فن خلخلة المعنى في قصص «مأساة أن تكون جادًّا»

الكتابة اجتزاءً ذاتيًا من حياة بالغة التعقيد، اجتزاء يتلاعب بالواقع واللغة من طريق رسم علاقات جديدة تجبرنا على الخروج من فقاعة الاعتياد.

قصص البشر / Getty Images
قصص البشر / Getty Images

فن خلخلة المعنى في قصص «مأساة أن تكون جادًّا»

حسين إسماعيل

من أقرب المقولات إلى قلبي ما أورده ميلان كونديرا في كتابه «فن الرواية» حينما وصف الرواية التي لا تكشف جانبًا مجهولًا بأنها رواية لاأخلاقية؛ فجوهر الرواية وعلتها عنده هو في كشفها عن مجهولات الوجود. وعلى رغم ابتذالي لهذه المقولة فإن فكرة الكشف الوجودي مدخل مثالي لفهم مجموعة هاجر سعود القصصية المعنونة بـ«مأساة أن تكون جادًا»، حيث تُطوّع هاجر مختلف التقنيات السردية للتلاعب بالمعاني وخلخلة ألفتنا بها، فكانت النتيجة عملًا يتحدى القوالب والأخلاقيات المسبقة ليجعلنا نراجع علاقة ذواتنا بالعالم. 

تتألف المجموعة من ثلاث وعشرين قصة قصيرة منفصلة ظاهريًا بعضها عن بعض. ففيما عدا القصتين الأخيرتين لا تتشارك القصص أمكنتها ولا أزمنتها ولا أحداثها ولا شخوصها. هناك قصة امرأة تضحي بحياتها الزوجية لتحظى بدورة مياه خاصة بها، وقصة شابة تخطط لما تبقى من حياتها بعدما علمت أن أمامها شهران أو ثلاثة قبل إحكام السرطان قبضته عليها، وقصة طفل يتجاهل الرقم أربعة تمامًا عندما يحصي الأشياء، وقصة لتأملات فتاة ترفض تناول الخيار مع السلطة، فضلًا عن بقية المواقف اليومية التي تلتقطها هاجر بذكاء وتسردها بإتقان. فمن هذا المنطلق تبدو القصص متباعدة ولا يجمعها سوى كونها مشاهد يومية مضمومة بين ضفتي كتاب واحد. 

لكننا لسنا هنا أمام مجموعة قصصية تقليدية تضم كتابات متفاوتة ومتباينة، فالانفصال الظاهري بين قصص هاجر سرعان ما يتهاوى أمام الخيوط التي تحبك ثيمات القصص وسياقاتها؛ فمع أن كل قصة قائمة بذاتها، ترتسم أمام القارئ لوحة جديدة ومختلفة حين توضع إلى جوار البقية. 

قد تكون الخيوط بين القصص ظاهرةً؛ فالشكل القصصي في المجموعة يتكون من عنوان وشذرة تأملية ثم قصة يمكن عدها امتدادًا للشذرة. تبدأ القصة الثالثة مثلًا (الخيار) بشذرة تقول «يا لها من صفقات خاسرة تلك التي نضطر لعقدها مع الحياة والآخرين، والثمن دائمًا نحن». وفي حين تتناول القصة بطلة تتساءل عن الخيار بصفته مكونًا رئيسا في السلطة، فلن يجد القارئ صعوبة في الربط بينها وبين الصفقات والقرارات التي نعقدها يوميًا دون أن نشعر، فتبدو وكأنها جميعها سلسلة من الخيارات التي قد تثمر تارة وتخبو تارة. 

جميع الشذرات التأملية قبل كل قصة مقتبسة من كتاب هاجر سعود الأول «سفر اللامعنى». وأوردت هاجر في مقدمة هذا الكتاب أن المعنى وهم، وأن بحثنا عنه محض هرب من حقيقة كون المعاني ناقصة ومشوهة ومبتورة على الدوام، أي أنه هرب من هوة اللامعنى المحيطة بكل شيء. فلو عدنا إلى «مأساة أن تكون جادًا» لصحَّ وصف كل قصة على حدة بأنها صورة مقطعية لمشهد يومي تزحزح قناعاتنا عن المعاني المحتملة فيه، فكذا تصبح القصة الخامسة (شهران أو ثلاثة) التي تعيش بطلتها مريضة السرطان ذعر اقتراب منيتها نقطة انطلاق لتساؤلات أكبر عن ثنائية العيش في سجن الوقت أو متحررين منه.

وفي مفارقة غريبة ينسل خيط اللامعنى بين السطور فيسبغ على تبعثر القصص معاني متسقة. على سبيل المثال: حين تورد هاجر على لسان بطلتها في قصة «المقابلة» أن الغاية من كتابتها الرواية زعزعة العدسة التي ينظر القارئ من خلالها للأشياء، فليس من الصعب إدراك محورية هذه الفكرة في المجموعة كلها؛ فكل قصة قراءة بديلة لثيمة مألوفة تجعل القارئ يرى الأمور من زاوية جديدة مختلفة. 

ونجد التقنية نفسها تتكرر في قصة «لعبة المعرفة». فإن كان شرط تحررنا التوقف «عن أخذ أنفسنا ومعارفنا والكون بأكمله على محمل الجد» يصبحُ لزامًا على القارئ الذي يريد تعميق فهمه المزاوجة بين جدية الأفكار ومعالجة هاجر لها بأسلوب مائل إلى الهزل.

إذا أردنا إيجاد طريقنا خارج متاهة هاجر اللغوية فعلينا أن نضع نصب أعيننا استهلالية قصة «لص القصص»: «هناك مسافة فيزيائية بين تخيل الشيء وكونه، بين الكتابة والحياة، لا يمكن لأي فن أن يتجاوزها». ليست الكتابة، أي كتابة، إلا اجتزاءً ذاتيًا من حياة بالغة التعقيد، اجتزاء يتلاعب بالواقع واللغة من طريق رسم علاقات جديدة تجبرنا على الخروج من فقاعة الاعتياد. قد تبدو شخصيات «مأساة أن تكون جادًا» مألوفة جدًا لنا، ولكن السرد الذي تجد نفسها فيه بداية رحلة تدمير معانيها


  1. تصدر قريبًا عن دار الساقي رواية «نزوح» للروائي حبيب سروري، وتدور أحداثها في الفضاء. سبق أن رُشح حبيب سروري في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2015 عن روايته «ابنة سوسلوف».

  2. أعلنت دار النشر الأمريكية (Del Rey Books) تراجعها عن نشر رواية «Crown of Starlight» للكاتبة كايت كورين (Cait Corrain) نتيجة لنشرها عددًا من المراجعات والتقييمات المتدنية لكتَّاب آخرين من طريق حسابات وهمية عبر منصة قودريدز.

  3. أصدرت مؤسسة هنداوي نسخة «بي دي إف» رسمية من مختارات «مكتوب: أن تتخيل قصة جديدة لحياتك» للكاتب البرازيلي باولو كويلو.

  4. يصدر قريبًا عن «رقش» للنشر والتوزيع كتاب «حناجر غير عادية: في الخطاب الغنائي العربي وتحولاته» لمؤرخ التراث الثقافي السعودي أحمد الواصل.


من أثير حسن:

  1. صورة دوريان قراي، أوسكار وايلد

    بصيغة كلاسيكية عميقة وجريئة وصريحة في الوقت ذاته ينقل لنا أوسكار وايلد إحدى الظواهر التي تعاني منها إحدى فئات المجتمع: طلب الكمال والمكانة والجمال والثروة التي لا تنتهي. وببراعة قلمه يناقش أهم القضايا الإنسانية التي تؤرق المجتمع، مثل قضية عمر الشباب والخطايا.

  2. ربما عليك أن تكلم أحدًا: معالج نفسي، وحياتنا كما يكشفها، لوري قوتليب

    حينما تشعر بأنك لست على ما يرام تكلَّم مع معالج نفسي يساعدك على تخطي أزماتك وإعادة توازنك النفسي إلى حياتك. من خلال هذا الكتاب الذي بين يديك تستمع إلى قصص المرضى التي تنقلها المعالجة النفسية على لسان مرضاها، تراهم كيف يتحدثون عن أنفسهم وحياتهم ومشاكلهم وكيف يحلونها بمساعدة لوري قوتليب، من خلال تحدثهم وتفهمها لهم.

  3. ماجدولين، مصطفى لطفي المنفلوطي

    رواية ترجمها المنفلوطي ببراعة قلمه وحُسن أدبه وصياغته والبيان الذي عُرف عنه. تحكي الرواية قصة حبيبن تتناوب عليهما ظروف القدر، كاشفةً على لسان أبطالها المشاعر التي يشعر بها أغلب البشر وأفكارهم وقصص حيواتهم.

  4. الأفق الأعلى، فاطمة عبدالحميد

    هي رواية ليست كأي رواية تقرؤها وتنساها، وإنما تبقى أحداثها خالدة في ذهنك بفضل طريقة سردها من خلال بطلها الرئيس «ملك الموت». يصف ملك الموت عبثية الحياة، وأفكار الشخصيات الذين يتشبثون بالحياة غارقين في مخططاتهم، و متناسين الموت الذي ينتظرهم لكي يَلْتَهِم أرواحهم بعد لحظات.

نشرة إلخنشرة إلخلغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.