موجة اندماج المصارف الخليجية في وجه التحديات المستقبلية
تمر المصارف الخليجية بموجة اندماج واسعة، لكن ماهي الدوافع خلفها وهل ستنشأ منها نشوء احتكار مصرفي؟
تمرّ المصارف السعودية بموجة اندماج هي الرابعة تاريخيًّا. ففي اجتماع الجمعية العمومية مطلع مارس 2021، صوَّت مساهمو بنكي الأهلي وسامبا السعوديين بالموافقة على اندماج المصرفين تحت اسم «البنك الأهلي السعودي».
وبذا سيخرج الاندماج بنشوء أكبر كيان مصرفي في السعودية وثالث مصرف في الخليج، بإجمالي 223 مليار دولار أصول مجمّعة والأول في الشرق الأوسط من حيث صافي الدخل البالغ 1.9 مليار دولار.
ولا تقتصر موجة الاندماج على المصارف السعودية، فالبنوك الخليجية أيضًا تمتطي ذات الموجة. إذ تأتي هذه التحولات في ظل هشاشة متوسط نمو الاقتصاد العالمي ما بين عامي 2007 و2019، بالإضافة إلى نشوء ضبابية اقتصادية وصحية على المستويين العالمي والإقليمي مع تداعيات كورونا الاقتصادية، والتي طالت جميع الاقتصاديات العالمية بلا استثناء.
لذا، فالطرح هنا قائم على أساس تغيرات النمو العالمي ودخول البنوك مع منافسين جدد غير تقليديين، عبر بوابة التقنية.
تنامي الديون وضبابية النمو الاقتصادي
تشير التقديرات أن الدين العالمي سيصل إلى 98% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية 2020، في حين أن الدين العالمي لم يتخطَّ 84% لعام 2019، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي الصادرة في تقرير «الراصد المالي» يناير 2021؛ أي أن معدل التغير بلغ نسبة قدرها 17% أثناء أزمة كورونا.
وبلغت حجم الإعانات المالية المقدمة من الدول لاقتصاداتها 14 تريليون دولار، في محاولة لتخفيف الآثار الاقتصادية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوظائف في القطاع العائلي.
كما أن التقديرات المتوقعة لمتوسط عجز ميزانيات العالم بلغت 10% من إجمالي الناتج المحلي. غير أن عجز الاقتصاديات المتقدمة سيرتفع إلى مستويات أعلى من 13% من حجم إجمالي الناتج المحلي لنفس العام.
أدى الإغلاق الاقتصادي في معظم دول العالم إلى تعثر سداد ديون الشركات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى التحديات والصعوبات التي تواجهها الشركات الكبرى في سداد ديونها للمصارف. كما سبب فقدان ملايين الوظائف إلى تعثر سداد ديون الأسر. وهكذا، تأثرت المصارف وجاء تأثرها متفاوتًا بحسب تقبل كل مصرف مخاطر الاقتراض ومدى التزامه بمعايير تحوط البنوك التنظيمية والقانونية.
وبالرغم من كل تلك التحديات، تميزت السعودية بصرامة تطبيق معايير بازل في هذا الجانب، وكذلك كان الحال مع معظم البنوك الخليجية.
أما الهياكل الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي، فتعتمد على النفط والغاز بشكل أساسي والتدفقات النقدية القادمة من الخارج الآتية في صورة مبيعات نفط وغاز. ونظرًا للإغلاق الاقتصادي العالمي، تراجعت أسعار المواد الأولية بما في ذلك النفط. حيث سجلت أسعار سلة أوبك للنفط 12.2 دولار في 22 أبريل 2020، إلا أنه سرعان ما عاود الصعود حتى نهاية العام مسجلًا متوسطًا سعريًا بلغ واحدًا وأربعين دولارًا لعام 2020.
وبما أنَّ النفط يعد مسطرة التضخم العالمية، فجميع المؤشرات تدل على أن العالم أمام مشهد ضبابي يغيّم مستقبل النمو الاقتصادي.
البنوك المركزية تتولى القيادة
الحقيقة أن البنوك المركزية حول العالم بقيادة البنك الفيدرالي الأميركي تقود المشهد الاقتصادي. ولهذا ستواصل البنوك المركزية ضخ مزيد من الأموال شبة المجانية إلى عمق الاقتصاد، حتى يعود إلى النمو مرة أخرى، لا سيما إذا ما تراجعت معدلات الإصابة العالمية بالفيروس.
ففي ظل معدلات سعر فائدة منخفضة ولمدة زمنية طويلة، ستنخفض أرباح المصارف بشكل تلقائي. إذ ستضع التجارة النقدية المعتمدة على سعر الفائدة المؤسسات المالية -سيما المصرفية- أمام تاريخ جديد مدعوم بظهور جيل حديث من النقود والتقنيات المالية التي ستغير قواعد اللعبة.
ثم إن العملات المشفرة ستصبح واقعًا يفرض نفسه على الاقتصاد العالمي. ومن وجهة نظري الاقتصادية، ستمثل تلك العملات الجيل الجديد من النقود. وأعتقد أن البنوك المركزية والمصارف التجارية تملك استعدادات تقنية نحو هذا الاتجاه.
وبشكل خاص لدى إقرارها وقبولها عالميًا من البنوك المركزية حول العالم، بما في ذلك بنك التسويات الدولي كوسيط تداول نقدي آمن وخالٍ من التجاوزات المتعلقة بجرائم غسل الأموال والجرائم المالية والاقتصادية الأخرى.
دوافع اندماج المصارف الخليجية
عندما تواجه أي شركة عمومًا -بما في ذلك المصارف- تحديات تتعلق بتغييرات هيكلية في الأسواق نتيجة عوامل اقتصادية مؤثرة على الإيرادات والأرباح والنمو المستهدف أو إثر مبررات تقنية أو ظهور منافسين أكبر؛ تطرح مجالس إدارة تلك الشركات التحالفات والاندماج كخيارات استراتيجية لمواصلة النمو والمحافظة على نسب الأرباح وتنمية حقوق المساهمين وتحقيق الاستدامة الاقتصادية.
وفي دول الخليج العربية، تُعزى دوافع وتفسيرات اندماج مزيد من المصارف إلى جذرين أساسيين. ينطوي الأول في كون اعتماد معظم دول الخليج العربية برامج انفتاح اقتصادي. مما يتطلب وجود مصارف كبيرة قادرة على تمويل الاقتصاد ومشاريع كبرى، وفي ذات الوقت قادرة على الاستمرار في تمويل القطاع العائلي والمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
أما الجذر الثاني، فهو أن التعاضد المالي ما بين البنوك سيؤدي نظريًّا إلى زيادة الأرباح وخفض التكاليف. إذ سيسهم الفرق ما بينهما في رفع كفاءة وزيادة العائد على أسهم المصارف السنوية.
كذلك، يعزز الاندماج عتبة قبول المخاطر لدى المقرضين الدوليين. فمثلًا قبل الاندماج، يصنف كل بنك وفق درجات تقييم مختلفة بحسب مخاطر كل بنك وبشكل منفرد. لكن حين الاندماج، ستنخفض المخاطر الإقراضية الكلية، ويمنح المصرف الجديد قدرة أكبر في الإقراض والاقتراض.
وفي ذات السياق، يولّد الاندماج مزيدًا من القدرة على النفاذ إلى أسواق خارج الخليج العربي دون التأثير على الأداء داخليًّا. وهكذا، سيخفف البحث عن الربح خارج الحدود الجغرافية في الخليج العربي من آثار السيناريوهات المتشائمة التي ترجح تراجع زخم معدل النمو الاقتصادي العالمي.
وأعتقد أن النفاذ المالي للبنوك الخليجية في حال تمددها إلى مناطق جغرافية جديدة سيتجه صوب الاقتصاديات الناشئة. ويعد هذا الأمر أيضًا جزءًا من الانفتاح الاقتصادي في الاتجاهين: وجود بنوك أجنبية جديدة في الخليج أو خروج البنوك الخليجية للعالم كبنوك أجنبية تبحث عن عوائد وأرباح من التجارة النقدية.
هل يؤدي الاندماج إلى نشوء احتكار مصرفي؟
على الأرجح ستظل أسعار الفائدة على المدى الطويل من المستقبل المنظور منخفضة. كذلك، سيظل حجم المعروض من الدولارات في الأسواق مرتفعًا. مما يحتم على المصارف الاستعداد لخوض تحديات الإقراض المنخفض وتحديات استمرار التضخم والتقنية ودخول منافسين جدد من خلال التقنيات المالية والبنوك الرقمية.
نظريًّا، يؤدي التركز الاقتصادي من خلال تقليص عدد البنوك عبر الاندماج إلى نشوء احتكار وضعف منافسة، ويعكس هذا الرأي مخاوف المدافعين عن المنافسة. لكني أرى أنه -وفي ظل وجود بنوك مركزية قوية وفعالة ومدعومة باحتياطيات نقدية مملوكة للحكومات- لن نشهد على المستويين القريب أو المتوسط أي مظهر من مظاهر الاحتكار المصرفي بشكل صريح.
ويعزى ذلك إلى قوة البنوك المركزية الحكومية في التدخل التنظيمي والمالي وتعديل أي انحراف عن مسار الأهداف الاستراتيجية الكبرى المتعلقة بالنمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل وضمان استمرار التمويل للاقتصاديات الخليجية بطرق آمنة وفعالة.
شخصيًّا، أميل كثيرًا إلى تأييد الاندماج المصرفي بين البنوك الكبيرة والصغيرة. وذلك بسبب منافع الاندماج المعروفة اقتصاديًّا، وكذلك من واقع تصوراتي الاقتصادية عن المستقبل القادم والتحولات الكبرى التي قد يشهدها النظام الاقتصادي العالمي. وما قامت به البنوك المندمجة ليس إلا استعدادًا للمستقبل.