ليلًا متجاوزةً موعد نومي الاعتيادي في الساعة التاسعة. كنت في غرفة نومي، سريري وطاولة مزينتي وفوضاي كلها مخفيّة خلف الحاسوب، الشيء الوحيد الظاهر من الغرفة أمام عين الكاميرا خزانة كتبي اللصيقة بظهري، وأنا، في كامل حلتي الرسمية.
لدى حديث مباشر بيني وأحد الوجوه، اعترتني فجأة حالة إعياء وسرت رجفة غريبة في جسدي، تلك الرجفة التي تسبق الدوّار، وأطرافي اعتراها الصقيع. ما إن ختم الوجه المتضخم حديثه عالي النبرة وابتعد عن الشاشة – بقية الوجوه تحدق فيّ ووجهي يحدق فيّ – أقفلتُ خيار الكاميرا خلافًا للمطلوب واكتفيت بالميكروفون حتى نهاية الاجتماع الذي استمر ساعة إضافية.
مرَّ زهاء الشهرين على تلك الحادثة، وما فتأت أفكر فيها. علام كانت تلك الرجفة المخيفة وكأنما تعرض أحدهم لي بأذى شديد؟ إلى أن قرأت قبل عدة أيام بحثًا نشرته جامعة ستانفورد في الثالث والعشرين من فبراير تشخّص فيه مرضًا جديدًا: «الإجهاد الزوميّ» (Zoom Fatigue).
يعود البحث الذي أشارت إلى نتائجه أغلب وسائل الإعلام العالمية والعربية لجيريمي بيلنسون، بروفيسور الاتصالات في جامعة ستانفورد والرئيس المؤسس لـ «مختبر التفاعل البشري الافتراضي».
يشخص بيلنسون في الورقة البحثية التي تحمل عنوان «فرط التحمل غير اللفظي: جدليةٌ نظرية حول مسببات الإجهاد الزوميّ» (Nonverbal Overload: A Theoretical Argument for the Causes of Zoom Fatigue) الجانب النفسي من ظاهرة الإجهاد المتأتي عن التواتر المتزايد في الاعتماد على اجتماعات زوم المرئية مذ بداية الجائحة قبل عام، ويلخصه في أربعة أسباب.
كابوس زوم والعين المحدقة أبدًا
في ثلاثية «سيد الخواتم» مشهدٌ ما ينفك يتكرر: عينٌ حمراء ضخمة أعلى برجٍ شاهق، لا تغمض ولا تطرف، إن وقعت على متسلل فلن ينج من تحديقها. فرص فرودو شبه المستحيلة في الفرار من تحديق «عين سارون» لا يملكها المشارك في اجتماع زوم مرئي، إذ بات محصورًا في مربع وفي قبضة تحديق عينه وعيون كل المشاركين في الاجتماع.
يقول بيلنسون أنَّ في واقع الحياة متى ما تكلمنا مع شخص، فنحن لا نمعن النظر حقًّا في ملامح وجهه. فالنظرة الممعنة هي نظرتنا لمن نحب ولأقرب المقربين إلينا، خاصة الخاصة، وفي مسافة حميمية لا تتجاوز ستين سنتمترًا. لكن مع الاجتماعات المرئية انتُهكَت هذه المسافة، إذ لا يسعك الابتعاد عن الشاشة أكثر من ستين سنتمترًا، وبذا احتلت كل الوجوه الغريبة مسافتك الحميمية ودائرتك الخصوصية.
وبحكم الحاجة إلى وضوح الصوت، واعتمادًا على طبيعة الشاشة (حاسوب، هاتف محمول، حاسوب لوحي) فالوجوه تنحو إلى الاقتراب من الشاشة، مما يصيّر حجم الوجه أكبر مما اعتادت عليه العين في الحياة الطبيعية. وبذا ستبصر العين في الوجوه تفاصيل دقيقة ليست في حاجة إلى معرفتها، إلا أنها سترهق العقل بتدوينها.
يشير بيلنسون أيضًا أنَّ العين المحدقة على الدوام تنقص من الحضور الاجتماعي للشخص، إذ تزيد من إحساس الانزعاج لدى الآخر بدلًا من منحه إحساس الود والانفتاح الذي تمنحه النظرة الطبيعية. وهكذا، بدلًا أن يعيش المجتمعون على زوم في تواصل مريح، يسود عليهم إحساسٌ من الانفصال عن الآخر في جو من الانزعاج غير المعترف به.
ومن ملامح الاتصال المرئي الجماعي أنَّ أيًّا يكن المتحدث، فالجميع أعينهم شاخصة على الشاشة، أي عليك أنت. بينما لو جرى ذات الاجتماع حول طاولة، فالأعين ستصوب نحو المتحدث إلى أن يفرغ من حديثه، ثم تنتقل إلى الآخر، لكن لن تكون عليك طوال الوقت.
كذلك فوجوه الآخرين متفرقة على مسافات متباينة منك وتحيطك من اتجاهات مختلفة، بينما على الشاشة الوجوه مصطفة جنبًا إلى جنب على ذات المسافة منك. والآن تخيَّل – في واقع الحياة – صفًا متراصًّا من الناس يقفون أمامك محدقين فيك على هذا النحو لساعات دونما انقطاع.
ماذا تعني لغة الجسد وفوضى الحواس في كابوس زوم؟
في تغريدةٍ مازحة، أشارت مارشا كوايلي، ناشرة ومحررة الدورية الأدبية (Arablit Quarterly) إلى غرابة الصور الثابتة التي تلتقط لها أثناء حديثها على زوم في مختلف الفعاليات الأدبية، إذ دومًا ما تظهرها غاضبة، تحدق عاقدة الجبين، ورافعة قبضتيها في الهواء.
صدف بعد التغريدة أن حضرتُ مشاركةً لها في مهرجان «فلسطين تكتب» على شاشة زوم، ولاحظت حدة تعبيرات وجهها وحركة يديها، لكن ما كانت غاضبة أبدًا، بل كانت تتحدث في منتهى الحماس والاهتمام.
يشير بيلنسون إلى أهمية لغة الجسد في التواصل البشري، وكيف ينساب التواصل غير اللفظي تلقائيًّا بين الأفراد في صورة الإيماءات وتعابير الوجه. في الحياة الواقعية، تعابير لغة الجسد نظامٌ معقّد، لكنه ينساب منا بسلاسة لكوننا غير واعين له. أمّا في العالم الافتراضي، ظلَّ نظام لغة الجسد على تعقيده، أما السلاسة فاختفت.
ففي العالم الواقعي، لا يفترض بك أن ترى نفسك حين تخاطب الآخر، وبذا فحواسك المعرفية مركزة على قراءة لغة جسد الآخر فحسب وإيصالها إليك. أما في كابوس زوم، تعيش حواسك حالة فوضى، فهي مطالبة لا بقراءة لغة جسد الآخر وحسب، بل لغة جسدك أنت. وهكذا تختلط الرسائل عليك.
ومن أكثر الرسائل التي تصل العقل وتزيد توتره مدى تناسب إيماءاتك مع ما يقول الشخص الآخر. يا ترى هل أظهرت الاهتمام الكافي بما يقوله؟ هل انتبه إلى إيماءة رأسي دلالة موافقتي؟ هل يحسب جمود وجهي ضجرًا؟
تدفع هذه التساؤلات بالكثير إلى المبالغة في إظهار تعابير لغة الجسد. فمثلًا يومئون لثوانٍ طويلة، يحدقون دلالة على الإصغاء، يكشرون بدل الابتسام، يبالغون في حركة اليدين تعويضًا عن الجمود الذي أصاب بقية أجزاء الجسد الذي ما عاد مشاركًا في اللغة بحكم بتره عن الشاشة: من أسفل الصدر وحتى القدمين.
رؤية الوجوه في مربعات متلاصقة تربك العقل، إذ مع مرور الوقت على الاجتماع وانغماسك فيه، ستنحو الحواس المعرفية إلى قراءة تلك الوجوه على أنها جالسة جنبًا إلى جنب. وبذا فإن التفت شخص فهز رأسه أو ابتسم، سيفسرها العقل إيماءة حقيقية إلى الشخص في المربع جانبه. وسرعان ما يصحح العقل انطباعه، لكن دورة الخطأ والتصحيح تلك ستترك أثرها المجهد عليه وعليك.
مرآة تلاحقك في كل مكان
يورد بيلنسون مثالًا على غرابة العمل في بيئة زوم: تخيّل لو كنت موظفًا لدى مؤسسة، وطوال تنقلك في ممراتها وبين مكاتبها وطوال جلوسك إلى مكتبك، ثمة موظف آخر مكلَّف بملاحقتك وحمل مرآة أمامك. على سخافة المثال، إلا أن بيلنسون يؤكد أن هذا هو كابوس زوم الذي يتعرض له المشارك على شاشته.
أجل، هناك خيار إغلاق الكاميرا، لكن هذا الخيار قد لا يكون مسموحًا لدى بعض الجهات. أو ربما ليس متاحًا لديك. لربما تخشى أن يفسر الآخرون إغلاقك الكاميرا تملصًا من الاجتماع أو دلالة ضجر أو نيتك التصرف على نحو غير لائق، أو قرارك الاستلقاء على فراشك وترك المتحدث يواصل كلامه.
في واقع الحياة، كل مرة ننظر فيها إلى مرآة فعلى الأرجح سنقيّم أنفسنا – ظاهرًا وباطنًا- ونحكم عليها بصورة سلبية أكثر منها إيجابية. لذا هي عادتنا ألا نجلس وقتًا طويلًا أمام المرآة.
لكن رؤيتنا انعكاس وجهنا على شاشة زوم لساعات، يسبب ضغطًا عصبيًّا علينا ويشوه المنظور الذي نرى فيه أنفسنا. ووفقًا لبيلنسون، فالدراسات تشير إلى أنَّ المرأة أكثر ميلًا إلى تقييم نفسها من الرجل كلما رأت نفسها على المرآة، وأكثر قسوة في الحكم على ذاتها، مما يدفع بها إلى الاكتئاب.
لهذا ليس من المستغرب الزيادة في اللجوء إلى عمليات تجميل الوجه، إذ وجد استطلاع أجرته الجمعية الأميركية لجراحي التجميل أنَّ 49% ممن لم يخضعوا لجراحات تجميلية أصبحوا منفتحين على إجرائها.
وتشير الدكتورة ماري هياج، طبيبة الأمراض الجلدية ومؤسسة مركز «فيفث أفنيو إيسثيتيكس» (Fifth Avenue Aesthetics) إلى ما تسميه «تأثير زوم» حيث ترتكز معظم طلبات التجميل على تصحيح الذقن المزدوج والتجاعيد وأكياس العين التي لاحظها الأفراد على وجوههم في مؤتمرات الفيديو.
مُقيَّدٌ على كرسيّك
في محاضرة أدبية أقامتها «المكتبة العربية» على شاشة زوم حول مفهوم العدالة في «ألف ليلة وليلة»، وبعد مرور ربع ساعة على استهلال المحاضِرَة إيناس خنسه عرضها الشيّق، وردت شكوى متكررة على عمود المحادثات من صوت تصفحها الورق.
إلى جانب تشتيت صاحب الشكوى تركيزها واندامجنا معها بتذمره الملح المبالغ فيه، تبين أيضًا احتياجها إلى الاقتراب أكثر من شاشة حاسوبها حتى يُسمَع صوتها. وبذا وجدت نفسها حبيسة الجلوس في وضعية غير مريحة بقية العرض.
مهما يكن المكان الذي تجلس فيه فسيحًا، فمدى أي كاميرا محدود. وكلما اقتربتَ من الكاميرا، ضاق المدى الذي تصوره. وفي اجتماعات زوم المرئية حيث أنت مضطر للاقتراب من الشاشة كرمى وضوح الصوت والقدرة على الطباعة، فلا يهم اتساع محيطك، إذ سيظل المدى ضيقًا وكأنك تطل على الآخرين من فوهة مخروط.
ومن هذا المنطلق يشير بيلنسون إلى افتقار التواصل البشري في عالم زوم الافتراضي عنصرًا آخر يلعب دورًا هامًا في تحسين عملية التواصل: حركة التنقل. في واقع الحياة، يترافق التواصل مع إمكانية الحركة، فإما يرافق التواصل الوقوف أو التمشية أو الحركة ضمن حجرة المكتب، أو التنقل في وضعية جلوسك بين انتصاب ظهرك أو الانحناء أمامًا أو للخلف.
من حيث المبدأ، لا يمنعك زوم عن التحرك والتنقل في أرجاء المكان. لكنك بتَّ مجبرًا بحكم العرف الزوميّ على التقيد بالجلوس في مكانك وحصر نفسك في المدى الحسير لكاميرا زوم وميكروفونها. Click To Tweet
ويعود بيلنسون إلى الوهم الذي يتشاركه الجميع لدى تحادثنا على الهاتف. إذ كلما اتصلنا بأحدهم، يحلو لنا التصديق أنَّ الموجود على الطرف الآخر يمنحنا 100% من اهتمامه، لا شيء يفعله سوى الإصغاء إلينا. لكن في الواقع لا أحد يفعل ذلك. فعلى الأرجح، بينما نجري محادثة هاتفية، نفعل أشياء أخرى.
أشياء بسيطة لا تؤثر على مستوى مشاركتنا، لكننا نفعلها لأنها تخفف عنا ضغط الحديث والإصغاء. ربما ستؤشر بيدك لأحدهم، تعد قهوة، تستلقي على الأريكة، تتمشى في الأرجاء، تشاهد مباراة مع كتم الصوت. لكن الاتصال المرئي يحطم هذا الوهم، ويتركنا نواجه بعينين مفتوحتين واقع الجهد المبذول في الحديث والإصغاء.
التعايش مع كابوس زوم
حتى بعد الجائحة لن تغادرنا زوم، لا سيما وقد أثبتت نجاحها في تخفيف الازدحام وتلوث عوادم السيارات، وتخفيف العبء عن الموظفين ممن يرغبون في مواصلة العمل في بيوتهم لأسباب شخصية، بعد أن أثبت الواقع القدرة على أداء الكثير من المهام عن بعد وبكفاءة عالية.
ولربما لا تنحصر المشكلة الحقيقية، كما يراها بيلنسون، في زوم كوسيط فحسب، بل في تواتر استخدامه. إذ أليس من المستغرب أنَّ عدد الاجتماعات التي يحضرها الموظفون عبر زوم خلال جائحة كورونا يفوق بكثير عدد الاجتماعات التي كانوا سيحضرونها في واقع الحياة؟ بل وتستغرق وقتًا أطول.
وهل من داعٍ حقًّا لاعتماد التواصل المرئي عبر زوم كل مرة نود أن ننفذ فيها مهمة؟ ألا يكفي التواصل في رسائل الواتساب؟ ألا يكفي اتصالٌ هاتفي كما كان عليه الحال لعقود كثيرة سابقة؟
في كل الأحوال، التعايش مع كابوس زوم مطلوب، وثمة حلول بسيطة وجدها الموظفون مفيدة في تخفيف أثره. من تلك الحلول: اعتماد خيار إغلاق الشاشة الذاتية، أو اقتناء كاميرا ويب أو لوحة مفاتيح منفصلة تتيح الابتعاد عن الشاشة.
أو الاتفاق مع الإدارة على اعتماد الاجتماعات الصوتية، أو إلحاحك على مسؤولك وزملائك الاتصال بك على الهاتف مما يتيح لك حرية التنقل في بيتك بينما تتواصل. أو تحريك عينيك بين الفينة والأخرى بعيدًا عن الشاشة، أو الاتفاق مسبقًا مع الزملاء على استراحة ينهض فيها الكل ويتحرك.
كابوس زوم: الإجهاد مرضٌ حقيقيّ
لاقت ورقة بيلنسون التي لم ينقض أسبوعين بعد على نشرها اهتمامًا كبيرًا واسع النطاق على الصعيدين الأكاديمي والإعلامي. وتداولها الكثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي لأنها أضفت مصداقية على معاناة نسبة لا يستهان بها من الموظفين من الإجهاد الزوميّ.
لن تكون ورقة بيلنسون الدراسة الوحيدة، إذ نشرت قبل أيام ورقة بحثية لأندرو بينيت، بروفيسور مساعد في جامعة أولد دومينيون، يصل فيها إلى مسببات للإجهاد المتأتي عن الاجتماعات المرئية على زوم مختلفة عن مخرجات ورقة بيلنسون.
وكما الحال عليه مع كورونا، لا يزال العلم يبحث في مسببات الإجهاد الزوميّ. وكذلك، كما الحال عليه مع كورونا، فأعراضه لا تظهر على الجميع، أو على الأقل ليس بذات الحدّة. فثمة من يملك مناعة نفسية وذهنية عالية. أما من مناعته ضعيفة، ففي هذه الحال الاحتراز في استخدام زوم والأخذ بالاشتراطات الصحية خير علاج.