الانحياز الخفيّ في الرواية

هل ينبغي للرواية أن تخلو من تحيز كاتبها؟ يستكشف مشاري الإبراهيم هذه الإشكالية في معايير الكتابة الناجحة وأخلاقية توظيف الرواية كرسالة خفية.

يقول كاتب الرواية الشهيرة «1984» جورج أورويل:

لا يخلو كتاب من تحيّز سياسي، وأي مطالبة بإبعاد الفن عن السياسة فهي بحد ذاتها موقفٌ سياسي. 

برأيه هذا، يرفع جورج أورويل رايته أمام فريق آخر يحمل شعار «الفن لأجل الفن»، أولئك الذين يُحرِّمون توظيف الفنون لأسبابٍ رِسالية، أكانت سياسية أم اجتماعية أم قِيَمية. ففي أي الفريقين تقف الحقيقة؟ 

عالمٌ منحازٌ بطبيعته 

في كتابه «وكزة» (Nudge)، قدم الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد ريتشارد ثيلر مصطلح «الليبرالية الأبويّة» (Libertarian Paternalism). ويتضمن المصطلح فكرة التوجيهات الخفيّة التي يصدرها الناس لبعضهم بعضًا وتدفعهم بلطف شديد إلى خيارات مُحددة ومنحازة دون وعي منهم. 

فيؤكّد في النهاية، بعد عرضه عشرات الدراسات والبحوث، أنّ كل أفعال البشر وأقوالهم هي بطبيعتها منحازة، بما في ذلك قرارات التزام الحياد. وبعد عرض الدراسات المؤكّدة لتأثّر المرء بأدنى التحيزات في محيطه، يعلِّق ثيلر قائلًا:

لو أظهرنا بعض الأشياء أو محوناها في أي بيئة، سيتأثّر الإنسان. فمثلًا انتشار الحقائب المهنية وغرف الاجتماعات الواسعة في بيئة العمل يجعل الموظّف أكثر شراسة. ولو اشتمَّ شخص رائحة مواد تنظيف فقد ترتفع احتمالية اهتمامه بنظافة المكان.

مع ذلك يرحّب ريتشارد ثيلر بحتميَّة الانحياز الواعي وأخلاقيّته وعمليات التأثير إذا ما التزم الناس بأدبيّات محددة.

حتميَّة انحياز الروائي 

بالرجوع لعالم الرواية، نجد الأديب الناضج يبني كل مشهد بوعي. فيختار أمكنة الأحداث ويرسم أدوار أبطاله ويخلق دوافعهم المعلنة والخفية، ويزرع مواقف أخلاقية لشخصياتها. وهذه كلّها تحيّزات. فالأديب شاء أم أبى يُسطِّر أدبًا متحيزًا يؤثِّرُ في قارئه. 

كذلك تظهر عملية رسم مواصفات «البطل» و«الشرير» وتشكيلها، كانتقاء لون بشرتهما ومعتقدهما الديني أو الفكري وتصنيفهما الاجتماعي، عن انحياز من شأنه التأثير في القُرّاء. وكما ينبعث الدّخان رغمًا عن النار، تنبعث الرسائل الكامنة المنحازة رغمًا عن القصة والرواية.

خذ مثلًا رواية تشارلز ديكنز «آمال عظيمة»، تجدها منغمسة في توصيف عناصر المجتمع وملامحه وواقعه القاتم. في حين يغوص دوستويفسكي في أغوار الشخصيات النّفسية وصراعاتها القِيَميّة في رائعته «الجريمة والعقاب». ويوظّف شخصيَّات روايته «الإخوة كارامازوف» لمحاربة مكوّنات اجتماعية ودينية وسياسية. 

ونجد الانحياز حتّى في ألطف الروايات المتمركزة حول اللغة والشّعر. منها رواية «ساعي بريد نيرودا» التي تحكي عن شاب يتعلّم المجاز ليفوز بقلب فتاة في قريته، إذ يذكر الراوي الحرب الأهلية التشيلية ويتحدث عن انحياز الأحزاب السياسية.

عربيًّا، نرى روايات متألّقة كأعمال رضوى عاشور ومريد البرغوثي وغسّان كنفاني منحازة للقضيّة الفلسطينية. لم تختر هذه الكتابات معارك كبيرة بالضرورة، فقد تنقل مجرد قصّة عجوز تحمل بضائع إلى أهل المهجر. وفي كلمات بسيطة تُشعِرك بحجم الفقد كأنّك تعايشها. 

أمَّا محليًّا، فنحن على موعد مع انحياز شخصيات روايات غازي القصيبي كرواية «شقّة الحرية». فهي لا تتردد في الدفاع عن قَناعاتها السياسية والدينية والاجتماعية.

فمن مزايا العمل الروائي تقديم أفكار كاتبه بأسلوب القوة الناعمة، حيث القارئ مرتاح وغير متأهب، فيتشرب الأفكار بسهولة وسلاسة أكبر. لكن هل يؤثّر بروز المكوّن الرّسالي في الرواية في جودتها أدبيًّا؟ للإجابة عن ذلك يلزمنا بداية تعريف الرواية الناجحة.

ما معايير الرواية الناجحة؟

لا أحسب الجواب سهلًا، وإلا لما اختلف النُّقاد وولدت المدارس النقدية، ولما برزت طرائق كثيرة في كتابة الرواية. وقد تتبَّعتُ هذا السّؤال خلال مطالعتي ودراستي لعدد من الكتب تدور حول هذه المسألة، منها «عن الكتابة» (On Writing) للعبقري ستيفن كنق و«الحقيقة والكتابة» لبثينة العيسى.

كما أمعنتُ النَّظر والفكر في الروايات التي قرأتُها خلال مسيرتي في كتابة رواياتي الثلاث: الوادي المعلّق في السّماء والمدينة المؤقتة وأربعة عقود من اليأس. ويمكنني القول بثقة أن الرواية الناجحة تجمع ثلاثة مكوّنات: شخصيات جذابة وقصة محبوكة ولغة وصفيّة. ولكل واحدة من هذه الثلاث أدبيّات وأساليب لتحقيقها.

فالشخصية الجذابة تخدعك بالظن بحقيقتها؛ شخصية تجبرك على التعاطف معها أو الانفعال لأجلها. وحتى يتحقق ذلك، يبدع المؤلف الماهر صوتًا واضحًا يُمكّنكَ من تمييز هذه الشخصية حتى دونما الإشارة إليها. ويختلق أبطالًا فعالين يَجهَدون لتحقيق هدف، وفي الوقت نفسه يجعلهم بشرًا ذوي عيوبٍ ومزايا ملموسة. بل ويَصِل هذه العيوب والمزايا بحبكة القصّة، فتؤثّر فيها وتتأثّر بها.

أمّا القصّة المحبوكة، فتقدّم حوادث تُغذي القارئ بدرجة من الفضول لإكمال الرواية. ولكل ثيمة طقوس، منها تسريع وتيرة الأحداث وإبطائها، وأحيانًا اختيار التوقيت المناسب لصنع أزمة. وفي أحيان أخرى تعني وضع الشخصيات الساعية لإنجاز مهمة حيوية تحت ضغط زمني.

«نجمة»: غنيمة كاتب ياسين

في روايته «نجمة» يستحضر كاتب ياسين ثنائية الأسطورة والواقع في الجزائر، فيكسر سطوة المستعمر الفرنسي ويجعل من اللغة الفرنسية غنيمته الشخصية.

25 أغسطس، 2021

وأثناء كتابة الأحداث يؤكد بعض المختصين أهمّية البدء بكتابة فصول ذات ارتباط مباشر بالحبكة وتتابُع الأحداث، وترْك أي فصل زائد. كما قدَّم بعض المختصين قواعد مبسطة لهيكلة الرواية، منها «هيكلة الرواية في ثلاث مراحل» (Three Act Structure).

أمَّا اللغة الواصفة، فبحرٌ آخر يعتمد على قدرات المبدع على الإيجاز والبلاغة والتشبيه وصياغة الحوارات المنطقية ذات الإيقاع المتناغم. كما يوصي كثير من المختصّين بالتركيز على مبدأ «أرِني ولا تُخبرني» ، فليس مَن رأى كمَن سمِع. فيقول تشيخوف: «لا تخبرني بأن القمر ساطعٌ نوره، أرني تألق النور على زجاج مكسور.»

الموهبة قبل معايير الكتابة

على الرغم من كل ما قلتُه آنفًا، فالأدب فن وموهبة قبل كل شيء، وليس علمًا بالمعنى الحرفي. لذلك كل ما ذُكر أعلاه أعرافٌ تواطأ عليها بعض من حاولوا تبسيط هذه الصَّنعة.

ولو تتبّعنا بعض الأعمال الخالدة، كروايات دوستويفسكي، نجدها قد حطمت أغلب هذه الأعراف. فرواياته تستطرد في أمورٍ لا تضيف شيئًا للحبكة، وتقدّم حوارات تشبه الخطب الرّنانة، وتمنح شخصيات ثانوية مساحة كبيرة من الرواية حتى إن لم تخدم أحداثها أو حبكتها.

الشّاهد أن هذا الروائي العظيم شبه كسر كل شروط الرواية الناجحة. ومع هذا يأسِر قلوب الناس بتقديمه شخصيات حقيقية مضطربة مدهشة يودُّ القُرّاء قضاء قدر أكبر من الوقت معها. 

ومن طرائف الأمور في هذا السياق، أن رواية «سيد الخواتم» للكاتب جى. آر. آر. تولكين، المنتشرة منذ خمسينيات القرن الماضي انتشار النّار في الهشيم، انقسم كبار النّقاد حولها، بل لا يزالون منقسمين. فبينما وصف الناقد الأميركي المخضرم إدموند ويلسون الرواية بـ«قمامة مراهقين» وخيال تولكين بالـ«العقيم»، رأينا كثيرين غيره يُصنِّفون العمل كأفضل نتاج القرن العشرين. 

لا ريب سيتحيَّز الروائي في عمله، ويظل السّؤال المهم: هل سيتحيّز برشاقة أم بشكلٍ فج؟ فقد فشلت كثير من الأعمال الرّسالية بسبب تغليب كاتبها للبُعد «الرّسالي» على معايير الرواية النّاجحة؛ مما يوقعه في مجموعة من الأخطاء.  Click To Tweet

ففي الروايات السياسية مثلًا قد يستبدل الحوارات العفوية المنطقية بخطب سياسية ليسوّق أفكاره. وفي الروايات القِيَميّة قد يهمل مؤلفها خلق شخصيات جذّابة فتتحوّل شخصياته إلى سطحية مكرّرة تشيطن الأعداء وتمجّد الأنصار. وفي الروايات التاريخية قد يترك صياغة سلسلة أحداث مشوقة تشدّ القارئ ليُقدّم سردًا علميًّا أرشيفيًّا مُملًّا لحقبة تاريخية.

وفي الروايات الدعوية قد يبالغ في تقييد أدوات الكتابة ليصوّر أحداثًا أو شخصياتٍ طوباويّة لا تخطئ ولا يزلّ لسانها.

مع ذلك لدينا نماذج واضحة للروايات الرسالية الناجحة التي يمكن تحليلها من خلال معيارين: الرسالة الصريحة والرسالة الرمزية. 

هل ممكن نجاح رواية الرسالة الصريحة؟

في الرسالة الصريحة يسوِّق الكاتب لرسالته بشكل جَلِيٍّ، ومن الممكن نجاح الرسالة إذا ما سُيِّجتِ بقصّة محبوكة واكتملت أركان الرواية. ففي رواية «شيفرة دافينشي» لم يتردد المؤلّف في شنِّ حرب على الكنيسة، لكنّه خلق سياقًا قصصيًّا ملائمًا دعمه بشخصيات عميقة، وجمَّلها بأحداث مثيرة مشوقة. 

وعلى النقيض من ذلك، نجد أعمالًا كرواية «حي بن يقظان» لابن طفيل «قصّة الإيمان» للشيخ نديم الجسر تسعى إلى تقديم تأصيل فلسفي لوجود الله ودور الدِّين في العالم وتفتقد لأركان الرواية الناجحة. مع ذلك حققت رواجًا وانتشارًا، وإن كان ذلك يُعزى إلى كونها روايات لم تُسوّق على أنَّها نصوص أدبيّة بل كنصوص فلسفية بالدرجة الأولى، وأدبية بالدرجة الثّانية. 

واجهت هذا التحدي عند تأليف روايتي «أربعة عقود من اليأس». فقد أعدتُ فيها صياغة «حي بن يقظان» و«قصّة الإيمان» على لسان لقيطٍ يبحث عن الانتماء في عالمٍ يرفضه، فيجده لدى امرأة مهاجرة في هولندا. هي قصّة مغترب في وطنه، ومواطن في أرض غربته، حيث يجد بطل القصَّة نفسه يجدّف وسط موجٍ عاتٍ من الأسئلة حول وجود الله وأصل الدين وحقيقة القضاء والقدر وعلاقتنا بالله.

واكتشفتُ من خلال مراجعات القُرّاء أن مَن قرَأ الرواية بحثًا عن بُعد روائي قيَّمها تقييمًا متوسّطًا. ومَن قرَأها كنصٍّ يبحث في تلك الأسئلة الصَّعبة وجد فيها كلماتٍ تؤثر فيه. مع ذلك، تفطنتُ لأهمّيّة تغليب الجانب الأدبي الفنّي إذا كنتُ جادًّا في ولوج عالم الأدب.

النقد الصريح في الرسالة الرمزية

تعني الرسالة الرمزية قدرة مبدع العمل على إيصال رسالته تلميحًا لا تصريحًا؛ إذ كلّما كان التصريح حاضرًا كانت رسالية الرواية أظهر. وفي النقد الاجتماعي والفلسفي تتميّز ثيمة الخيال والخيال العلمي بخصوبتها في إنتاج أعمال فلسفية. فإما يخلق الكاتب فيها مدينة طوباوية أو عالمًا ديستوبيًّا يطغى فيه نمطٌ اجتماعي أو قناعة محط انتقاده. 

أمثلة هذا النوع أكثر من أن تُحصى كرواية «1984» لجورج أورويل و«نحن» لزامياتن يفجني. وأيضًا «المعطي» (The Giver) للويس لوري التي تتناول قضية الصراع القائم بين الحرية الفردية والمصلحة الجمعية من خلال عوالم خيالية.

وعربيًّا، لدينا الأديب العبقري نجيب محفوظ في روايته «ابن فطّومة». عن رحَّالة هجَر بلاده بعد فشله في الزواج ممن أحبها إلى ديارٍ بعيدة بحثًا عن الكمال والعدالة المفقودين في بلاده. وعلى غرار السندباد البحري، يمرُّ ببلاد تُحكَم بطرق مختلفة، ليُقدّم لنا نقدًا لفلسفات الحكم.

غير أنّ نجيب محفوظ لا يغفل عن وضع خيط ناظم للأحداث من خلال الشخصية الرئيسة. كما سيعتمد الترميز السياسي والديني مجدّدًا في روايتيه «الحرافيش» و«أولاد حارتنا». وامتاز كتّاب عرب آخرون إلى جوار نجيب بالرمزية، منهم أحمد خالد توفيق في روايات الخيال والخيال العلمي كرواية «يوتوبيا».

أصالة تأويل القارئ لرموز الرواية

من أبرز مزايا النصوص الرّسالية الرّمزية سماحها للقارئ بالخروج باستنتاجات إضافية لم تخطر للكاتب نفسه في الحسبان. من هنا يستخدم المختصّون عبارة «بعض النّصوص أذكى من كُتّابها». 

ففي الرواية الرّمزية «الوادي المعلق في السماء» التي نشرتُها عام 2018، فوجئت بتحليلات واستنتاجات دونما قصدٍ منّي. فقد ربطوا الأساطير والأحداث التّاريخية برموزٍ وضعتُها في الرّواية لأسباب أخرى. لذلك تمنح النصوص الرّسالية المرمّزة مساحة إضافية للقارئ ليشارك الكاتب في إيجاد معنًى للنص ومغزًى للأحداث.

لا تقل الأعمال الرّسالية روعة عن غيرها، وقد تتفوّق إذا تمكن الرّوائي من تمرير الجانب الرّسالي بشكلٍ رمزي يُشرِك القارئ في عملية تفسيرها. واليوم، أنشر روايتي «المدينة المؤقّتة» التي تسعى لتقديم معايير الرواية الناجحة على الجانب الرّسالي. وتساهم أيضًا في صنعة رواية عربية تسوِّق لثقافتها من خلال إسقاط عالم من الخيال العلمي على عالمنا الماثل أمامنا لننظر إليه من زاوية أخرى.

في النهاية، يُصوّر قلم الكاتب الناضج كل مشهد بوعي. فيتخير أماكن الحوادث ويُشكل شخصيات الأبطال ويخلق المحفزات الخفية والمعلنة ويبني مواقف أخلاقية لشخصياتها. وهذه كلّها انحيازات. 

فإذا كانت شروط الرواية المتقنة لا دخل لها برسالة مبدعها، وإذا كان الكُتَّابُ جميعًا متحيزين، وبالتبعية رواياتهم كذلك، فلمَ نخجل من التحيّز لتصوّراتنا عن العالم والإنسان والحياة؟

الأدبالرواياتالكتابةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية