التعافي بالشعر في مواجهة «صواديف الأيام» ❤️‍🩹

جُبلت الحياة على المكاره. فالإنسان يصادف ما يشقيه لا محالة، ولا شيء يبقى على حاله، ويستطيع أغلب البشر تجاوز معاناتهم، فهذه طبيعة البشر والحياة، لكن بعض الخطوب تبقى حسرات في القلب.

عندها لا يبقى للإنسان إلا الصبر، والسير في طريق طويل هدفه «التعافي»؛ واستخدم مصطلح «التعافي» بتحفظات لرواجه في سياق التعاطي مع «صواديف الأيام»، أي ما يصادفه المرء في حياته من فقد وموت ومرض وخذلان وغيرها من طبائع الحياة وأقدارها.

التعافي هنا لا يعني الشفاء من «صواديف الأيام» وما تبقيه في النفس من أثر؛ فهذه الحوادث تخلق وشومًا في النفوس لا تزول. ولكن التعافي هنا يعني «السلوان»، ولكل إنسان طريقته في السلوان؛ فهناك ردة الفعل الأولية بالغضب أو الانكفاء حزنًا، أو النموذج الشهير لطبيبة النفس السويدية إليزابيث كويلر روس «الإنكار ثم الغضب والمساومة والاكتئاب وأخيرًا التسليم أو التقبل». 

وبعيدًا عن هذا النموذج الذي يفترض المراحل التي يمر بها الإنسان في تعامله مع «نكبات الأيام» هناك أدوات متعددة يلجأ إليها البشر عادة على اختلاف ظروفهم وثقافتهم، منها اللجوء إلى الدين أو المجتمع أو الطب النفسي أو الحديث عن تلك المصائب (الفضفضة) أو الانشغال عن المصائب باللهو. وهنا سأتحدث عن طريقة واحدة للسلوان أزعم أن لها أثرها وجمالها وتشكل جزءًا من حياتنا وثقافتنا العربية. أتحدّث هنا عن الشعر، فصيحه وشعبيه، فهو أيضًا أداة للسلوان في خضم نكبات الدهر. 

إذا تجاوزنا النقوش (الأركولوجيا) للحديث عن ثقافة العرب وتاريخهم أو ما كتب الآخرون عنهم قبل آلاف السنين، فلا نجد توثيقًا لحياة العرب قبل الإسلام غير «الشعر» باستثناءات لا تُذكر، الشعر الذي صبغ الثقافة العربية بصبغته إلى يومنا هذا، ولا نجد ملامح لثقافتنا إلا ما تناقلته العرب كابرًا عن كابر من شعر وقصائد ومعاني منثورة تشرَّبها الشعر فصيحه وشعبيه. 

ولأهمية الشعر عند العرب حُددت سبع أو عشر من القصائد الطوال لتكون «المعلقات»، التي وإن اختُلِف على عددها وسبب تسميتها فإنها جزء من حاضرنا، وتُقدّم حولها عروض أدائية ومسرحية، ويجري الحديث عنها في البودكاستات والبرامج التلفزيونية، ويستشهد بها الناس في أحاديثهم اليومية.

وفي سياق السلوان يحقق الشعر ثلاث وظائف: التعالي على المصيبة، والتعاطف وفهم مشاعر الآخرين وانعكاس هذا الفهم على مشاعرك، والتماهي مع الآخر حتى كأنه يحكي حالك ومصابك. الوظيفة الثانية والثالثة متداخلتان، إلا أنهما تتباينان بين أن يصف لك هذا البيت شعورًا لم تنتبه إليه أو يصف ما تشعر به بالضبط. 

فالتعالي على نكبات الأيام والترفع عنها يأتي عبر وضع المصيبة التي تواجهها في سياق أوسع للحياة ينهل من حكمة الأوائل وتجاربهم. فمهما عَظُم ما تواجهه فهو في النهاية طبيعة للحياة، والإيمان بحتمية «صواديف الأيام» قد يساعد على احتوائها واستصغارها.

يقول طرفة بن العبد عن حتمية الموت الذي تهون دونه كل مصيبة:

أرى الموت يعتام الكرامَ ويصطفي

عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشددِ

أرى العمرَ كنزًا ناقصًا كل ليلةٍ

وما تُنقص الأيامُ والدهرُ ينفدِ

لَعَمرُكَ إنَّ الموتَ ما أخطأَ الفتى

لَكالطِّوَلِ المُرخَى وثِنْياهُ باليَدِ

ويقول رهين المحبسين أبو العلاء المعري عن تشابه حال الأيام: 

من كان يطلبُ من أيامهِ عجَبًا 

فلي ثمانون عامًا لا أرى عجَبَا

الناس كالناسِ والأيامُ واحدةٌ 

والدهرُ كالدهرِ والدنيا لمن غلبا

ومن الشعر الشعبي يقول بديوي الوقداني في المعنى نفسه:

أيام في غلبها وايام نغلبها

وايام فيها سوى والدهر ميالي

أما الوظيفة الثانية فهي «التعاطف»، وتتضمن فهم ما يشعر به الآخرون وانعكاسه على فهمك لمشاعرك، أي محاولة رؤية الأمور من زوايا مختلفة تغيب عنك لحظة المصيبة، وهي وظيفة يحققها الشعر؛ فأنت لست وحدك من يعاني.

يقول مساعد الرشيدي عن ضياع الإنسان في متاهات أفكاره في وصف دقيق جميل: 

من بارحة لأولى وأنا أودي وأجيب

طواري منها شعـر راسـي وقـف

تزاحم الضيقات بالصـدر الرحيـب

نفتح ملـف الهـم ونقفـل ملـف

ويقول ابن الرومي عن الفقد والشوق:

ستألفُ فقدان الذي قد فقدتَهُ

كإلْفكَ وجْدانَ الذي أنت واجدُ

على أنه لا بدّ من لذْع لوعةٍ

تهبُّ أحايينًا كما هبَّ راقدُ

فالشوق بعد الفقد قدَر، وإن كانت ألفة الفقد والإيجاد من سنن الحياة، وهذا مما يُهدي شيئًا من السلوان. 

والوظيفة الثالثة التي يؤديها الشعر في سياق التعافي والسلوان هي «التماهي»، وهي وظيفة عذبة رقيقة، أعني بها قراءة وصف أو محاكاة لما تشعر به في داخلك، فكأن الشاعر أنت وما قاله يصف حالك، وهو ما يسمى في الأدب العربي بـ«التمثل بالشعر». فعندما تغلي نفسك مما أصابها وتعجز عن الوصف ستجد بيت شعرٍ يصف الشعور الذي تضطرم به روحك. 

يقول عبدالله ابن عون في استفراد الهموم بالإنسان: 

وقلبٍ يخمنه هواجيسه افوات

مثل الطيور الجارحة لاتهاوت

وسبقه امرؤ القيس في المعنى نفسه:

وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَهُ

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فشبّه ابن عون الهموم التي تداهم الإنسان بانقضاض الطيور الجارحة على فرائسها، أما امرؤ القيس فشبّه الهموم بأمواج البحر التي لا فكاك منها. 

فليس لنا في هذه الحياة إلا البحث عن التعافي والسلوان، بطرقنا، لنتجاوز الشقاء والألم والجزع، ولنواصل السير في محطات السعادة واللذة والسلوان. 

يقول كثيّر عزة: 

فإن تسلُ عنكِ النفس أو تدَعِ الهوى

فباليأس تسلو عنكِ لا بالتجلّد

ويقول سعد بن جدلان:

خلوني أسجّ عن موضوعه أحسن لي

وإلا الغلا والله ان يبطي وهو غالي

Bloomberg

The World’s Most Online Male Gymnast Prepares for the Paris Olympics

Axios

"Quiet vacationing" is the new holiday trend at work