الصحراء الغربية بين اللوائح الذهبية والسوداء

يعلن ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، بمقابل وتنازلات لا تأبه بمستقبل المنطقة.

كغالب تغريداته التي تأتي على غفلة وبكثيرٍ من الجدل، أعلن ترمب قبل أسبوع عن اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية المتنازع عليها، مقابل إقامة المغرب علاقات دبلوماسية مع إسرائيل

ويبدو أن ترمب الذي تسلم الرئاسة تحت شعار إرجاع أمجاد أميركا، يغادر البيت الأبيض الآن بعقلية رجل أعمال يسبر أغوار أراضٍ بعيدة، وممهدًا لما زعم أنه نهاية هذا الملف الذي طال انتظار حله، ملف الصحراء الغربية، في انتظار رد فعل الأمم المتحدة وحكومة بايدن المنتخبة التي عبرت عن تشكيكها في قرارات ترمب المعارضة للأعراف الدولية.

تعود أسباب النزاع في الصحراء الغربية إلى المقاومة التي قادها الصحراويون ضد الحكم الاستعماري الإسباني، والمعروفة الآن بجبهة البوليساريو. وتحول النضال بعد انسحاب إسبانيا من الإقليم عام 1975، إلى صراع مع الدول المجاورة للمغرب وموريتانيا.

انسحبت الأخيرة عن التنافس على الإقليم عام 1979 ، وأصبحت الحرب بين جبهة البوليساريو -الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب الساعية لتحرير الأراضي الصحراوية منذ 1973- المدعومة من الجزائر؛ والمغرب.

لكن للمغرب رواية ثانية، وحدة ترابية من الشمال للجنوب، قسمتها الدول الاستعمارية -فرنسا وإسبانيا- لكنها تبقى بجميع جهاتها، تحت راية واحدة.

الصحراء مقابل فلسطين

بهذا الاعتراف، يشطب المغرب مهمة علقت على رأس أجندته الخارجية لعقود، والورقة الحاسمة في كثيرٍ من علاقاته الدبلوماسية؛ ولا يقدّم في المقابل شيئًا غير الإعلان عن علاقاته بالكيان الصهيوني، والتي استمرت سلفًا في الظل لسنوات.

فإلى جانب تعاونهما الاستخباراتي وتبادل الخدمات السياسي منذ حوالي الستين عامًا، يبدو أن تطبيع العلاقات سيأخذ في الظاهر شكلًا ثقافيًا، وهو ما أكده وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، حينما شدد على الجانب اليهودي من تاريخ البلد وعلاقته المتينة بالطائفة اليهودية.

واشتغل بوريطة في السنوات الأخيرة، بمعية جاريد كوشنر ونائب مدير الموساد السابق، رام بن باراك، ورجال أعمال يهود مغاربة تربطهم علاقات متينة بواشنطن، على إنجاح الصفقة؛ رغم معارضة عضو مجلس الشيوخ، جيم إنهوف والتي كانت السبب في إرجاء إعلان الصفقة حتى مضي الانتخابات الأميركية.

ولم تأت توأمة المسألتين من باب الصدفة، بل كانت نتاج جهود جنّدت لها كامل قوى البروبقندا والعلاقات الشخصية، وقُدّمت كما العادة كقضية وحدة ترابية ومقياسٍ للوطنية. فباستثناء من خرجوا في مظاهرات منددة بالتطبيع، وبينهم رموز يهودية مغربية معروفة، ليصدّوا بالقمع؛ يبدو أن الشارع المغربي تأرجح بين متقبّل على مضض ومهلل ومصفق.

تناقلت الصحف وقنوات الأنباء الخبر، وسلطت الضوء على ما تعنيه هذه الصفقة للدول الأطراف: سفارات تفتح، وأنباء عن تأسيس قواعد عسكرية متعددة الجنسيات في منطقة القرقارات الحدودية الواقعة تحت السيطرة المغربية، والتي تعدها البوليساريو خرقًا لمعاهدة 1991 لوقف إطلاق النار. وكذلك صفقات سلاح بالملايين وإمكانيات استثمار لا متناهية.

وفي مدخل مقهى معروف مقرّب من القصر، على شاطئ الدار البيضاء، وجدت صورة ترمب المبتسم لنفسها مكانًا، والأعلام المغربية جوار أعلام الدولة التي تشاركها مياه المحيط الأطلسي، من الضفة الأخرى.

حينما تتغير التصنيفات

مذ قرأت منذ سنوات كتاب ميلان كونديرا النقدي، «لقاء»، وفكرة اللوائح الذهبية والسوداء عالقة ببالي. وصرت من باب السخرية حينًا، وبكل الجدية في أحايين أخرى، أستخدمها مسطرة أقيس بها تقلبات الرأي والوضع، لا الأدبي فحسب، بل السياسي أيضًا.

أكانت هذه ورقة ترمب الأخيرة لإيجاد مكان له في لائحة ذهبية في رقعة جغرافية ما، مادام حتمًا يتربع عرش لائحة سوداء ببلده؟

يصف كونديرا لصديقه الفيلسوف العدمي، إيميل سيوران، الذي قدُم آنذاك حديثًا إلى باريس، حماسة المشهد الأدبي لبعض الأعمال والكتاب، ونبذهم لآخرين كانوا قبل وقت قصيرٍ في قلب تلك الحماسة، أناتول فرانس نموذجًا. ويمثّل هذا التقلب في شكل لوائح: لوائح ذهبية لمن يناسبون مبادئ العصر وتغيراته، وسوداء لمن كانوا يومًا مناسبين، فتجاوزوهم ليقفزوا من اللائحة الذهبية لبركة الانتقاد أو أسوأ، غياهب النسيان. 

وإذا كان ترمب يسعى للظفر بمكان في لائحة ما، يحضر اسم نتنياهو قويًا في مسرحية التشريفات، إذ رُشّح -مجددًا!- لجائزة نوبل للسلام على خلفية ضمانه نجاح الاتفاق الإبراهيمي. جاء الترشيح هذه المرة من أول رئيس لحكومة شمال إيرلندا والحائز على الجائزة عام 1998، ديفيد تريمبل. وتقضي قوانين نوبل بأن تأخذ اللجنة هذه التوصية على محمل الجد، لأنها أتت من حائز سابق.

المستقبل المبهم

في الواقع، تغفل معظم الصحف ووكالات الأنباء ما تعنيه زحمة الاتفاقات والأخبار العاجلة وتبدّل المواقف هذه للشعوب والجماعات التي تصيبها مباشرة. وما يبدو كصفقة مربحة للأطراف هو في الأصل فشلٌ في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني من جهة، والذي وإن كانت قضيته تكسب مساندة دولية الآن أكثر من أي وقت مضى، صار يفقد مساندين من الدول العربية واحدًا بعد الآخر.

ومن جهة أخرى، إخفاقٌ مجحف في ضمان حق الصحراويين وسلامتهم. فبالإضافة إلى القمع المتزايد الذي يواجهونه على خلفية الاحتجاجات التي اندلعت منذ الثالث عشر من نوفمبر، على أعقاب احتفال المغرب بالذكرى الخامسة والأربعين للمسيرة الخضراء، يتجاهل قرار ترمب الذي أتى بعد أقل من شهرٍ القوانين الدولية المفضية برفض الاعتراف بشرعية أي استحواذ للأراضي ناتج عن قوة.

ولا تعني الاتفاقية شيئًا للأمم المتحدة المستمرة في رفضها الاعتراف بالسيادة المغربية والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية ككيان دولي مستقل؛ رغم كونها هي الأخرى خذلت بلجانها المتعاقبة الصحراويين في الوصول لأي حل ملموس، وأدت بهذا التعطيل لأكبر أزمة لاجئين بإفريقيا على الأراضي الجزائرية.

هكذا صار التاريخ يكتب التاريخ إذن، موثقًا أكثر من أي وقت مضى في لوائح سوداء وذهبية رمزية، تسطر ما تأتي به التغريدات والقاعات الرئاسية والجوائز المرموقة. وهكذا يبدو المستقبل، مبهمًا أكثر من أي وقت مضى، حينما يتعلق الأمر بحقوق الشعوب في تحقيق المصير.

إسرائيلالصحراءالقضية الفلسطينيةالمغرب العربيالسلطة
مقالات حرةمقالات حرة