دستور آيرا قلاس: القصة في الراديو
بعد ثمانية أعوام من الصعوبات انطلق آيرا قلاس في برنامجه «الحياة الأميركية» ليصبح عراب السرد الإنساني، وهنا أهم الدروس التي تعلمها.
لطالما كانت الحكايا المرويّة مستودع ذاكرة الشعوب ومنبع الحكمة وتجسيد الرابط الإنساني الذي يجمعنا. ولا كل الحكايا يكتبها مؤلفون ومسرحيون وشعراء، بل من الحكايا ما يرويها أناسٌ عاديون، لكنَّ أصواتهم تترك صدى في نفوس المستمعین وأثرًا على نظرتهم للحياة. ولأنهم أناسٌ عاديون، فلا بد لأحدٍ أن ينقل أصواتهم ويساعدهم على سرد قصتهم. ومن أولاء الذين تركوا بصمة في سرد قصص الناس، آيرا قلاس، مضيف برنامج «الحياة الأميركية» (This American Life) على الإذاعة الوطنية «إن بي آر» (NPR).
بدأ اهتمام آيرا قلاس بكتابة القصص الإذاعية مذ كان في التاسعة عشر، لكن الفترة الصعبة التي لازمته ثمانية أعوام أعاقت انطلاقة عمله الإذاعي. وفي هذا الدستور، يشارك قلاس أهم الدروس التي تعلمها في مساره المهني وجعلت منه عرّاب السرد الإنساني القريب من قلوب المستمعين.
ونصيحته الأولى لكل مبتدئ أن يسمح لنفسه بالتعلم من التجربة حتى أقصاها، وإن كان يملك الشغف فيما يفعل، فعليه أن يسمح لنفسه بارتكاب الأخطاء والتعلم منها دونما خزي أو إحساس بالفشل.
البند الأول: اجبر نفسك على كتابة العديد من القصص
من شأن الكتابة أن تخضع للمماطلة والتشكيك الذاتي، فينتهي الحال بك مجهدًا وخائبًا دونما إنتاجٍ حقيقي. ويقترح آيرا قلاس أن تفعل التالي حتى تتجاوز هذا العائق: «ضع نفسك في بيئة يترقب فيها الناس أعمالك، أو حيثما تضطر إلى إجبار نفسك على كتابة عدد معين من القصص كل شهر وتسليمها للنشر. افعل ذلك وستجد أنَّ المواعيد النهائية حليفتك.»
فمع وجودك في موقع يجبرك على كتابة القصص، ستجد نفسك أقدر على مجابهة شكوكك والانتهاء من كتابة قصصك وتسليمها.
البند الثاني: ابتكر نمط عملك الذي يناسبك
كلٌّ منا يملك نقاط ضعف وقوة، ومن الذكاء المهني التركيز على نقاط القوة لديك، بدلًا عن ترك نقاط ضعف تحبطك. فرغم أنَّه بدأ العمل في الإذاعة الوطنية مذ كان في التاسعة عشر، لم يتمكّن قلاس من إعداد القصة الإذاعية إلا حين أصبح في السابعة والعشرين. استلزمه وقتًا أطول من المعتاد كي يكتسب المهارات الأساسية، لكنه اكتسب أيضًا مهارات خاصة في مونتاج الأشرطة، منحته ميزة النجاح في نمط معين من الإعداد.
«لطالما كنت محررًا صوتيًّا ممتازًا، ورافقتني تلك الميزة في عملي الإذاعي منذ بدايته. كنت حينها محاورًا لا بأس به وقارئًا وكاتبًا مريعًا. لكني ابتكرت هذه السلسلة من القصص حيث أقابل أشخاصًا يروون قصصهم، ثم أحذف صوتي من التسجيل نهائيًّا. أتركهم يسردون القصة ويتأملون معانيها. دونما نص معدّ. دونما راوٍ.»
أطلق هذا النمط من القصص مسار آيرا قلاس، لكن نصفها في الآن ذاته، لم يجد طريقه إلى الإذاعة. إذ لا يملك كل الأشخاص القدرة على السرد بأسلوبٍ يثير الاهتمام. وهنا أيضًا تعلّم درسًا آخر.
البند الثالث: خطط أهدافك مسبقًا مع كل قصة
مع توالي القصص، أدرك قلاس أنه بحذف صوته وحضوره في التسجيلات، إنما يحذف الكثير من لحظات التفاعل بينه وبين الضيف، والتي قد تثير اهتمام وتعاطف المستمع. أدرك هذا من استماعه إلى تسجيلات زملائه، إذ وجد تلك اللحظات العفوية الأكثر إثارة في القصة.
«فالمتحدث في القصة يجب أن يكون أكثر من مجرد رأسٍ ناطق يسهب في إبداء وجهة نظره. وأحيانًا كل ما تحتاج سطرٌ واحدٌ من التوصيف، خاطرة عفوية حول المتحدث ولِما يعتقد ما يعتقد، لحظةٌ مفاجئة، لحظةٌ مضحكة يلتقطها الشريط، حتى تضفي صورة أكثر إنسانية عليه.»
من الطبيعي ألا تطيق سماع صوتك أو أسلوبك في طرح الأسئلة في بداية عملك كمراسل، لكن أجبر نفسك. فحتى تخرج بقصة جيدة، يلزمك استغلال كل الأدوات المتاحة لديك. وحتى تتمكن من فعل ذلك، ينبغي الاستعداد دومًا بخطة مسبقة قبل كل لقاء.
«وإذا اضطررت إلى تقديم نصيحة واحدة فقط للمراسلين المبتدئين حول الطريقة الأسرع لتحسين قصصهم، فستكون الانخراط في المقابلة، طرح أسئلة صعبة، ملاطفة الضيف وممازحته، التفكير بصوت عالٍ والدردشة معه. حينها الاستماع إلى التقارير اليومية في الإذاعة العامة سيغدو أكثر متعة، وسنعرف أكثر عن شخصيات الضيوف إن اتبعنا هذا الأسلوب في المقابلات.»
البند الرابع: قلِّد الآخرين
التعلم من الآخرين أداة مهمة لدى كل كاتب. «ففي البدايات حين لم أفهم حقًّا كيفية كتابة القصص الإذاعية، كان الشيء الوحيد الذي يساعدني حينها تقليد كتابات الآخرين. أتذكر على وجه التحديد هذه الحركة التي سمعت ألكس تشدويك يتبعها في قصة من القصص. حركةٌ جيدة وأشجعك على سرقتها كما فعلتُ أنا.»
تنطلق تلك الحركة التي تعلمها آيرا قلاس من ألكس تشدويك من قصة بدت فردية وبسيطة، لكنه حولها إلى موضوع يثير اهتمام العامة ويلقي الضوء على الإطار الأشمل. القصة كانت عن طالبة في فصل الأحياء ترفض تشريح ضفدع حي من باب رفضها إيذاء روحٍ عمدًا. اعتراض الطالبة البسيط جوبه بتعنت المدرسة، إلى أن بلغت القضية المحكمة المحلية، وأمر القاضي بأن تحترم المدرسة رغبتها وتؤمن لها ضفدعًا ميتًا أو على وشك أن يموت بأسباب طبيعية.
لدى كتابته القصة، (هي ذي الحركة التي يريد قلاس منك سرقتها) استهل تشدويك: «أزعجها أنَّ مخلوقًا لا بد أن يموت فقط حتى تشرح جسده للدراسة. كانت مسألة مبدأ. ومثلها مثل الكثير من القضايا الخلافية، انتهى الحال بها إلى المحكمة.»
بتضمينه هذه الجملة: «مثلها مثل الكثير من القضايا الخلافية»، انطلق تشدويك من المحلي الخاص إلى العام، وكذلك مع «كانت مسألة مبدأ» فما عادت القصة قصة طالبة واحدة، بل قصة كل من يتمسك بمبدأ في الحياة.
البند الخامس: ما هي القصة؟
في مجال العمل الإذاعي، ستتلقى الكثير من مقترحات القصص، ومع الخبرة سيتطور حدسك تجاه كل واحدةٍ منها، «فالعديد من القصص لا تستحق المتابعة: قصص إما تذكرك بأخرى سمعتها من قبل أو لا شخصيات فيها تثير التعاطف. وثمة قصص تتمتع بشيء من -لا أدري ما الوصف المناسب- لكن فلنقل كارزما، جاذبية لدى المتلقي.»
عامل المفاجأة مهم أيضًا، فلا تريد سرد قصة يسهل على المستمع توقع أحداثها فيمل ويغير المحطة. لذا يقترح قلاس عليك هذه الحيلة:
«إحدى الطرق البسيطة لاختبار ما إذا كانت القصة تستحق أن تبث بالإذاعة، سردُها على أصدقائك وملاحظة شعورك اتجاهها. هل تشعر بأنك تمر بلحظات مملة، ودائمًا على وشك فقدان اهتمامهم، تمر عليك لحظات لست متأكدًا عمَّ تدور القصة أو لم تروي أجزاءً معينة منها؟ أو هل يضحك أصدقاؤك ويشترون لك المشروبات لكي تخبرهم بمزيد من التفاصيل حول الشخصيات؟ متى ما فرغت من سردها، هل سيخوضون في نقاشٍ حماسيّ حول قصص مماثلة حدثت لهم؟ كل هذه التفاصيل الصغيرة انتبه لها جيدًا.»
فإذا لم تتمكن من سرد القصة بشكل مقنع على صديق، فهذا يعني إما أنك لم تكتشف حقيقةً عمَّ تدور القصة أو على الأرجح لا تصلح لسردها كقصة مثيرة للاهتمام في الإذاعة، أو ربما أنت من لا يرويها بالشكل الصحيح. لهذا متى ما علق مراسل في قصة، يطلب قلاس منه إلقاء دفاتر الملاحظات بعيدًا وروايتها عليه كأنما يرويها لصديق.
البند السادس: أساسيات بناء القصة
قبل كل شيء، توقع الأفكار الكبيرة في القصة قبل البدء في إجراء المقابلات، فتلك الأفكار هي التي تشكل سير المقابلة. «فالقصة الإذاعية بالنسبة إليّ تتكون من جزأين أساسيين. الجزء الأول الحبكة، حيث يخوض شخصٌ ما عدة تجارب. والثاني لحظات التأمل، حيث يقول ذاك الشخص (أو شخصية أخرى في القصة، أو الراوي) تعليقًا يثير الاهتمام حول ما حدث.وكلا الجزئين يجب أن يكونا شيّقين.»
فإن كانت لديك حبكة مثيرة، اكتشف أحدهم أنه متبنى أو عثر على حب حقيقي أو ذهب في مغامرة إلى بركان متفجر، لكن لا خلاصة خرج بها الراوي من القصة ولا أثر كان لها على بصيرته ومسار حياته، فهذه ليست بقصة.
«وأحيانًا، حتى لدى توقعك الأفكار، ستفاجأ ما إن انتقلت إلى الميدان بأنَّ لا شخص في القصة يملك شيئًا مثيرًا للاهتمام ليقوله. أو أن حقائق القصة ظهرت مختلفة عما كنت تتوقع، أو أمرٌ آخر فشل وسرعان ما تبخرت قصتك في الهواء. نصف المقابلات التي أجريتها لم تُنشر على الأرجح لهذا السبب بالذات.»
فالقصص التي ترويها قصصٌ شخصيّة، لكن التعرف على الجوانب التي تخلق منها شيئًا مفاجئًا لم نعرفه عن العالم منوطٌ بك. كيف لهذه القصة الشخصية أن تفتح أعيننا على قصة إنسانية أكبر تمس الكثير من الناس؟ هكذا يجب أن تكون القصة الإذاعية. ودائمًا ضع في الحسبان، أنَّ الكثير من الأفكار -حتى وإن كانت تحمل قصصًا رائعة- توءد في مراحلها الأولى بسبب الميزانية المحدودة، فلا تدع ذلك يحبطك.
البند السابع: متى لا تكون القصة قصة؟
يظن كثيرٌ من الناس، من ضمنهم طلبة قسم الإذاعة وحتى مراسلو الصحف، أنَّ أي حدث مادة دسمة لخلق قصة إذاعية. لكن الواقع غير ذلك. فجوهر القصة الإذاعية يقوم على الدراما الإنسانية، وما كل الأحداث التي نعيشها أو نسمع بها ينطبق عليها الوصف. حتى يكون هناك راوٍ فلا بد من سرد، وحتى يوجد السرد فلا بد من حبكة وبطل.
«ربما يقول أحدهم: سأنطلق برحلة في أنحاء البلاد وقد اشتريت هذا المسجل وأفكر بتسجيل لقاءات مع الأشخاص الذين سألتقي بهم على طول الطريق. أفكار كهذه سيكون من الصعب تحويلها إلى قصص سردية، فلا شيء على المحك. لا شيء يدفع القصة إلى المضي قدمًا، ولا شيء مقنع تحاول الشخصيات اكتشافه. دونما حبكة صراع، لا يمكن للسرد أن يقوم. ليس بلا أشخاص يريدون أشياء مختلفة وينظرون إلى الحياة من وجهات نظر مختلفة.»
كذلك قد يقترح أحدهم قصة لكنها ليست بقصة، بل مجرد فكرة ربما تتأتى منها قصة جيدة، لكن ليس دونما بحث مبدئي. مثلًا، قد يقترح أحدهم قصة إذاعية عن عائلة ربحت اليانصيب قبل أربعة أعوام. هذه فكرة قصة، لكن حتى تصير كذلك، فعلى من قدم الاقتراح البحث أولًا عمّا جرى بتلك العائلة، وإن كان ما حدث يستحق السرد.
وحتى إن وجد حبكة، فهل هناك في العائلة من يحسن روايتها بما يثير اهتمام وتعاطف السامع؟ فعلى خلاف القصة الصحفية، يرى آيرا قلاس أن على القصة الإذاعية أن تتضمن عناصر التشويق والمفاجأة، حتى تسلب انتباه الناس وتبقيهم مخلصين للمحطة.
البند الثامن: ثق بحدسك، واستعد لقتل قصتك
لا ينسى آيرا قلاس شعوره بالضغط الكبير بداية عمله الإذاعي. فإن كنت مراسلًا مبتدئًا سيطاردك شعورٌ ملحّ بإنجاز قصتك، وستجبر نفسك على إنجاحها بأي صورة حتى إن كان حدسك ينبئك بأنها فاشلة. ما سيحدث أنك ستهدر وقتك وجهدك عليها، وستضطر في النهاية للتخلي عنها، حينها ستلوم نفسك على فشلها، وستظن أنَّ الخطأ خطؤك. لذا ينبغي بك تعلم التخلي عن القصص سريعًا.
«ثمة أسطورة مفادها أن لكل شخص قصة […] بالتأكيد الأمر كذلك، لكنها ليس بالضرورة مادة تروى على الإذاعة. من المهم أن تدرك متى ما لم يكن من شيء، أي شيء مثير للاهتمام على شريطك، أن تتركه وتمضي قدمًا إلى القصة التالية. هنا يساعدك عرض شريطك على الآخرين والحصول على ردود فعل صادقة منهم. قتل قصتك ليس بالأمر الذي يدعوك للخجل. برأيي، إذا لم أقتل ما لا يقل عن ثلث المقابلات التي أجريها في البرنامج الإذاعي، فأنا لا أغتنم الفرص الكافية. قتل القصص جزء لا يتجزأ من رحلة بحثك عن القصة الرائعة.»
إعداد القصة الإذاعية عملٌ مرهق، وبالتأكيد لن تثمر كل محاولاتك بالنجاح. لكن تذكّر أنك في النهاية قاصّ، أنك في مهمة البحث عن الأصوات التي تستحق قصصها أن تُروى ويحتاج الناس للاستماع إليها. فاتبع قلبك، واستمتع برحلتك. انتقل من مقابلة إلى مقابلة. لاحق القصص التي تثير اهتمامك. ولتكن المسجلة دومًا جاهزة في جيبك، ومع شيءٍ من الحظ، ستجد قصتك.